الفصل التاسع عشر

كان يراهم آرثر من حيث لا يرونه؛ فهو كالطيف، لا يعرف هل هو كائن هلامي كالجن يسكن معهم؟! هل هو في عالم موازٍ لهم؟ أم العكس هو الصحيح وهم من يسكنون عقله! فجأة جالت في خاطره نظرية غريبة لا يعرف من أين أتته، ولكنه هاتف خفي يصدح صداه داخل أذنيه ويقول له:
-  ربما نحن أموات، وما يدريك أننا على قيد الحياة؟ ماذا لو نظرت في المرآة ولم تجد انعكاسك؟ هل ستقول بأنك جننت؟ أم ستظن أنك ميت؟ تلك نظريات افتراضية، ولكن من الحكمة أن تعرف بأنه من الأساس لا توجد مرآة.
نظر ثانية إلى نفيسة وماجد فوجدهم منغمسين فيما يفعلونه، يراهم ولكن بالنسبة لهم فهو غير مرئي، كان البيت قطعة من الفردوس؛ مقتنيات ذهبية هنا وهناك، تحتل صالة البيت ديكورات قديمة جدا ذات قيمة.. وكأنها متحف أثري، رغم أن كل شيء به جديد جدا؛ الجرامافون الذي تعالت عليه أغنية "يا مسافر وحدك".
تركت نفيسة حضن ماجد وأسرعت لتحضر كوبين من العصير في صفحة ذهبية، وفجأة انقلب كل شيء، دق الباب حينها، شهقت نفيسة وأسقطت صفحة العصير أثر ارتباكها، دق الباب ثانية وثالثا، ‏فأجابت بصوت مكتوم:
-  من الطارق؟
سمعت صوت حسنة من خارج الباب:
-  أنا حسنة يا سيدتي، أريدك في أمر هام.
قال ماجد بتلعثم وفزع:
-  إنها زوجتي، تبا لسوء الحظ.
‏فتحت لها الباب، فاندفعت حسنة للداخل تنظر يمينا ويسارا تبحث عن شيء ما، ‏فجأة قالت:
-  أين ماجد؟ لقد دخل هنا منذ أكثر من نصف الساعة، لقد رأيته بأم عيني.
قالت نفيسة:
-  أجننتِ أيتها البلهاء؟ وماذا قد يفعل زوجك عندي؟ كما تعرفين ماجد يعمل في متجر زوجي ويأتيني كل يومين باحتياجات البيت ويرحل سريعا.
تجاهلتها حسنة، فاندفعت تقتحم غرفة تلو الأخرى باحثة عن ماجد، ولكنه اختفى، نظرت إلى نفيسة نظرة نارية، حاولت كتم غيظها ولكنها غمغمت قبلما ترحل بأنها لن تتركها سالمة أبدا حين تراها معه.
انتهي المشهد من أمامه ليجد نفسه يجلس كما كان في الحديقة، ولكن تلك المرة يوجد رجل يبدو عليه الوقار، سأله عن المكان، ولمَ هو به، ابتسم ثم قال:
-  أنت في البعد الآخر يا بني.
تساءل بداخله: أحقا؟ هل أصبحنا أموات؟ ولكن إذا كنا قد فارقنا الحياة فلمَ لا أتذكر أي شيء عن نفسي؟!.
سأله:
-  هل نحن بالجنة! أم في مرحلة انتقالية بين الدنيا والآخرة؟
ابتسم بتؤدة ثم قال:
-  لا لا، لا بد وأنك لم تفهمني، ما زلت بالدنيا يا ولدي، ولكن روحك تعبث خارجها، كل ما أستطيع أن أخبرك به أنك بأمان، كما أخبر شعيب موسى من قبل "نجوت من القوم الظالمين".
سأله:
-  ولكن لمَ الجميع هنا لا يتكلمون؟ لماذا أنت دونًا عن الجميع أجبتني؟
فأجابه والابتسامة ما زالت على محياه:
- ولماذا تظن أن هناك أناس غيرك هنا؟ لربما لا يكون لهم وجود سوى بعقلك.
- معذرة، ولكن كيف؟!.
- سأخبرك أمرا وهو ألا تثق دائما بما ترى، أنت الآن ترى نفسك داخل حديقة خضراء ذات أسوار عالية، ولكني لا أراها هكذا، ربما أنت نائم وتحلم بكل ذلك.
- نائم؟!
- وما أدراك أنني أمامك؟ لربما كنت مجرد شخص جسَّده عقلك الباطن ليتغلب على وحدته الموحشة، حاول أن تميز النور من الظلام حتى تستفيق وتعرف الحقيقة، ‏انظر إلي جيدا، حاول أن تتلمس وجهي، حاول أن تصرخ لتكسر الحاجز الهلامي بينك وبين الدنيا، حاول الخروج من مسارك الخفي لمسارك الحقيقي.
مد يده تجاهه ليلمسه فاخترقت وجهه واختفي من أمامه كالطيف، ولكنه قال:
-  ابحث عن ذاتك داخل خزائن عقلك، لا تستسلم أبدا، لربما تعرف من أنت.
ظل ينادي عليه:
-  أيها الحكيم أين ذهبت؟ أين أنا؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي