الفصل الرابع والعشرين مرٌ الفقد

الفصل الرابع والعشرين: مرٌ الفقد.
هبطت "غادة" من الطابق الثاني، لكنها كانت تسمع صوت بكاء، فتعجبت من يبكي في مثل هذا الوقت!
قامت بالذهاب الى الباب الخارجي للمنزل، والذي اعتقدت اولا انه لم يغلق جيدا، إلا أنها شاهدت "هادية" وهي تبكي، تناست كل شيء وذهبت اليها.

-ما بالك تبكين يا "هادية"، هل حدث شيئا؟
-وهل سيحدث شيء اكثر من سفر ولدي، ذلك الذي يصر عليه والدي.
-لا أن عيناك حمراوتان، لقد شاهدتك منذ عدة ساعات وأنت تخرجين مع تلك السيدة التي قامت بالمناداة عليك صباحا، أين ذهبت؟
ولماذا تبكين بعدما اتيت، لقد كنت أنظر إليك من شرفة الطابق الثاني.

-جاءت إلي صباحا تلك الجارة، وأخبرتني أن جاره لنا مريضه، وانا اذهب وأعطيهم بعض المال، لكن ما حدث هناك قد ادمى قلبي.
-ماذا حدث؟
أخذت تتحدث "هادية"، والدموع تنساب من عينيها.

-ذهبت مع جارتي لزيارة جاره اخرى، كما قلت لك في المشفى القريبة من هنا، وعندما وصلت ودخلت تلك الغرفه، وقع نظري على سرير فوقه غطاء بلاستيكي، بالكاد لا يظهر شيء تحته وكأنه فارغ، وشخص شاحب يجلس إلى جانب السرير يضع يده تحت الغطاء، وهو مثل الجماد لا يتحرك، كان عندي فضول لأعرف ما الأمر؟ لأن داخلي إحساس غريب وعاطفة نحو ذاك الشخص، لم أفهمها لحظتها.

وبينما نحن نتبادل أطراف الحديث مع عائلة جارتي، التي ذهبت لزيارتها وبينما تحدثنا في موضوع الموت، الذي يحصد أرواحا كبيرة يوميا ولا يفرق بين أعمار، فإذا بقريبة المريضة التي تقيم معها في العناية، أشارت إلى السرير المجاور وقالت مثل ذاك الصغير هناك، صاحب الثمانية سنوات، إنه ميت وذاك والده بجانبه، لقد جاؤوا به منذ لحظات، لكن الأجل كان أسرع وأقوى من اسعافات الطبيب، شعرت بدوار كدت أن أقع واقشعر بدني، أردت الذهاب إليه وضمه وتقبيله، كأني أعرفه لكن لم أكن أملك الشجاعة.
وصمتت قليلا، لكن صوت بكائها ارتفع ثانية ثم أكملت:

_قلت للقريبة لكن مابه والده لماذا الصمت؟
قالت لقد بكى إلى حد كبير وكانت هنا الأم والزوجة والخالات وكل الأهل، وكان الصراخ عاليا والصدمة كبيرة.

كم هو مؤلم أن تمسك أحد بين يديك، وتشعر أنك تملكه بكل حب، وفجأة تصبح يدك فارغة وقلبك مليء به وبالذكرى، لكن لا يمكنك استرجاعه.
عند خروجي قدمت التعزية لوالده الشاحب الغائب عن العالم كأنه غير موجود، ويده الملتصقة بجسد ابنه الذي لا يصدق أنه قد غادر، رد عليا بالشكر فخرجت مع جارتي وأنا لا أشعر بخطواتي، تمنيت لو أن كل هذه الحياة القاسية هي مجرد حلم، ولما نصحوا من الحلم لا نجد إلا السلام الدائم، فما أسوء طعم الوجع وما أصعب الفقد.
لم تتمالك "غادة" نفسها، الأ وهي تبكي أيضا.

كان عزيز يقف وراءهما بصمت تام، وعندما وجد اخته وزوجته، التي طالما كرهت أخته ولم تتحدث معها منذ سنوات، وكان الحزن قد جمعهما معا، ذهب اليهما فانتفضت "غادة"، هي لا تريد أن يشاهدها وهي تتعاطف مع "هادية".
-لا تخافوا ساقوم على حماية والدي و"لوقا" ولا تحزنوا، ارجوك يا "هادية" هدئي من روعك، حتى لا يشاهدك "لوقا" في مثل هذه الحالة، فيحزن أو يفقد اعصابه او تركيزه، وهو سيذهب في مهمة اعتقدها في غاية الدقة، لكن لا تقلقي هي ليست بخطرة.

وانت يا "غادة" تجلدي حتى لا تصيب ابنتاك بالخوف الشديد، كنت اجلس مع "لوقا" منذ قليل،
وأنبأني أنه سيعطي "ميريت" تلك القلادة القديمة الخاصة بوالدتي، والتي تتوارثها نساء العائلة، لم اكن أعتقد يا هادية أنك من الممكن أن تتنازلي عن تلك القلاده، لانها قلادة أثرية تتناقل منذ القدم، من الأم الى ابنتها في عائلتنا.
نظرت اليه "هادية"، وهي تقوم بمسح عينيها من الدموع.

-اعتقدت أنك لن ترفض أن اعطيها ل"ميريت"، خصوصا أنها ستصبح زوجة ولدي أغضبت مني يا اخي.
-لا لم اغضب، لكن تعجبت كيف تفرطين في تلك القلادة.
-وهل سأعطيها لأحد، اغلى واعز من "ميريت" ابنتك.
نظرت "غادة" في تعجب! لطالما كانت تريد تلك القلاده او واحده مثلها، لكن "هادية" رفضت على مر السنوات أن تبعثها اليها، كما أن عزيز رفض أن ياتي بمثلها ويعطيها اليها، فكيف تفرط "هادية" في تلك القلادة، هنا عرفت أن "هادية" لا تقن الشر لابنتها، إنما اعتبرتها كابنة لها.


خرج كل من "حسام" و"خالد" ومحب من المنزل، تحيطهم دعوات "هادية" ودموعها.

-ابنتي لا أريد منك أن تقلقي، لقد ذهبت قبل ذلك عدة مرات، لماذا هذه المره كل هذا القلق، أنت تعلمين أنني سأكون في رعاية "نجمة" والمخلصين لها هناك، أن ابيك له قوه خفيه في"ثينيس" ابنتي فلا تقلقي، أما بالنسبة وجواز السفر الخاص به سيأتي به فرد من أفراد الشرطة هو صديق له "حسام"، بعد يومين سواء استطاع "بتاري" الحضور أم لا، سيسافر روقه وسأكون معه في اتصال دائم، ولا تقلقي سيجد هناك في المطار من ينتظره وسيجلس معهم في منزلهم، لا تقلقي يا ابنتي أن لي اشخاص هناك كثيرين، او تعلمين لكي لا تقلقي لدي هناك من الهجناء، الكثير كان صديق لي قد توفي منذ فترة، وورث ولديه تلك الموهبة الخاصة به، يشاهدون ما لا يشاهده أحد، حتى اعيننا التي لا تلتقط الجان هم يشاهدونها، لقد ورثوا ذلك عن أبيهم بصفته من الهجناء.

-حسنا يا والدي لن اقلق، أرجو منك أن تطمئنني كل عدة ساعات، لكن ما اتعجب له لماذا تذهب أنت الآن، وأنت تقول أن من يقتل ذلك الوحش هو ذلك السيف، فلماذا تذهب أنت الأن، وتأخذ معك اثنين من البشر.

-سأقول لك ما لم أقله لأحد، أنت تعلمين أنه لدي موهبة كشف المستقبل، وتعلمين ما حدث ل"لاديس"، وأنا أعتقد أن حبيبها احدى هؤلاء الشباب سواء "حسام" او "خالد"، لم تتضح لي الرؤيه بعد، لقد كنت اشاهدها وهي تتحدث في تلك الرؤيه، التي اتت اليه ممسك بيدها أحد ما من البشر في تلك الحديقة، التي كنت أجلس فيها أنا و"نجمة"، منذ زمن في البداية أعتقدته "حسام"، ثم أصر "خالد" على الذهاب، اذا فهو أحد الشابين أعلم أنهما لن يستطيع الوقوف أمام سمودي وجيشه من الهجناء، لقد قالت لي "نجمة" أنه قد استقطب عدد ما من الهجناء، وأصبحوا الآن يقيمون عند بوابه "نانن".


-حسنا يا والدي هذه حقيبتين، الحقيبة الأولى فيها ملابس لك وللشابين، أما الحقيبة الثانية فقد وضعت بعض الأطعمه لك ولهما، ارجو منك أن تقوم بالاتصال بي عندما تذهب الى هناك، وكما قلت لك لا تخرج من قصر "نجمة" ولا النهار.

-لا تقلقي، وها أنا ذاهب الأن في الليل حتى لا يشاهدنا أحد الحراس، وسنرتدي تلك الملابس عند المغارة التي تقوم بتوصيلنا الى بوابه مدينه "ثينيس"، وسنرتدي تلك الملابس الخاصة بسكان "ثينيس"، حتى لا يتعرف علينا احد في الظلام، وهناك ساجد من يساعدني ويقوم بتوصيلي الى القصر الخاص ب"نجمة"، واعتقد أن منهم "بتاري"، لن يشك أحدا فيه.

حسنا يا والدي لقد اطمئنيت الأن، لكن ما زال قلبي به كثير من القلق، أنت تعلم لا استطيع العيش بدونك في تلك المدينة، ولو حدث لك شيء سأحضر لك مباشرة الى هناك، لا أريد للخوف الذي استبد بي سنوات كثيرة أن يأكلني هنا.

-أريد منك المحافظه على "غادة" وبناتها، اعلم أنهما يبكيان منذ الأمس، لكن لا استطيع أن افعل لهما شيئا، استمع لنحيبهما منذ الأمس، وقد شاهدت "غادة" واثار الدموع في عينيها، وشاهدت الحزن في عين عزيز قال لي كلمه اوجعت قلبي، قال أنفترق يا والدي بعد أن اجتمعنا بعد سنوات طويلة، ابعد اللقاء يكون الفراق سريعا.

-والدي أريد منك أن تقف وتنظر الى "ثينيس"، وتبلغها رسالة عني اقول لها أيتها المدينة التي ولدت فيها، فيها قصصنا وانجبتنا من رحم الألم، ستعود لك "هادية" يوما ما، بعدما تهنى في منعرج الوهم، نراوغ الألم سنوات طويلة لنهرب بعيدا، لكنني سآتي إليها من حيث أنتهيت، سأعود إليها بعدما شاهدت في الحياه تجارب قاسيه، حتى لو واجهت حربا شرسة ساحضر اليها يا والدي، أريد أن أنظر الى مدينتي قبل أن أموت، هل سأشم رائحة أعشاب البردي؟
هل سأشاهد مبانيها وتماثلها، هل سأشاهد ضوئها الأبيض، هل سأشاهد طرقها الرخاميه، واستمتع واستمتع بالإضاءة الخاصة بها، عندما تنعكس عليها أشعة الشمس، هل سأشاهد واعيش ثانيه في ذلك الجناح الذي كان مخصص لي أنا وحبيبي، هل سأذهب يوما ما الى القاعة الملكية، التي شاهدت بدايات حبي ونمو بذرة حبي في رحمي هناك.

-لا تقلقي يا حبيبتي، أعتقد أنك ستذهبين اليها، بل ستعيشين هناك أيضا، لكن ما لم يفعله آدم منذ سنوات، أعتقد أنني سافعله هناك، بعض الأشخاص ينتظروني يقفون معي، يجب أن يسترجع "لوقا" حقه.


وفي الأعلى، كانت "ميريت" تنتحب وتبكي، أما القوية "تمارا" جلست أمام "ميريت"، وقالت:

اتعلمين سينصفنا الزمان، أشعر أن بيني وبين "بتاري" تخاطر في الأرواح، أنا استمع إليه من ذلك المكان البعيد، فالأرواح تستمع لبعضها البعض، وانا اعلم أنه يستمع لقلق عليه، كما استمع الى حبه فيقول اصمدي، يوما ما سنلتقي معا، وانت يا أختاه لا تقلقي، منذ الصغر علمنا أنه ستكون هناك مواجهة، وهكذا أتى وقتها لعل بعد هذه المواجهة نعيش في سعادة، نرجع الى مدينتنا ونعيش هناك، حتى وان عشنا هنا سنعيش مع من نحب، مع اسرتنا لكني أعتقد اعتقادا كبيرا أنني ساذهب اليه هناك، كما قال لي ورسم ذلك القصر الخاص به وتلك الحديقه الجميله، التي قد أبدعتها والدته، نعم سأذهب إليه، أعتقد أنني أشم رائحة الأزهار، أختاه لا تقلقي ارجوك لن اتركك لحظه، عندما يغادر لوكا ليحضر لنا ذلك السيف.


-اعلم ما تقولينه يا "تمارا"، فمن يحبك يشعر بك، فمن يحبك يسأل عنك ويحس بألامك يريد اسعادك، يوجه لك رسائل القلب، اعلم ذلك اعلم أنه منذ الأمس يختبئ "لوقا" مني، لكنني اشعر به اتعلمين لم اكن اتخيل انه سيعطيني تلك القلادة الخاصة بوالدته، التي طالما تحدثت عنها والدتنا، و تمنتها لنفسها منذ سنوات طويلة، ها هو القدر يعطيها لإبنتها ولو طلبتها مني والدتي، سأعطيها إليها عن طيب خاطر، لكن عندما مسكت تلك القلاده، شعرت أن "لوقا" بجانبي هذه القلادة بها شيء ما غريب، لا اعرف ما هو بها قوة ما، أعتقد أن عمتنا "هادية" لديها قوة كبيرة لقد افترقت عن حبيبها منذ سنوات طويلة، هل هذه القلادة بها قوة اعطتها لعمتنا، لذلك لقد ارتديت القلادة، وسأظل طول اليوم ممسكة بها، وعندما أريد الاطمئنان على "لوقا"، سأقربها من قلبي حتى تطمئنه.

-أعلمي ما ذلك يا "ميريت"، اتعلمين أنني سمعت عمتنا "هادية" تقول أن كل واحده هي سيدة احلامها، وأن كل امرأة تحتضن ذلك الحلم، وأن الأحلام لا تموت والمشاعر لا تنتهي، بل تولد من جديد، لأن تلك الأحلام هي ابنة قلب كل سيدة، وقلوبنا ما زالت تنبض وستنبض فلا تقلقي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي