الفصل الثاني البيت

(٢)

البيت


عندما تعود دائما بآخر اليوم إلى بيتك، تبدو وكأنك ترمي بكل هذا التعب الذي أثقلك طوال اليوم، في جدرانه وتفاصيله..

ألقت يارا حقيبة ظهرها على الأريكة، تمطأت بذراعيها؛ فوجدت صوت من خلفها يقول:
_ ألن تعلمي النظام أبدا؟ هل مكان تلك الحقيبة هنا؟

شهقت يارا وهي تضع يدها على صدرها، ثم التفتت ناحية والدتها وقالت:
_ أمي، لقد أفزعتني وبشدة، قلبي كاد أن يتوقف.

حملت والدتها الحقيبة، وألقتها بين يديها وهي تقول:
_ الحقيبة ليس مكانها هنا، ادخلي مباشرة إلى غرفتك، ضعيها بمكانها واغتسلي أولا قبل أي شيء.

رفعت يارا عينيها بملل وقالت:
_ حسنا، ألا تريدين أن تقولي لي شيئا آخر؟ لقد عدت إلى البيت بعد يوم طويل.

ابتسمت هالة وقالت لها :
_ الحمد لله على سلامتك يا صغيرتي، ولكن لا حديث عن أي شيء قبل أن تدخلي إلى غرفتك وتغتسلي، وتخرجي لنأكل سويا، أنا جائعة وانتظرتك طوال اليوم.

طالعتها يارا بلوم وهي تقول:
_ ولماذا لم تأكلي أي شيء، أمي هذا الأمر يجعلني أترك كل شيء من أجلك، من فضلك حالتك الصحية لا تسمح بأن تبقي كل هذا الوقت دون أكل.

ربتت هالة على ظهرها وهي تدفعها ناحية الغرفة وقالت:
_ من الجيد أنك تعلمين أنني جائعة، لا وقت لحديثك هذا اذهبي إلى غرفتك واغتسلي وأنا سأحضر الطاولة.

سارت يارا نحو غرفتها على مضض، دخلت ووضعت الحقيبة على الفراش وأخرجت محتوياتها وجلست وهي تفكر بتلك الحادثة وحالة هذا الطفل البشعة..

حتى جال بخاطرها يزن؛ فامتعض وجهها وقالت :
_ لا أعرف كيف سأذهب إليه غدا، من المؤكد إن لم يعجبه حديثي هذه المرة، سيلقيني في الحجز.

لملمت شعراتها السوداء الناعمة وقال:
_ ماذا أفعل؟ ولا أعرف لماذا يعاملني بهذا الشكل؟!

حركت كتفيها بتسليم ووقفت، سارت ناحية خزانتها، ثم تذكرت الحقيبة؛ فعادت إليها راكضة وأعادت المحتويات إليها، ووضعتها بمكانها..

كي لا تقتلها أمها هذه المرة، كما يفعل السفاح، ثم عادت للخزانة وحملت ملابسها النظيفة ودخلت إلى المرحاض..

عندما انتهت خرجت فوجدت والدتها تجلس على الطاولة وتنتظرها، جلست أمامها وقالت:
_ ما كل هذا الطعام؟ أريد أن أسألك سؤالا واحدا فقط.

وضعت والدتها الطعام في الصحن أمامها وهي تقول:
_اسألي مباشرة.

باشرت يارا تناول طعامها وسألتها قائلة:
_ كيف تستطيعين الصبر على أن تقاومي هذا الأكل، وأن تبقين إلى هذا الوقت جائعة؟!

ابتسمت هالة وقالت:
_ لأن هذا الطعام لن يكون له طعم وأنتِ لستِ أمامي يا صغيرتي.

وقفت يارا والتفت حول الطاولة، ولفت ذراعيها حول صدر والدتها وهي تحتضنها من الخلف وقالت:
_أمي، أنا أحبك بجنون، أدامك الله لي يا ست الكل.

ربتت والدتها على كفها وهي تقول بحنو:
_هيا عودي إلى مكانك وباشري تناول طعامك، فأنا أيضا جائعة.

عادت يارا وجلست إلى مكانها وقالت:
_ كنت أغطي حادثة اليوم، لهذا السفاح القاتل بشعة، إنه اختار هذه المرة طفل.

اسرعت والدتها وقالت:
_ يارا من فضلك، نحن نجلس على طاولة الطعام، ومن الأفضل ألا تخبريني، أنت تعرفين أنني لا أحب تلك القضايا، ولا أعرف لماذا تخصصت في قسم الحوادث؟

أومأت يارا براسها بانصياع وقالت:
_ حسنا يا أمي، لن أخبرك ولأبقى على نار هكذا، ولا أجد من أخبره بما حدث معي.

ارتبكت ملامح هالة وقالت:
_ يارا، أنا لا أريد أن أعرف شيء من فضلك .

هزت يارا رأسها بيأس وقالت:
_إلى متى ستظلين منقطعة عن العالم الخارجي، وتختبئين بتلك الشقة، ولا تخرجين منها، حتى الشرفات والنوافذ لا تتطلعين منها.

تطلعت احزنها فتابعت قائلة:
_ وكأن ذئبا ما ينتظرك، أمي أنا أشعر أحيانا أنك نفر من الجن!

ضحكت هالة وقالت:
_ من الجن مرة واحدة! أنا لا أريد أن أخرج من هنا، لأنني قاسيت مر هذا العالم ولا أريد أن انغمس به مرة أخرى، يكفي ما مررت به.

صف يزن سيارته الفارهة أمام قصر عمه، والذي يعيش معه بعد وفاة والدته ووالده، توقف قليلا وتطلع حوله على هذا المكان الكبير والذي يعيش به الاثرياء فقط ..

والذي يحاوطه الشكوك في كل تلك الجرائم التي تحدث، وكأن القاتل يتحداه هو شخصيا، وكأنه ندا له ويريد أن يثبت له أنه فاشل، ولم تخلو نظرته لهذا المكان من سؤال واحد..

من هي الضحية القادمة؟

ترك افكاره ودخل إلى القصر، استقبلته العاملة بالبيت وقالت:
_مرحبا بعودتك يا ابني.

ابتسم يزن إليها وقال:
_ شكرا لك يا خالة عزيزة أين هو عمي؟ أنا لا أراه على غير عادته!

أشارت ناحية غرفته التي بآخر الرواق وقالت:
_ يبدو أنه مريض اليوم، لم يفارق غرفته وسألني عليك أكثر من مرة.

اكفر وجه يزن وقال بضيق:
_ وبما أنه مريض، لماذا لم تتصلي بالطبيب الخاص به؟

اسرعت عزيزة وقالت:
_ لقد حاولت معه أن اقنعه بمهاتفته ولكنه كان يرفض، فهاتفتك أنت أيضا؛ كي آخذ رأيك ولم تكن ترد على اتصالاتي.

تهدل كتفي يزن وقال بإرهاق:
_ اليوم كان يوم متعب، لقد وجدت جثة لطفل، قتله هذا السفاح وكنت أحقق بهذا الامر، لهذا لم اتطلع بهاتفي من الأساس، أنا آسف.

ربتت السيدة على كتفه وقالت:
_ لا تتأسف يا يا ابني، أعانك الله، ولكن هذه المرة طفل! كيف حدث هذا؟

ابتسم يزن بسخرية وقال:
_ لا أريد أن احبطك، ولكن أعتقد أن هذا الطفل كان يستحق، وأعدك أنني لن أترك هذا السفاح إلا عندما أضع رقبته بين يدي.

ابتسمت إليه بود وقالت:
_ أنا أثق بك، وأعرف أنك ستتمكن من القبض عليه، ولكن الآن ادخل إلى عمك أنه ينتظرك.

سار يزن ناحية غرفة عمه، ثم عدل من هندامه وفتح الباب، دخل وما أن وقف أمام فراشه حتى أدى التحيه العسكرية وقال:

_ مساء الخير يا سيدي.

ابتسم تميم ابتسامة متسعة وهو يقول بمداعبة:
_ لقد تأخرت يا حضرة الضابط.

اقترب يزن وجلس على طرف فراشه وقال:
_ كان معي قضية مهمة، أنا أعتذر، عزيزة اخبرتني أنك ربما تشعر بتعب، هل اتصل بطبيبك؟

هز تميم رأسه بنفي وقال:
_ لا أريد أن تتصل بأحد، أنا اليوم أشعر بالخمول فقط ليس إلا.

طالعه يزن بتعجب وقال:
_ولماذا تشعر بالخمول؟ هل لأنني قصرت معك اليوم؟!

سحبه تميم المقعد المتحرك الخاص به وقال بجدية:
_ لا، مجرد خمول، لا تكبر الموضوع يا يزن، وهيا ساعدني كي نخرج ونجلس سويا، وتخبرني بأمر انشغالك لهذا اليوم، حتى انك لم تتذكر أن تهاتفني ولو لمرة واحدة.

قرب يزن المقعد منه وساعده في الجلوس عليه، ثم دفعه من الخلف وهو يقول بهدوء رزين :
_ سأخبرك بكل شيء، لأن القضية باتت معقدة أكثر من الأول، هذه المرة ضحية السفاح كان طفل!

التفتت تميم برأسه ناحيته وقال بصدمة:
_ ما هذا الجنون؟ يقتل طفل! إلى أين نحن ذاهبون مع شخص مريض مثل هذا؟!

فتح يزن باب الغرفة على مصرعيه وقال بتعب :
_ أرأيت، هذا ما أكابده طوال اليوم، ومنعني عن السؤال عنك، هيا بنا لنجلس بالخارج وسأخبرك بكل التفاصيل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي