الفصل الرابع عشر

نظر لها لثواني وهو يتابع اهتمامها التام لكل كلمة يقولها، ثم تحدث بثبات وثقة:
-  ماذا لو عرفتِ أنكِ واحدة أخرى غير التي تعرفينها؟ وأن كل شيء تعيشينه مجرد هباءً منثورًا؟
لمح عقدة حاجبيها فابتسم متابعًا:
-  أعرف أنكِ لا تفهمين ما أقصد، ولكن أخبريني هل تتذكرين أي شيء حدث قبل اليوم؟ بداخلك تظنين بأنك مجرد قاتلة، قتلت كل من حولها، تبغضين كل شيء، ولكنك لا تعرفين الحكاية الحقيقية التي أوصلتك إلى ما أنتِ عليه الآن، هذه الحديقة كيف وجدتِ نفسك فيها، لقد جعلتك ترين حكايتك كاملة حتى أزيل عنكِ تلك الذكريات وأبدلها بذكريات تستحق.
نزلت كلماته عليها كالصاعقة، هي ترى نورًا ينبعث منه، تعرف أنه ليس بشيطان وإنما ملاك منزل من السماء، نظرت له والحيرة ترتسم على قسمات وجهها، ثم قالت:
-  أخبرني كيف؟
-  سأخبركِ وأتمنى أن تستوعبي ما سأقوله؛ لأنه ربما تظنين أن ما سأخبرك إياه محض أكاذيب.
أومأت له، ليزفر زفرة قوية وبدأ حديثه موضحًا:
-  عند خروج الروح من الجسد تظل هائمة في الملكوت بضع سنين، حتى يتسنى لها العودة، ولكن بعد دورة كاملة في الملكوت تتعدى المائة عام، وحين تعود تبدأ حياة جديدة، ولكن في جسد آخر.
ازدادت حيرتها، وزمت شفتيها كما لو أنها لا تصدق ما يقول، لم تتفوه ببنت شفة حتى أكمل قائلًا:
-  ألم أقل لكِ بأن حديثي سيصعب عليكِ تصديقه؟ ولكني لن أخبرك، أنا سأريكِ الحقيقة، وسأجعلك تتعايشينها، وعندما تعودين سيكون اليقين هو زادك ومستقرك.. لقد أخبرتك بأنكِ وعنق ابنة حواء شخص واحد، لقد تزوجتِ قابيل، وأنجبتِ ذرية عظيمة الهيئة، ولكن أبناء شيث أبادوا أبناءك، لقد عم الفساد الأرض، سأريكِ ما حدث، وحينها سيكون القرار قرارك بعد عودتك من تلك الرحلة.
اقترب منها أكثر، وضع يده على رأسها، تمتم ببضع كلمات، فأغمضت عينيها على أثرهم، شعرت وكأن الأرض تتلاشى وتندثر، تتبدل الأرض من تحت قدميها بسرعة رهيبة لتستقر قدميها بداخل غرفة واسعة الحجم، عظيمة الارتفاع، فلقد كانت الغرفة منغلقة على نفسها حتى أنها بلا أي منافذ للتهوية، وكأنها صندوق خشبي.. يجلس رجل خلف مكتب خشبي في منتصف الغرفة، ويزفر بضيق وهو يحاول بكل السبل التأثير على المتهم الماكث أمامه ليعترف بالتهمة الموجهة إليه، ظل المتهم يبتسم بخبث وكأنه يوقن بالبراءة! كشاف صغير موضوع أمامهم يعكس إضاءة ضعيفة ليجعل وجوههم مرئية وكأنها شاحبة ككائنات "الزومبي".. كتم المحقق غيظه، ثم استطرد قائلًا:
-  أخبرني يا كرام.. لقد كنت طبيبًا بمستشفى الأمراض العقلية، ولم تحقق أية نجاحات مع المرضى، بل شهد زملاؤك بأن كل من تابعتهم تمت إصابتهم باضطرابات نفسية، وفقدان للذاكرة، والبعض منهم ظنوا أنهم أشخاصًا آخرين، لمَ ساءت حالة مرضاك جميعا؟
لم تنطفئ ابتسامة كرام الخبيثة، تمعن النظر في المحقق آرثر، ثم أجابه قائًلا:
-  حسنا سأخبرك يا عزيزي آرثر، ولتسجل كل ما سأقوله لأنني غير متهم بالمرة، وإنما صاحب رسالة سيتذكرها الأجيال، ستدرس في الكتب الأدبية، بل سيأتي يوم ما سيحملني فيه القراء فوق أكتافهم.
نظر له آرثر بسخرية، وكاد أن يقول شيئًا فقاطعه كرام مكملا حديثه:
-  لا لا لقد أسأت الفهم، لا أقصد هؤلاء الذين سيقرؤونها الآن بدون فهم وكل غايتهم هي البحث عن المتعة داخل وريقات وردية، ولكني أقصد الذين يحاولون فك الطلاسم، هؤلاء فقط هم من يستحقون أن أدخلهم حيث ولجت في عقول مرضاي؛ ليعرفوا الذات البشرية.
ابتسم ابتسامة ساخرة وهو يسأل:
-  لمَ فغرت فاهك؟ ألا تفهم أنت أيضًا ما أقصد!
عاد بظهره لظهر المقعد الذي يجلس فوقه، ثم تابع:
-  حسنًا سأحاول أن أتباسط مع عقلك البالي وأفهمك ما لم تسطع عليه فهمًا.
نظر له باستخفاف ثم أكمل قائلًا:
-  حين خلق الله آدم من طين اقتحمه عزازيل وتغلغل في جسده وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، لم يستطع أبدًا أن يتوغل داخل قلبه، وتلك كانت نقطة الضعف، أو كما يقول البسطاء: "القشة التي قسمت ظهر البعير".
ابتسم بمكر ثم أكمل:
-  معذرة في القول.. والآن سأخبرك أمرين؛ أولهما السبب في ثانيهما.. أعرف أن عقلك البشري لن يستوعب أي شيء مما سأقول، ولكني مضطر أن أقوله..‏ الجحيم تُبنى ‏قطعةً قطعة، ‏آجرّة بعد آجرّة ‏من حولك، ‏إنها عملية غير سريعة.. ‏بل تدريجية، نبني ‏جهنمنا ‏الخاصة، ‏ونلومُ ‏الآخرين.. ألا أخبرك عن جحيمنا الأبدي؟ هو فقط أن تسأل، إن لم أخبرك فستقع في جحيم الفضول، وإن أخبرتك فسيقتلك جحيم المعرفة.. ‏الآن سأخبرك شيئا أهم، وأنت ستحدد في أي فريق ستتحد، ولكني أريدك أن تغمض عينيك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي