الفصل الثاني

شعر بأن عينيه تغمض رغمًا عنه، كلمات تتسلل عبر عقله، بدأ في تأويلها وهو يسجد بحركة ميكانيكية دون تفكير وكأنه إنسان آلي:
-  سبح باسم ربك الأعلى، علام الغيوب، وربي الأسفل مقلب القلوب، إلهي لك أنبنا وعليك توكلنا.
تعظم حجم الدخان، وصنع دوامات كادت أن تبتلعه، تشققت الجدران مع هسيسه المتسلل عبر عقله وهو يقول:
-  الآن نجيبك على ما لم تسطع عليه فهمًا، خُلقت الدنيا في ست ليالٍ، وأتمها القدير بالسابعة، وفوق السبع ثلاثة: يوم خلق آدم، ويوم السجود، والأخير يوم العصيان.. فالدنيا عشر، البداية والنهاية عشر.. ولا تقوم الساعة إلا على عشر.. أنت تريد أن تعرف من أنت، حسنًا.. سنسافر سويًا لسبعِ ليالٍ تعرف فيهم الحقيقة، لربما تنتقم ممن تسببوا في تشتيتك إلى هذا الحد. ستكون رحلتك عابرة من بابٍ إلى باب كرحلة نوح النبي، سترى ولا تُرى، وتمشي في الثرى دون أن يلمحك أي كائن، وكأنك غمامة شفافة لا تأبه السماء لها.
شعر بأن عقله يسبح عبر خاش خانات حلزونية، توقف الزمن عندها وعقله يدور به، حبس أنفاسه حتى لا يصاب بالغثيان إلى أن شعر بأن قدميه استقرت به، فتح عينيه ليجد نفسه في الصحراء، ولمح في الأفق البعيد بضعة ألوف من الضواري يصطففن خلف بعضهن وكأنهن ينتظرن إشارة للانقضاض على أحدٍ ما، وأمامه امرأة عريضة المنكبين، طولها يصل عنان السماء وكأن لها رأسين، رقبتان معلقتان في جسدها! إحداهما تتدلى على إحدى كتفيها، تحمل صغيرها على يديها، وبينما كان الجو شديد الحرارة فإذا بوطيس الرياح يشتد، فأمسكت ابنها وأدخلته بداخل غار مفروش بالحصر، نظرت يمنة ويسرى وهي تنادي بأعلى صوتها:
-  ماذا أفعل يا عزازيل، لقد هلك قابيل ولا أدري كيف أنجو بنفسي وبه، أوليس هذا الرضيع ابنك أيضًا؟ لقد تعاهدنا على حكم الأرض معًا، والآن تتركني لألاقي المصير المشؤوم وحدي؟
وما إن صمتت حتى ارتجت الأرض تحت قدميها، واهتزت رواسي الجبال. نظرت حولها لتجد الصحراء ملئت حرسًا شديدًا، لم تعد ترى رمالها من كثرة الحيوانات التي أتت من العدم، أيقنت بأنها هالكة لا محالة، رجعت خطوتان للخلف، ووضعت حجرًا على باب الغار حتى أخفت صغيرها، اقتربت الحيوانات منها لتنهل من لحمها ما استطاعت، وهي تهتف بوجع:
-  الآن عرف القدير بأنه لا بشري يستطيع قتلي، فأرسلكم كافة كي تنالون هذا الشرف، ولكني حتمًا سأعود، سأكون نقطة فاصلة في نهاية هذه الأرض.
أخرجت من سترتها البالية لوحًا مكتوبًا عليه بضع كلمات بلغة غير مفهومة، وبدأت بترتيلها: "أقسمت عليك يا مركوت بسم القدير رب جبريل وميكائيل، بارئ النفوس ومُسقط الطاووس، أهيا، برقان، شراهيا، أهيا، شمهورش، نماهيا، أدوناي، أصباؤت، ميمون أبانوخ، زوبعة، أيا خدام الكواكب وحرس الألواح المسلوبة من حواء، بمهر كل مهير، وعهر كل هاربة، بحق كل سافل رزيل ودم البكر الزانية أطلب الحماية للرضيع، ياروش ماروش فلك الحكم على كل شيطان نموش.. منقادين لعظمتك ذليلين يا "سامري بن قابيل" سليل عزازيل بحق بهوش دردراش كوشا أشمخاطيل أن تحضر "ناجيني" بداخل الأفواه، لتطعم الفم الضعيف في الوقت والساعة احضري بحق أبيكِ وكوكب عطارد بارك الله في الرهط الشديد، وفي النسل الجديد، فليتفرق المعتدين وليبقى السليل حتى الزوال والرحيل" ظلت تتمتم بكلمات غير مفهومة وجسدها يهتز بعنف من إثر السكرات، حتى هدأت رجفتها، فتقدمت نمرة من بين وأقرانها، وظلت تنطح برأسها الحجارة حتى حطمتها، فدخلت إلى الطفل وكأنها ستنقض عليه، فوجدته يبكي جوعًا، اقتربت أكثر فالتقط الرضيع ثديها، فرضع منه كما لم يرضع من قبل.. وعلى مرآه ومسمعه تسارعت الغمام لتخفي آثار الشمس الآثمة على الصحراء، فأمطرت الغمام فوق رؤوس الضواري فافرنقعوا إلى كل حدب وصوب، تاركين الرضيع ممسكًا بثدي النمرة المرضعة. صوت الرعد يصم الآذان، وصوت حفيف الأجنحة يتزايد.. حتى استقر الصوت معلنًا عن نزول الكائن المجنح الذي عرف فيما بعد بأنه جبريل، وقف على وصيد الغار ملقنًا كلمات الذكر على أذن الرضيع، والذي بكى إثر سماعه للصوت وكأنه يرفض كلمات التبجيل والثناء على خالقه. تراجعت النمرة، وما زال جبريل يحف الغار، شعر وكأنه يتطاير عبر الغمام ليرجع ثانية إلى غرفته، فوجد المكتوب على الجدران "أحاديث سفلية"...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي