الفصل الثاني والعشرون

عم السكون أرجاء الأرض، الجميع يسيرون منكسي الرأس، لا أحد يفهم أي شيء مما يحدث، الدخان سيد الموقف، والشمس أبت أن تشرق، والظلال تغطي الأجواء، صوت عالي يردد من باطن الأرض:
-  سيمر الأسياد عبر الظلال.. فلتركعوا، أن تدبروا وتنفروا لن تُرحموا، الموت الأسود هو مصيركم، والرحمة لم تكتب لكم.
أطياف سوداء متشابهة تمر عليهم، فيركع كل من يقابلهم وكأنهم عرائس ماريونيت، صوت انفجار عظيم يدوي بالمكان ليخلف حفرة عظيمة، الجميع يقترب من الحفرة وينظرون بداخلها علهم يرون شيئا.. ولكن بلا جدوى، نور ينبعث من داخلها ليعكس ضياءه على الحضور، ليخرج منها الرجل الحكيم، ينظر إلى الحضور بشفقة، ثم يهتف قائلا:
-  لقد بقيتم كثيرا في الظلام، تاهت عقولكم، وأظلمت قلوبكم، الأرض الوسطى سقطت، والقرآن رُفع، أترون ذلك النور المنبعث مني؟ ذلك النور سيبعث من جديد في قلوبكم، لستم بمجانين، وإنما سمم الشياطين عقولكم، أغمضوا أعينكم واقرأوا معي العهد، ولا تلتفتوا خلفكم مهما حدث.
أخذ يتلو عليهم العهد بصوت مسموع، والجميع يرددونه خلفه:
-  باسم سكان الأرض الوسطى، نعلن اتحادنا الأزلي مع كافة الممالك، سيكون ولاؤنا للمخلص العظيم، سنسقط عزازيل وأشباهه في الأراضين السبع، حم لا ينصرون، حم والكتاب المبين، تفرق أعداء الله، وبلغت حجة الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
خرج نور كثيف من باطن الحفرة، ليصل إلى عنان السماء، الظلام ينقشع رويدا رويدا، خيوط من ضوء الشمس تتسلل عبر الظلال لتنير قلوب الواقفين حول الحكيم، يشعرون بأن الشمس قد أيقظت عقولهم من سباتها الخالد، ينظر لهم الحكيم بابتسامة ثم يقول:
-  لقد كنتم في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنكم غطاءكم فبصركم اليوم حديد، والآن مبارك لكم، والآن تنفسوا هواء الحرية.
يظهر من خلالهم آرثر، يقترب من الحكيم وينظر له وهو يبتسم، ثم يقول:
-  أنا أعرفك، لقد تسلل نورك عبر الظلام ودلني، أعرف أن هناك ستة أشخاص يشبهونني، لقد رأيت أفكارهم، لقد شعرت بمعاناتهم، إن عزازيل أقام اتحادًا مع أشباهه الستة، ولكل شيطان أشباه مثله، وما أكثر الشياطين.
رد الحكيم له الابتسامة، ثم قال:
-  أهلا بالمخلص العظيم، كنت أعرف بأنك لن تقع في الظلام مهما حدث، لقد كان اختيارك موفقا جدا من السماء، لن تسقط الأرض ما دمت بها، عليكم جميعا أن تعرفوا بما يدبر الشيطان لكم حتى تدعوه.
قال آرثر:
-  لقد تذكرت شيئا، اليوم الذي سقطنا فيه جميعا كان بسبب ذلك الخطاب الذي نشرته كافة الجرائد.
أغمض الحكيم نصف عينه، ثم طلب منه أن يخبره عن أمر الخطاب، شعر آرثر بالقلق؛ فهو يخاف أن يقع ثانية أسير الظلام بعدما تحرر منه، فهم الحكيم ما يفكر فيه آرثر، فقال بلهجة مطمئنة:
-  لا تقلق؛ فأنت الآن في حضرة الملائكة، والشياطين لا تجالسنا؛ فهم يخافون الاقتراب.
نظر له آرثر والدهشة تعلو محياه، ثم قال:
-  هل أنت من الملائكة؟!
قال الحكيم:
-  "وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
صمت لثوان، ثم تابع موضحًا:
-  أنا هاروت؛ الملك المكلف بتعليم الناس السحر، لما رأينا ما يصعد إلى السماء من أعمال البشر في زمن النبي إدريس قلنا لله: "إن الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم يعصونك" فقال تعالى: "لو أنزلتكم إلى الأرض وأدخلت فيكم الشهوة كما أدخلت فيهم لعصيتم مثل ما عصوا". قلنا: "سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك" قال تعالى: "انتم أصلح الملائكة وأعبدهم، سأنزلكم الأرض ولتروني ماذا تفعلون."
تنهد الحكيم قبل أن يتابع:
-  لقد كان اسمي "عزًا" واسم ماروت "عزايا" فغير الله أسماءنا بعدما أخطأنا، لقد كُلفنا من الله أن نحكم بين الناس بالحق، ونهانا عن الشرك والقتل بغير الحق، والزنا، وشرب الخمر.. فكنا نقضي بين الناس نهارا.. فإذا أمسينا ذكرنا اسم الله الأعظم وصعدنا إلى السماء، فما مر علينا شهرًا حتى أصابتنا الفتنة، وذلك أنه اختصم إلينا امرأة اسمها الزهراء، وكانت من أجمل أهل بابل، فلما رأيناها أخذت بقلوبنا، فقلت لماروت: "هل سقط في نفسك مثل الذى سقط في نفسي؟" فقال: "نعم" فراودناها عن نفسها، فأبت وانصرفت، ثم عادت في اليوم الثاني، ففعلنا مثل ذلك، فأبت إلا أن نعبد صنما حجريا صغير الحجم كان بحوزتها، ونقتل نفسا بشرية، ونشرب الخمر، فقلنا لا سبيل إلى هذه ‏الأشياء؛ فإن الله قد نهانا عنها، فانصرفت، ثم عادت في اليوم التالي ومعها قدح خمر، وما زال في أنفسنا من الميل إليها ما فيها، فراودناها عن نفسها، فعرضت علينا ما قالت بالأمس، فقلنا الصلاة لغير الله شرك عظيم، وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربنا، فلما انتشينا وقعنا بالمرأة فزنينا بها، فرآنا إنسانًا فقتلناه خوفا من الفضيحة، ولكننا لم نرضى أبدا أن نسجد لصنم من دون الله.. فكان عقابنا أن نمكث في الأرض حتى يسقطها الشيطان، ونساعد المخلص العظيم حتى يسترد الأرض ويرجع لها نورها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي