الفصل العاشر واقع مَرِيِر

الفصل العاشر "واقع مَرِيِر"

تمضي الأيّـام كعاتها، دون مبالاة، تفجعك حينا، وتُـبهجُـك أخـرى، وما بينهما زمن من الحزن والفرح والألم والأمل، وتكشف لك ما خبّأته سلفاً عنك، وقتها ستعض أصابعك ندماً وحسرة، على ما فرطته في جنب قلبك، إن كنت لمن الغافلين.

حينها ستخبرك أفعاله صراحة بحقيقة نفسه، وسيغرف بلسانه من معين قلبه الأسود، مُحدثا بسوء سريرته، ذلك أن ما يطفح به القلب ينزلق به اللسان، وستأسف كثيراً على تجاهلك لذاتك ومصاحبتك لمن لا يستحق، سيُسدل الستار عن فصل من حياتك، تُدرك فيه أن حديث القلب به مسحة ملائكية، وجُب عليك الأخذ به. وكذا العكس صحيح، ألم تسمع بفتاة أحبّت من أول نظرة، وفتـىً قتله الهيام عشقا عند أول لقاء، تتعجب من هذا وتلك، جهلاً منك بلغة الأرواح، وفراسة الأنفس، وما يحاكُ في الصدور من مشاعر.


أحياناً نعتاد أمر ما لأننا ليس بايدينا فعل شيء سوء التاقلم مع الواقع لأننا مُجبرين العيش فيه
هكذا كان حال "سيرين" مُجبرة على تحمل ذاك البغيض ، فهي لازالت مقيمة بالمشفى ووجب عليها الرحيل ولكن خطتها في إقناع هذا الغامض للذهاب معها إلى الغابة ليس بأمر هين، قررت أن تستغل جانبه الإنساني وتحاول استعطاف قلبه وستقص عليه بأنها لا تمتلك مأوة وهي فتاة وحدها بتلك البلدة الغريبة عنها وفقدت كل شيء في الطائرة عندما وقعت بالقرب من غابة الذئاب وفرت هاربة من هناك بأعجوبة، لعله يشفق على حالتها .

تصنعت الحزن وقررت إلا تتجادل معه تكون مثل الحمل الوديع
هتف سادم قائلا بصوت حاد:
-هل ستظلين متخشبة مكانك؟ هيا أسرعي لدينا عمل شاق
أبتلعت حديثه بمرارة ولكن أظهرت له عكس ما تخفيه داخلها واستقامت واقفة تُلبي رغبته بصمت قاتل وعيون مسبلت
عاد ينظر لها بدهشة ثم رفع إحدى حاجبيه وهتف بتسأل عن سبب تبدل حالها:
- ماذا بكِ ؟ لم أعتاد على صمتك هذا؟ اين اختفت ثرثرتكِ المتواصلة ؟

انسابت دمعة خائنة لم تجاهد في كبتها أو حجبها عنه فهي تريد أستعطافه وتحريك قلبه إذا كان يمتلك قلبًا من الأساس هكذا حدثت نفسها
ثم قالت بصوت خافت مُنكسر :
- ليس لدي مسكن سوا المشفى ،كما أن تحسن وضع قدمي ولم يبقى لدي حجة لامكث هنا وقتًا أطول؛ أنا مغتربة عن بلدي وأتيت إلى هنا من أجل منحة دراسية لإكمال دراسته الطب وعندما وصلنا لهنا حدثت الطامة الكبرى

ثم صمتت تنتظر تبادله الحديث معها
هتف بتسأل غليظ:
- وما هي الطامة الكبرى التي حدثت معكِ يا شرقية؟
- وقعت الطائرة بالقرب من غابة الذئاب وكل من كان عليها التهمته الذئاب ولم يتبقى الا شخصان أو ثلاثة فقط وتفرقنًا، ولا اعلم اين أذهب بعد الآن
هز رأسه بأسى ثم أخرج تنهيدة عميقة وعاد ينظر لها من راسها إلى أخمص قدميها ثم هتف بلامبالاة:
-حسنًا سوف تأتي إلى منزلي في المساء عندما ينتهي دوام العمل

همت بأن تعترض لا تريد أن ترحب بالمكوث معه على الفور ولكن أشار إليها بسبابته وعاد يهتف بغلاظة:
- ليس لديكِ حلا أخر ،ولا تخافين أنتِ ليس من النوع الذي أُفضله ، ستجلسين فقط ريثما يتنهي تدريبك معِِ
غادر الغرفة وقال لها بأمر: هيا أتبعينِ

بعدما غادر هو وقفت لحظات تُقلد صوته الغليظ وتهز كتفيها قائلة:
- هيا أتبعينِ يا لك من غليظً أيها الوسيم
ثم ركضت مسرعة تلحق به إلى حيث غرفة الهلاك بالنسبة لها، ترتاب كلما ولجت لداخلها وهي تقف بين جثث الأموات، رهبة وخوف شديد لم تشعر به من قبل ،رائحة المتوفين عالقة بكل بنث داخل الغرفة،

شعور بالتقذذ عندما تتذكر الفتيات الصغيرات ضحايا لمريض نفسي وقاتل مُحترف لن يترك وراءه أي دليل، تريد حل ذلك اللغز وما المشترك بين ضحاياه ولذلك ستظل بالمشفى ريثما ينتهي ذاك الكابوس ويتم القبض على القاتل هذا وتحاول أن تقدم كل ما وسعها من أجل العثور عليه وعلى أي طرف يصلها له فقد أقسمت لكل فتاة راءتها بأن تثأر لها وتفعل المستحيل من أجل العدالة لهن ، فهن زهرات صغار ليس لديهن ذنب ليتم قتلهن بتلك الوحشية على يد ذئب بشري ومريض نفسي عالق في أوهامه يتلذذ على ضحاياه بشهوة جامحة لا يمتلكها بشر ، فهو ليس كباقي البشر وأنما هو أبليس اللعين ، أفعاله ليست كأفعال بشر ..

تابعت عملها بصمت تام، منما أدهش "سادم" فلم يتوقع منها كل هذه الطاعة والخنوع ، فقد كان يتمتع برؤيتها تجادله في كلمة يتفوه بها ، ولكن لا يعيره إهتمام.
بعدما انتهى من عمله داخل المشرحه أخبرها بأنه سينتظرها بسيارته أمام المشفى ريثما تبدل ثيابها وتلحق به .

وبعد لحظات كانت تغادر "سيرين" المشفى وعلى ثغرها إبتسامة أنتصار بأنها حصلت على مبتغاها والان سوف تتفنن هي بالاعيبها لكي تنتهي من وعدها الذي قطعته وتسترد صديقتها "ماري" من بين أيادي الساحرة جونجان ويتجمعون ثانيًا هي وصديقتيها .

استقلت السيارة بجانبه إلى حيث وجهتهما وبعد مرور بضع دقائق كان يصف السيارة أمام البناية التي يقطن بها ، ترجل هو اولا ثم فتح بها باب السيارة لتترجل هي الأخرى واغلق بابها ثم سار بخطوات واسعة يدلف داخل البناية ثم صعد الدرج إلى حيث الطابق الثالث وفتح باب شقته وولج لداخل وهتف قائلا مرحبا بها:
- تفضلي سيرو
ضيقت حاجبيها بغرابة فقد نعاها بلقب لم يعتاد القول به ولكن دلفت بهدوء وظلت متسمرة مكانها
أشار إليها "سادم" بأن تقترب واوصلها لغرفتها :
- هذه غرفتكِ من الآن ،ثم أشار إلى غرفة بأخر الرواق وقال بتحذير:
- تلك الغرفة موصدة ولا تقربي منها فهمتي
أومت له بالايجاب ثم قالت وهي تفتح باب الغرفة خلصتها:
- أشكرك أستاذي

ثم ولجت غرفتها وأغلقت الباب خلفها وظلت تستند بظهرها عليه وهي تتنفس الصعداء وكان لديها شعور بالتعب والارهاق ، ارتمت بالفراش لتغوص داخله ثم اغمضت عينيها في سبات..

**
أعتادت "ماري" ما يحدث معها بتلك الليالي القمرية الماضية والان عادت لهيئتها ك بشرية
وظلت تبكي بنحيب على ما يحدث لها
انكمشت على نفسها عندما تذكرت أثناء تحويلها وما تناولته من دماء الغزالة منما جعلها تتقذذ من نفسها وتخرج ما في جوفها وشعرت بالألام تُقلص أحشائها وأفرغت ما فيها بتعب ووهن وشحب جسدها ثم عادت تتقوقع على نفسها بركن الكوخ .

و"ماكسر" يراقبها بحزن عميق
تذكره بنفسه عندما أبتعد عن المستذئبين واتخذ ذلك الكوخ مكاناً له وأقسم على نفسه إلا يتناول لحوم البشر ولا يتغذى على دمائهم وعندما تضرر به الجوع لم يجد أمامه غير الصيد، يركض يصطاد فريسته من الحيوانات والطيور ثم يسد جوعه ويعود ثانيا مستقرًا حزينًا داخل كوخه أو يذهب لمقبرة صديقته يعوي بصوت مكلوم يشكو بأثه وحزنه إليها وكأنها تشعر به ويريد منها أحتواءه وسماعه ومشاركته كل شيء كما كانوا يتشاركن كل شيء معًا..

كانت بؤبؤة عينيها تدور هنا وهنا بترقب وشردت تتذكر وجودها وسط عائلتها الصغيرة بين والديها وشقيقتيها الصغيرتين ، تتذكر لهوها ولعبها أمام منزلهم الجميل الهادئ
عادت بذاكرتها لأمانها ودفئ عائلتها ومشاكستها مع شقيقتيها والركض خلفهن

كانت فتاة جميلة هادئة لا تحمل هم الغد تعيش بسعادة وسط عائلتها الحنونة لا يخلو يومهم من الضحك والمرح، يلتفون حول والدهم في سعادة يقص عليهم القصص والحكايات ويحدثهم عن الاساطير اليوناني؛

فقد كان والدها قارئ جيد مولع بالقراءة فهي عشقه ودائما يختلي بنفسه داخل غرفته يبتعد عن الضجة بسبب شجارهم على أتفه الأسباب ويسرح بخياله الخاص مع عشقة المفضل من قراءة الكُتب المترجمة والروايات والصحف والمجلات فقد كان لديه ذؤق خاص وينتقي كُتبه بعناية ، وعندما ينتهي من قراءته يجتمع بهم في بهو المنزل ويقص عليهم ما قارئة ، كان يُنمي داخلهم حب القراءة والثقافة ومعرفة العلوم والتاريخ وكُتب السياسية وكل شيء قرأ عنه وهو من شجعها على دراسة الطب وشجعها ودعمها في تلك الخطوة الهامة بصمير حياتها ولب رغبتها في سفرها هذا.

بكت بحرقة وتمنت لو عاد بها الزمن لرفضت تلك المنحة الدراسية التي أودت بها لهذا الواقع المرير التي تعيشه الآن..
**
داخل غابة الأشباح
لم تهدأ "جونجان" عن غضبها المتواصل وهي تنتظر عودة "سيرين" و"الطبيب"
كان غضبها يحرق الاخضر واليابس، وركعت أمام المارد"دهمان" تُلبي فريضة الطاعة والولاء وهي تقول بأنكسار:

- فعلت كل ما أمرتني به، وإلى الان لن يأتي ذلك الملعون "سادم" هيا أخبرني ماذا بوسعي أن أفعل بعد كل ذلك؟ومن المعقول أن تلك الفتاة هربت ولن تعود ثانيًا، هي ليست بمجنونة لكي تعود تحت قبضتي ومن المؤكد أن بقوتها الخفية علمت مكان صديقتها كما أيضا ساعدت الأخرى والشاب على الفرار
هتف بصوته الفج وقال :
- أرسلي سمندر يتفقد الأمر وأرسلي معه قنينة الخضوع لاوامرنا وسوف يأتي ركضًا

لمعت عيناها بمكر ونهضت من أمامه تهتف بفرحة عارمة:
- حسنًا أعطني قوتك لفعل تعويذة الخضوع
ردد "دهمان" بعض الطلاسم ووضع كفيه الكبيرتين يمسح بها على وجهها ورأسها ثم قال وهو يتحول لدخان
- هيا أفعلي الآن

تكوم الدخان في دائرة ثم أختفى في لمح البصر وعادت "جونجان" إلى حيث الكوخ وجلست أمام النيران التي أشعلتها لتو ونثرت وريقات الأشجار الخاصة بنبة السحر الاسود وخرج صوتها بفحيح قوي وهي تنظر للبلؤرة المسحورة بترقب شديد

ثم التقطت القنينة التي وضعت بها قطرات المطر ومزجت بها نقطتين من دمائها ونبات أخر ليس له مذاق ثم غلقت القنينة بأحكام ووضعتها أعلى الجمر تتلون أمامها كما تتلون الحرباء وبعد لحظات بخت بها سائل من داخل فاها لتطفي النيران وتنخمد وسحبت القنينة والقتها داخل كوب من الماء لتعود بصورتها الاولى ثم صرخت مناديا الخُفاش تستدعية لمهمتة القادمة.

-"سمندر "...
أتا إليها مرفرف بجناحي في الحال
طوت ورقة قد كتبت محتواها لتفهم سيرين المطلوب منها ثم دستها هي والقنينة الصغيرة في قطعة من الجلد مرفقة بحبل ، لفت الحبل حول رقبة الخُفاش وقالت بلهجة أمره:

- ستذهب إلى عند "سيرين" وتعطيها ذلك ثم تعود ، أنتظرها أمام المشفى
طار على الفور يُِلبي رغبتها في طاعة أما هي فقد لمعة عيناها بسعادة بعدما رأت "سيرين" من بلؤرتها السحرية اين توجد الآن وهدات من ثورة غضبها فهذه الفتاة لازالت على وعدها معها ولن تخلو به..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي