الفصل الرابع والعشرون

قال هاروت:
-  قديمًا بنى مهلاييل القلاع وانتصر عليهم، ورغم أن الشياطين لا تُرى، إلا أن مهلاييل كان عبقريًا، فقد كان وجيشه يذكرون الله فتظهر لهم الشياطين، فيقذفونهم بوابل من النبال والأسهم، وظل الحال هكذا حتى أفنيت عشيرة الغيلان عن بكرة أبيها، ولم يعد يذكرهم أحد، مركوت وعزازيل وإيجور، وكان معهم حينها ملك العفاريت الذي انحدر من نسله آصف بن برخيا، وكان قد أسلم وأصبح الذراع الأيمن لسليمان النبي، هو من أحضر عرش بلقيس إلى سليمان قبلما يرتد إليه طرفه، أقوى كائن على ظهر الأرض ولكنه الآن متفرغ للعبادة، ربما لو ضاق بنا الحال لاحتجناه، أعلم أنه لن يتأخر في نصرة البشر مادام قلبه ينبض بالإيمان.
رفع الحكيم هاروت يداه للأعلى ثم قال بصوتٍ عالٍ:
-  لقد كنتم في غفلة من هذا، الآن سيكشف عنكم غطاءكم ليصبح بصركم كالحديد، ردد معي ما سوف أتلوا ولترى ما رأيت (اللهم رب السماوات أرنا من العجائب ما صنعت، فلنرى سبب مولدنا وسبب كبوتنا، اللهم اطوِ الزمن بين أيدينا ولترجعنا إلى الأرض الحمراء).
ردد آرثر ما سمعه وهو مغمض العينين، ليجد جسده يذوب كحبات الملح في الماء، وروحه تتطاير عبر النور بخفة، حتى شعر بأن الأرض ثابتة تحت قدميه. شعر بأنه ظل يتحرك في أرض حمراء، السماء فوقه صافية بلا نجوم تحجبها، فلم تكن السماء حينها مزينة بالنجوم وأتى تزيينها قبل خلق البشر ليحرق الله بها كشافين الجن من التلصص على اللوح المحفوظ، هناك دخان كثيف يمنعه من رؤيه أي شيء أمامه. صوت صراخ وعويل يصدح صداه ويخترق أذنه فيزلزله من الداخل، خمس من الرجال غريبي الهيئة بشرتهم سوداء حليقي الرأس لهم أجنحة صغيرة الحجم وكأنهم حشرات بجسد بشري... عفوًا فالأرض الحمراء لا تسكنها الملائكة. يراهم من الخلف وهم منهمكون، يلتفون حول فتى ويبرحونه ضربًا. الفتى لم يختلف عنهم كثيرا في هيئته المنكرة عدا أنيابه الحادة التي تخرج من فمه لتمر فوق شفته السفلى، اقترب آرثر منهم، حاول تخليصه ولكنه فطن أنه غير مرئي بالنسبة إليهم.
كانت وجوههم غليظة، اتخذت شكل المربع، عيونهم مشقوقة بالطول، أسنانهم مدببة، وأفواههم متشققة يخرج منها نابين كأنياب مصاصي الدماء. تركوا الفتى بعدما أبرحوه ضربا لسبب لا يعرفه آرثر، كانت آثار الضرب ظاهرة على وجه الفتى ودماء صفراء قليلة تغطي جبهته السوداء. ظل الفتى يبكي، ثم نظر للسماء وهو يقول كلمات بلغة غريبة، ولكن آرثر شعر أنه يفهمها:
-  الصبر، الصبر والعبادة، كل هذا ما تريد، ولكن أنا لا نصيب لي، أنا الذي أتيت بلا أهل، أباد سوميا نسلي جميعا عداي، الجميع يكرهني ويبرحني ضربا كل يوم، وكأنني خلقت لأهان وأُستضعف، ما الحكمة في وجودي ما دمت نكرة، لمَ لم يقتلوني، لمَ يتفننون في تعذيبي، من اليوم لن أؤمن لك، من اليوم سأبحث عن القوة، سأجعلهم يركعون لي، لن تعبد بعد اليوم في تلك الأرض، سأجد القوة لغزو السماء، سأبيدهم عن بكرة أبيهم.
جاهد الفتى نفسه، واستند بكلتا يديه على الأرض حتى انتصب، ظل يتحرك بتؤدة وطيف آرثر يتبعه، حتى وصل إلى بحيرة صافية. وقف أمامها قليلا ثم جلس القرفصاء وهو ينظر يمنى ويسرى حتى يرى إذا كان أحد يتبعه أم لا، ظل يلتقط حجارة من الأرض ويلقيها في البحيرة بغضب، يحاول أن يفرغ طاقة الغضب التي ألمت به، فما زال يشعر بالاضطهاد، يتساءل دائما: ماذا عساه أن يفعل في مقدار الكره الخرافي الذي يلاقيه من أجناس الأرض؟ ماذا لو أن الجن تركوا أهله وعشيرته من الجن ليعيشوا في سلام ويتقاسموا الأرض فيما بينهم؟ لمَ دائما يدخل الطمع في نفوس البعض ليجعلهم جبابرة؟ يظنون بأن الأرض خلقت لهم، لمَ الدم والقتل والتشريد من الأساس؟ لمَ دائما هناك الظالم والمظلوم؟ ما سبب خلق الله لهم إذا كان يعرف بأنهم سيظلمون بعضهم البعض، أخلقهم ليعذبهم؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي