الفصل الثلاثون

فأكمل قائلا:
-  نحن كما تعلم لدينا الألاف مؤلفة من البشر تابعين لنا، يستطيعون استمالة الباقين لكي يقعوا في الفخ ويتركوا الجنة بأيديهم، أنظر حولك يا عالي المقام، البشر حولك مغيبون، طامعين بالقوة على أيدينا، سنجعلهم مندوبين لنا لكي يوقعوا الباقين.
وقف الأبيض وهتف في البشر الراكعون أمامهم ثم سألهم:
-  لمن ولاؤكم.
قالوا:
-  لعزازيل العظيم.
نظر الأبيض إلى عزازيل نظرة ذات معنى ثم قال:
-  أرأيت؟ إنهم كالخاتم في إصبعنا.
شعر آرثر بالحسرة على ما آل إليه بعض البشر، تذكر ذلك اليوم الذي خرجت فيه الشمس من مغربها، إعلانات لبيع الخمور كانت تنتشر في كل مكان، زنا المحارم أصبح مباحا، المساجد أصبحت خربة لا يدخلها أحد، شتى المحرمات قد انتشرت ولم يعد هناك داعيين مهديين، حزن حزنا كثيرا ثم لمس بيده الخاتم ليرجع ثانية إلى أرض البرزخ ويقابل القائد كوش.
سأله:
-  أين كنت؟
فقال:
-  لقد كنت أرى ما وصل إليه عالم البشر، عرفت كيف انتصروا علينا، لقد قسمونا إلى فئتين: واحدة ضالة، والثانية تابعة مغيبة، حتى غاب الحق وظهر الباطل.
سأله:
-  وماذا ستفعل؟
تنهد آرثر ثم قال:
-  سأفعل ما كان يجب أن يحدث منذ أن اتحدت الشياطين في الأرضين السبع، لا بد أن يتحد البشر، أما عن عبدة الشيطان فقد ضلوا بأيديهم وعثوا في الأرض الفساد.
لمس آرثر خاتمه ثم تمتم ببضع كلمات لتنطوي الأرض تحت قدميه، ويجد نفسه أمام التمثال "شور" في كهف الأمنيات. ابتسم له شور ثم قال:
-  أؤمر تطاع أيها المخلص العظيم.
رد آرثر الابتسامة ثم قال:
-  أريد أن تتحد ممالك الإنس السبع مثلما فعل عزازيل وجمع أشباهه، أريد أن أجمع أشباهي وأشباه المؤمنين، أريد أن يظهر النور من جديد.
نظر له التمثال نظرة ذات معنى ثم قال:
-  بالتأكيد سأنفذ لك رغبتك، ولكن لا تنسى إن اتحدت الأرض فاعلم أن أتباع عزازيل من البشر سيزدادون بأشباههم، لا تستخف بقدرتهم على الايقاع بالباقين، لقد كانت حملة ممنهجة حتى يوقعوا الموحدين في الظلام، الشيطان في الأغلب لا يوسوس للبشر مثلما تظن، ولا حتى النفس الأمارة بالسوء، ولكن عدو الإنسان هو إنسان مثله، يدخله بيته يطعمه ويؤويه، يؤمنه على نفسه فيزيده طغيانا وكفرا، يسوقه إلى الضلال كما تساق البهائم في يوم الأضحى.
تفكر آرثر قليلا ثم قال:
-  سنفعل ما بوسعنا حتى لا يسقط الباقون في الظلام، فإن قدّر لنا أن نموت فسنموت على الحق قبل أن نتبع راية الشر.
انحنى التمثال أمام آرثر ثم قال:
-  أمرك مطاع يا عالي المقام.
تمتم آرثر ببضع كلمات فاهتزت الأرض تحت قدمه، ليتسع حجم الكهف ستة مرات عن حجمه الطبيعي، وليظهر أشباه آرثر كل منهم يرتدي ملبس مختلفا عن الآخر، نظروا لبعضهم البعض برهبة!
سألهم آرثر:
-  من منكم مراد؟ فرفع أحدهم يده بتؤدة.
فابتسم له آرثر وتذكر تلك الأيام التي كاد أن يجن فيها، زلزلت الأرض تحت قدميهم وكلمة لا إله الا الله تصل إلى مسامعهم. خرجوا جميعا خارج الكهف ليجدوا آلافا مؤلفة من البشر واقفين وكل منهم يقف بجانب اشباهه، الصحراء امتلأت بهم، اقتربوا من آرثر وقرنائه ورفعوهم فوق أعناقهم وهم يرددون بكلمة التوحيد.
صوت نفير يأتي من بعيد، وظلال تغطي السماء وكأن الكرّة تعاد من جديد، ينظر آرثر ليجد جيوشا من البشر يتقدمهم عزازيل وملاك يشبه هاروت، يتقدمون إليهم وصوت قرع الطبول يزداد، وهتافات باسم ماروت وعزازيل تزلزل قلوب الحشود الوقفة. ينظر إليهم آرثر والخيبة ترتسم على محياه بعد خيانة ماروت لأخيه هاروت وللبشر، يلمس خاتمه ويتمتم ببضع كلمات ليستحضر كائنات الهوجيمو، فقد عرف أنها مناصه الوحيد، تهتز الأرض تحت قدميهم اهتزازة شديدة فيختفي الكهف لتظهر مدينة الهوجيمو وتنساب أشعة الشمس الحمراء من خلالها ليعرف بأن اليوم ستراق دماء كثيرة، تتقدم فيالق الهوجيمو مسرعة تجاه جيوش عزازيل، آرثر يتابعهم بعينيه وهو محمول فوق عنق أحد الرجال من تابعيه، ينظر حامله يمنى ويسرى، لا يجد أحدا يتابعه فيقرر خيانة آرثر، وعلى غرة منه يخرج الرجل من حزامه نصلا فيقطع به كف آرثر الذي به الخاتم. حالة من الذعر تنتاب أشباه آرثر وباقي الحشد الواقفين خلفهم، يسرع الرجل ويقتلع الخاتم من الكف المقطوع ليرتديه، ويتعظم حجمه فتنكشف الخدعة، الجميع ينظر للرجل ليتغير وجهه ويظهر بوجهه الحقيقي. الجميع ينظرون له ويهمسون بصوت مهزوز:
-  عزازيل؟!
رفرف عزازيل أجنحته وطار بعيدا عنهم ليقف في مقدمة فيالقه من جيش الظلام، لمس الخاتم بإصبعه ثم قال بصوت جهوري:
-  باسم شور العظيم آمركم يا كائنات الهوجيمو أن تتبعوا رايتي من جديد لتسقطوا عالم البشر، ألم يحن للعزازلة أن يحكموا الأرض.
فجأة توقفت كائنات الهوجيمو أمام جيوش عزازيل منتظرة أمره بالهجوم على البشر. سبعة من الدوامات الحلزونية تظهر فجأة لتكون حائلا بين الجيشين ينظر آرثر إليهم والألم يفتك به، ثم يبتسم وهو يقول:
-  آصف بن برخيا وأشباهه!
لوثة فهذيان، قلبي يدور كصوفي يؤدي رقصة الدراويش، مغمضًا عينيه، سابحًا في فلك بعيد، لا يعلم مكانه، ولكنه محسوس بين حناياه، يطرق حسه بكل خشوع صوبه حد التوحد، تباغتني خرافة، فأقترب من بوابتها بتأن على أطراف أصابعي كي أستكشف لجتها، فتبتلعني لأغوص في كنهها، وأتشرد في جنباتها، تأخذني إلى زمن ماض سحيق، تقذفني هناك وتفر هاربة، لأجدني في وادٍ سحيق، أرفع نظري فلا أرى شيئا، أسير بسرداب طويل، أتعثر بحجرٍ وأقع، أتلمس طريقي بحذر كي أنهض، وكأن حولي صدى ولكنه بعيد عني، أرهف سمعي لعلني أفهم ما هو هذا الصوت، أسارع خطاي أكثر فأكثر، الوقت يمضي ببطء، وقواي شارفت على الانتهاء، أشعر بشيء تحت موضع قدمي وكأن إعصارا قد سحبني، فأهبط حينا وحينا أعلو، ويكأنني في عالم آخر، أغيب للحظات عن الوعي لأصحو فأجدني أطفو على سطح محيط، وقد جرفتني الأمواج لجزيرة رملية، ليس بها حياة، سوى غربان تصول وتجول في سمائها، فأغيب مرة أخرى عن وعيي، وبعدها أصحو لأجدني في سريري لم أغادره البتة.
يارا كرم
(الفصل الأخير)
شهقة قوية لفظتها سيرين لتجد نفسها ما زالت بالحديقة والحكيم أمامها يبتسم كعادته، سألته بلهفة:
-  وماذا حدث؟ هل انتصر بن برخيا عليكم؟ لقد كنت هناك، لقد رأيت كل شيء، لِمَ جعلتني أعود؟ لقد كنت كالطيف أمر عليهم دون أن يشعروا بي، لقد سمعت ما يدور بعقولهم، ولكن الغريب أني كنت أشعر بكل شيء، حتى أحاسيسهم كنت أشعر بها، لقد شعرت بالخوف مع دخولي لأرض البرزخ مع آرثر وعزازيل، لقد كنت بداخلهم أشاهد وأشعر حتى أفكارهم كانت بداخلي!
-  جعلتك تعودي حتى تعرفي أنك الأمل الوحيد لنا، لن ننتصر إلا بكِ، لقد انتظرت عودتك لسنوات وسنوات، شعرتي بما شعروا به لسبب بسيط، فعزازيل كان زوجك، روحه مرتبطة بروحك، أخبريني هل تتذكرين كل شيء عن نفسك؟
-  ما زلت أشعر بتشتيت في ذاكراتي، وأود أن ترجعني إليها لأعرف ماذا حدث لي، كيف نشأت وكيف مت؟ وأريد أيضًا توضيحًا لبعض الأمور، هل تزوجت عزازيل؟
-  لقد أرهقت عقلك كثيرًا اليوم، عليك الراحة يا صغيرتي، وغدًا ستكونين جاهزة تمامًا لتري كيف كنتِ الأولى من نوعك، غدًا ستكتمل روحك لتصبحي من جديد "عنق ابنة حواء" سيتراءى نجمك للجميع ولن يعرفك أحد بعُنق، ستكونين بالنسبة لهم "أم النور" سيسجدون لكِ كونك زوجة إله، أوتعرفين كلم لبثنا من سنوات في انتظار ظهورك من جديد؟ منك ولد المسيح وبك سننتصر، وكما كنتِ أنت البداية من رحمك يتلاشى الكون ويندثر.
أحس السامري بأن هناك طاقة جبارة تقتلعه من مكانه لترجعه ثانية حيث غرفته الغريبة، فتح عينيه ليشعر بأن قدمه استقرت به نحو الغرفة.. نظر حوله ليجد الجدران تتبدل ثانية، تتلاشى كحبات الملح المتساقطة بداخل كوب ساخن من الماء، كل شيء يختفي ويذهب هباءً ليجد نفسه أمام الضريح ثانية، انساب إلى مسامعه صوت المريدين بالخارج وهم يرددون "لا أله إلا الله سيدنا الأبيض حبيب الله" وهو ما زال يحمل الكتاب بيده، فتحه ليجد أن أوراقه أصبحت صفراء.. عبارات مكتوبة ومرقمة وكأنه كتاب مقدس.. بدأ في قراءته فأحس برجفةٍ في قلبه فأغلق الكتاب وتأمل غلافه ثانية ليجد ثلاثة كلمات حفرت عليه "الكتاب المقدس الجامع" سمع صوت طقطقة في المقام وظهر الدخان من جديد، فتكلم بصوتٍ مسموع:
-  أتخشى الظهور؟ فوالذي نفسي بيده لإن لم تظهر لأغادر بغير عودة فقد تم تحريري من التيه البعيد.
تزايدت دوامة الدخان وأخذت في الدوران حتى كادت أن تغشيه، حتى تلاشت رويدًا رويدًا ليظهر له الأبيض كما رآه من قبل عبر رحلته البعيدة، قهقه السامري وهو يقول:
-  لا أنكر بأني خُدعت فيك، ولكني حين سمعت المريدين بالخارج يرددون اسم الأبيض عرفت بأنك ضللتهم مثلما ضللت بني إسرائيل من قبل، نحن شركاء أيها الشيطان. وبالرغم من ذلك جعلتني أسجد إليك حين كنت تائهًا وكأنك الملاذ الوحيد لي، ولكنك ماكر رجيم، كنت تعرف بأن ساعتي قد آنت، صحوتي في الضريح كانت محتومة.
كان الأبيض يسمعه دون أي يصدر وجهه أي تعابير، حتى تأكد بأنه ليس لديه ما يقوله، ولكن السامري خيب ظنه وتكلم بصوت رخيم قائلًا:
-  أتعرف؟ بعد أن رأيت ما حدث وما اقترفت يديّ.. بت أعرف بأنني كنت مخطئًا، كيف لي أن أصنع لهم صنمًا بعد أن أنجاني القدير من اليم؟! أولم يكن لي عقل لأداوم الذكر في حضرة الرب؟
نظر له الأبيض بثقة، وحثه على تكملة حديثه ولكنه صمت وكأنه لا يدري ما مصيره، تلاقت أعينهما فابتعد السامري بأنظاره عنه فقطع الأبيض السكون قائلًا:
-  حسنًا.. جرب أن ترفع يديك إلى السماء وتدعوه أن يغفر لك، هل تظن بأن السماء تنتظر توبتك؟! كلا يا عزيزي.. فأنت مُدان قبل أن تولد في المهد صبيًا، انظر إلى أبيك عزازيل أولم يستغفر عن ذنبه؟! ماذا لو فعل موسى مثلما فعلت؟ أكان مصيره أن يلقب بالدجال؟! أوليس مكتوب في الإنجيل بأن لوطًا قد فجر بابنتيه ثم تاب وأناب؟ أولم يقتل موسى الفتى المصري على مرأى ومسمع من الجميع؟ حسنًا أخبرني عن فاكهة آدم وأمر التحريم الصريح.. ألم ينتصر عزازيل على محمد بالكعبة وتلى على الجميع آية الغرانيق فسجد "الصلعميين" والكافرين؟ أولم يَهُم يوسف بزليخا؟ ألم يهرب ذو النون من قومه قبل أن يرجعوا إلى ربهم؟ حسنًا دعك من كل هذا وأخبرني.. لماذا لم نسمع عن نبي نزل على أراضٍ غير عربية، أوليس هذا يجعلك تشك بأن كل شيء مجرد أساطير؟ التوبة يا صديقي لذوي الحظ فقط، الجنة والنار أشبه ببلدٍ أنشئت في منتصف العالم، من يتقرب للحاكم يصبح سفيرًا، ومن يقول لا أنا أعترض يُلقى في غياهب السجون.. نحن معًا يا سامري يدًا بيد، هم يقولون بأن القدير ذاته قد أنجب في الأرض نصف إله وأسموه عيسى.. والمسلمون يقولون بأن محمدًا سيد الخلائق، فماذا عنك؟ أولست أنت السيد؟ أخبرني إذا أيها المسيح، ألم يئن للذين ظُلموا أن تتكاتف أيديهم لحكم الأرض؟ نحن الحاكمين الشرعيين، نحن من نضع القوانين.. أنت وأبوك فقط من يستحقان أن يلقبا بأنصاف آلهة.
تغيرت ملامح السامري واحمر وجهه غضبًا وهو يقول:
-  وماذا عن عنق؟ وكيف أخبرها الحكيم ماروت بأن الأعوج سيعود من جديد؟
أجابه الأبيض بنظرة ازدراء:
-  فشلت عُنق في حكم الأرض، فبعد أن انتصر آرثر بالحرب الأولى تكاتف بنو البشر وخرج لنا رجال أشداء اتحدوا على قول لا إله إلا الله، زلزلوا بها الأرض حتى تبخر من تبخر من العزازلة وقومه، وقتل من قتل من اليهود، لقد خرجوا فقط لمحاربة يهودي الأرض.
لم يدع السامري فرصة لنفسه ليحزن على مقتل عنق، فأعاد السؤال ثانية:
-  وماذا عن الأعوج، هل سترتد روحه من جديد كما حدث مع أمي؟
فأجابه الأبيض:
-  الأمر مختلف تماما، أتعرف حين تتبول وأنت واقف؟ تترك مثانتك جزءًا ضئيلًا من بولك بداخلها، هذا ما يحدث مع البشر، تظل أرواحهم متعلقة بالأرض.. الأخيار تتشبث أرواحهم بأجساد طيبة، والأسياد مثلك يعاد بنائهم من جديد ويُحشرون في أراضٍ لا تطأها أقدام البشر، لقد تم حجب روح الأعوج منذ آلاف السنين، ولكنه سيعود بنسله ليحكم الأرض، سيفعل كما كان يتمنى عزازيل، سيهزم أهل الأرض جميعًا ويحارب السماء، سيلقي ونسله الأسهم لتخترق السماء وتعود ملطخة بالدم.
-  حسنًا وعلى من تقوم القيامة؟
أجابه الأبيض بثقة:
-  لن تقوم الساعة حتى يأتي دخان يخنق الأرواح الطيبة ويقود الباقين إلى أرض المحشر، ولكن قبل ذلك عليك بأن تنفذ خطوات النبوءة، ستمسح بجنبات الأرض حتى يؤمن البشر بك.. حتى الجنين في بطن أمه ستجعله خاضعًا لأمرك، وإن طلبت منه أن يشق بطن أمه سيفعل دون تفكير.
-  وهل تظن بأنهم سيؤمنون لي؟ وما أدراك بأن ترتفع رايتي في الأرض ويخضع لي السائل والمحروم؟
ابتسم ثم أجابه بثقة:
-  لطالما كان البشر مذبذبين يؤمنون بما يروه أمام أعينهم مثلهم كمثل بني إسرائيل بعد أن أنجاهم ربهم من الطغيان، تركوه وعبدوا عجلًا ذهبيا له خوار.. الآن سألقنك قصة لم تسمع مثيلًا لها من قبل..
قاطعه السامري بلهفة الظمآن:
-  أي قصة؟
أغمض الأبيض عينيه وكأنه يتذكر شيئًا عظيمًا، ثم قال:
-  هذا حديث من ربي سأتلوه عليك.. حدثني مركوت رضي عزازيل عنه أن عزازيل الجليل حاكم الأراضين وباسطها قال "أتعرفون من هم الأضعفين؟ فقالوا أنت أعلم، فقال.. سأخبركم عن شخصٍ أسميته "رافع" علّكم تعرفون بأن قلوب البشر خُلقت متقلبة ومتمردة.. كنت أستخدمه في صولاتي في الأرض حين أشعر بالملل، قبل أن أستقر على عرشي هذا، لقد كان ابن زنا وضعته وهو رضيع أمام بيت شيخ سُني وقد كان فقيه أمته وإمامهم، فوجده الرجل وقرر أن يكفله بعد أن يأس في أن يعرف شيئًا عن أبويه، عاش في كنفه لسنوات وسنوات حتى أنه تَشّرب منه علمه.. كنت أقابله من الوقتِ للآخر حتى أُغذيه على اتباع تعاليمي.. أخبرته وهو صغير بأنه يهوديًا وله مهمة، هي أن يطيع كافله ويأخذ منه علمه، وأن مهمته الأساسية موجودة بأسفل حجرات المسجد، وذات يوم مات الفقيه، فتسلم المكفول الإمامة حتى إذا ما أحبه الناس قرر أن يقلب عقيدتهم ويبدل موازين الرؤية لديهم فأحبوه وأطاعوه حتى أنه بات يخبرهم بأن الصلاة عبارة عن رياضة يمكنهم تعويضها دون اللجوء للمسجد فأحبوا الراحة عن السجود.. فأوحيت له بأن مهمته انتهت وأن عليه أن يهدم المسجد فارتعد خوفًا من بطشهم.. ولكنني أنزلت على قلبه السكينة، فوقف يخطب في الناس بأن المال زينة كمثل البنون وأن هناك كنزًا دفينًا أسفل المسجد وعليهم استخراجه.. فتدافعت السيول من الناس كالبهائم يحطون المسجد، وما إن جعلوه دكًا حتى خرج من بينهم وهو يقول.. انتهت مهمتي أيها الأخسرون."
شرد السامري بعد أن سمع كلام الأبيض، فأكمل الأبيض قائلًا:
-  أعرف بأنك تتساءل عن سبب إرجاعنا لك لزمن الماضي، لقد أرهقتك في رحلة مقدسة الهدف منها استرداد روحك المسلوبة، اعلم يا صديقي بأنه دائمًا ما كان الكنز في الرحلة، ورافع أثبت لنا بأن هدم المساجد لا يحتاج سوى ضال يضلهم.. لم تكن المرة الأخيرة فلقد هزمنا أمم من بعدهم، بأن سلطنا فوق رؤوسهم علماء وليس هم بعلماء.. مهمتهم فقط دس السم بالعسل حتى يرضى عنهم الحكام والذين سيطرنا عليهم سيطرة تامة، فتخيل أن تتبع مشورتي لإرضاء حاكم يتبع مشورتي، تلك دائرة مكتملة بيد العزيز عزازيل.. عزازيل فقط.
شرد السامري قليلًا ثم قال:
-  أتعرف؟ بلمسة منك استطعت بأن ترجعني لكل العصور، وكأنك إله.. تعطني قوة جبارة في التأمل، وترجعني لأتعايش مع قومٍ قد تعايشت معهم من قبل لأستشعر كل لحظة نسيتها وأنا في التيه، كل ما يحيرني هو أنه كيف لعزازيل أن يضاجع عُنق ليأتي بسلالة متحدة مع سلالة قابيل الأبية؟.
ابتسم الأبيض بثقة وفخر وهو يقول:
-  لا يعجز على مولانا أي شيء، أولا سأخبرك بأنه من يحكم عالم البشر منذ عهد برصيصا، ستجده في كل زمان ومكان بشكل مختلف.. هو من جعل موسى يقتل الرجل الفرعوني فيؤخر ظهور رسالته.. هو من جعلك تصنع عجل بني إسرائيل.. كان أبوك ومرشدك، أما عن نكاحه لعنق، فقوته الجنسية تعادل قوة ألف رجل متحدين، لطالما أمتع أمك جسديًا، حتى أنها كانت تناديه بالجبار.
ابتسم السامري ثم قال:
-  وكيف عرفت بأن قوته تعادل قوة ألف رجل؟ هل تنكحون بعضكم البعض؟ حسنًا لقد فهمت من أين جاءت الفكرة لقوم لوط.. فأبي عزازيل بعد أن نكح نفسه وضاجع أمي ونكحك أيضًا..
صمت قليلًا ثم ابتسم بسخرية وهو يكمل:
-  ويبدو أنك استمتعت بهذا، فالمهم رضاك بالتأكيد.
قاطعه الأبيض بغضب:
-  أنَّى لك أن تحادثني بتلك اللهجة أيها الطيني؟ أنسيت أنك من طين وأنا من نار، أنسيت بأنك سجدت تحت قدميّ لأخبرك عن هيتك؟
ابتسم وهو يقول:
-  لقد عرفت بأني ذلك الدجال الذي نزل الآلاف من الأنبياء لتحذير البشر مني، لطالما عرفت بأني سأكون نقطة فاصلة في نهاية الكون، بي ستحكمون الكون، وبي سينتهي كل شيء، أعرف بأن سيدك قد شعر بالملل بذلك الخلود ويود بأن أنهي معاناته.. فلن أغوي أحدًا حتى أفعل معك ما فعله عزازيل بأمي وبك.
اهتزت الأرجاء، وانتشر الدخان حد الاختناق، والسامري يضحك مما يرى، فأكمل قائلًا:
-  حسنًا لا تريد من أن أضاجعك لأني مخلوق من طين، ولكنك أخبرتني بأني نصف شيطان، وبذلك أصبح ابن سيدك.. وأريد أن أكتشف قوتي الجنسية معك.. اعتبرها حياكة من سيدك لأعضائك التناسلية، أعدك بأنك ستجدني مثل عزازيل وأكثر، فإني لن أبرح مكاني حتى نتلذذ معًا.. وبعدها سننتقل انا وأنت كتفًا بكتفٍ لهبوط الأرض من جهة عدن كما تقول النبوءة..
تضاءل الدخان رويدًا رويدًا حتى ظهرت فتاة ناصعة البياض، أنارت الغرفة من طلتها الوضاءة وكأنها حورية نزلت من السماء، أمسكها السامري من خصرها وهو يقول:
-  لم يكن ببالي أن تكوني بمثل هذا الجمال، ماذا لو أتينا بمسيح صغير يكون لنا عونًا في رحلتنا الشاقة..
ضمها أكثر إلى صدره وقبل شفتيها بعنف وهو يقول:
-  والله إن نكاح الشياطين أطعم من نكاح البشر، وإني لن أتركك حتى يتورم فرجك..
اعتصرها بيده حتى أنت فقهقه بصوتٍ عالٍ ثم قال:
-  حسنًا يا أبيض عرفت بأنك مستمتع، اليوم سنفعل البدع يا صديقي.
بعد أن وطأه ازدادت حدة الدخان، انفتحت الأبواب ليجد نفسه أمام الضريح مرة ثانية خرج من البوابة ليجد الناس يدورون حول البيت كمثل دورانهم القديم، يتمتمون بترانيم نصرانية، توقف المريدين أمامه وتقدم أحدهم حاملًا في يده قبس من شهاب، وفي يده الأخرى صندوق به بعض الرمال.. سجد أمامه وهو يقدم له العطيتين، ابتسم السامري وهو يقول:
-  إني آنست نارًا وها هو القبس.. وها هو أثر الرسول.
أخذ منه العطيتان وأغمض عينيه وهو يتمتم ببعض الكلمات، ثم نادى بصوت جهوري:
-  أيا أهل الأرض ألا تسمعون.. لقد نزل الإله من جديد ليعلي كلمته على الأرض، سأمسح عاليها وأسفلها.. ولتتنزل لعناتي على الكافرين، وفي يديّ الاثنتين أحمل جنتي وناري.
نظر إليه المريدين وهم يرتجفون، شعروا بأن مناجاتهم لم تذهب هباءً، فأكمل السامري:
-  لمن الملك اليوم.
ليسجد الحضور أمامه دون تفكير.
مشهد الختام
يقف عزازيل فوق صحن الدار وأمامه الأبيض راكعًا خاضعًا ومستكينًا، يربت فوق رأسه برضا وهو يقول:
-  بوركت تلميذي، نفذت ما أُمرت به كما يجب، الآن أريته كل ما يريد أن يراه، وستتحقق النبوءة مثلما يريد الموحدين تمامًا.
ابتسم الأبيض بفخرٍ وهو يقول:
-  علمتنا بأن الجنة مجانية يا عالي المقام، والجحيم لمن استطاع إليها سبيلًا، لم أرد أن أريه المعجزات الكاملة للكليم موسى حتى لا يحن قلبه للتوبة، أريته مقتطفات وزيفت الحقائق حتى يرى الكون من منظور خاطئ، علمته أن التوبة لذوي الحظ فقط، رغم أنه لا يوجد مطرود من الرحمة سوانا.. أخبرته أحاديث تشبه الأحاديث القدسية، نحتها نحتًا بيدي حتى ينبهر بها فيؤمن لنا، شككته في كل شيء كما كنا نفعل فيمن كانوا قبله، أتيت بزلات الأنبياء لأخبره كذبًا بأن القدير لم يعدل في حكمه، أخبرته بقصتنا المكذوبة عن الغرانيق ليزداد حنقه، والآن يتنزل على البشر بكفره، فيقتله المسيح الحي.. حتى تغرق الأرض ثانية في ظلام يأجوج ومأجوج.
صوت يتردد في المكان لا يسمعه البشر:
-  يا محمد يا مهلاييل يا آدم ويا موسى، ألم أخبركم أجمعين بأني سأنتصر.. فوالذي نفسي بيده لن أدخل الجحيم وحدي.. أخبرتكم بأننا سنخلد فيها أجمعين.. يا إلهي أنت أنذرتني وقد نفذت وعدي أني لن أعذب وحدي.
سكون تام وصوت جبريل ينساب إلى مسامعه:
-  إلا عبادك منهم المخلصين.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي