الفصل السادس والعشرون معايير مختلفة

(٢٦)


"معايير مختلفة"



الصداقة هي المعيار الحقيقي للصدق، أن تشعر بصديقك دون أن يتحدث، أن تفهم ما يريد قوله من مجرد نظرة، أن تخاف عليه حتى من نفسه ..

لهو أعلى معايير الصدق على الإطلاق ..

اقترب معز من يزن بعدما وقف قرابة الدقيقتين وهو لم يشعر به وقال بصوت خفيض كي لا يفزعه :
_ يزن ما بك ؟

رفع يزن عيناه ناحيته وقال :
_ أنا في صدمة، لا بل أنت في كذبة، لا بل أنا قضيت عمري كله في الوهم .

جلس معز أمامه وقال :
_ يبدو أن الأمر أكبر مما كنت أتخيل، هل تريد أن تتحدث معي بهذا الشأن ؟

تنهد يزن مطولا وعاد برأسه إلى الخلف مستندا على المقعد وقال بأسى :
_ بلى أريد أن أتحدث، ولن أجد شخصا حولي أثق به سواك ز

ابتسم معز وقال :
_ وهذه شهادة أعتز بها، أنت أخي وصديق عمري، لا تقلق كل ما ستقوله سيدخل من أذني اليمنى يخرج من اليسرى .

ابتسم يزن بسخرية وقال :
_ لقد عرفت اليوم أن يارا التي أعشقها، ولا أتمنى زوجة لي غيرها، أختي .

ابتلع معز ريقه وقال له بنبرة متحشرجة :
_ ماذا ؟ ولكن كيف ؟!

نكس يزن رأسه وقال :
_ أختي من أمي .

اتسعت عيني معز بصدمة وقال ك
_ ألم تخبرني طوال الوقت الماضي أن أمك قد توفت .

اومأ يزن برأسه وقال بحزن :
_ هذا ما كنت أنا اعتقد، أو هذا ما قيل لي في طفولتي .

رفع معز سماعة الهاتف وقال :
_ الأمر يبدو جنونيا، أنا سأطلب فنجانين لا بل كوبين من القهوة؛ كي استوعب ما تقوله .

وبالفعل طلب من الساعي القهوة واغلق الخط وقال له :
_ احكي لي ما حدث من البداية، وكيف اكتشفت ان حبيبتك هي أختك .

وقف يزن والتف حول مكتبه وجلس على المقعد المقابل له وقال :
_ اليوم الذي كتبت فيه يارا المقال عن عمي، ذهبت إليها في الجريدة كي أوبخها .

اغمض عينيه وفتحهما بإرهاق وتابع قائلا :
_ واصطدمت بتلك السيدة التي عندما رأيتها شعرت أن ملامحها ليست غريبة علي، وعندما التقيت بيارا اليوم اخبرتني أنها أمها .

شرد بالبعيد وأردف :
_ طلبت منها صورة لها، لقد تقدمت بالعمر وتغيرت ملامحها بعض الشيء، ولكن عندما أرتني صورة لها وهي طفلة صغيرة مع أمها .

عاد لمعز بعينيه وتابع قائلا بألم :
_ عرفت وتأكدت أنها أمي .

سأل معز بفضول :
_ وكيف عرفت انها هي ؟ ربما وجه تشابه ليس أكثر بينهما .

هز يزن رأسه وقال بتأكيد :
_ بلى انها أمي، عندي صورة لها قد خبأتها منذ طفولتي، بعدما اخبرني عمي أنها توفيت بعد وفاة والدي مباشرة من حزنها عليه .

ثم ابتسم بسخرية وقال :
_ ولكنها قد تزوجت وأقامت حياة جديدة، وأنجبت طفلة ولم تفكر مرة في السؤال عني .

انتبها على طرقات بباب الغرفة فقال معز :
_ تفضل .

دخل الساعي ووضع أمامهم كوبي القهوة وخرج مسرعا، ارتشف معز رشفة كبيرة ثم وضع الكوب على الطاولة وقال :

_ سأعيدها مرة أخرى، ربما فقط تشابه في الشكل ليس أكثر .

تنهد يزن مطولا وقال :
_ هذا احتمال يعد واحدا بالمائة، ولكن أنا سأعرف بنفسي، كل ما أتعجب منه لماذا أخفى عمي عني إنها ما زالت على قيد الحياة .

تهدلت ملامحه وقال بأسى :
_ لماذا أوهمني بأنها قد ماتت ودفنت مع أبي ؟ لماذا يا معز ؟

اجابه معز ببديهية :
_ ربما خشي عليك من أن تحزن لانها تركتك بمفردك وبدأت حياة جديدة .

ضرب معز الطاولة بيده وقال بعصبية :
_ ليس من حق أي شخص أن يحكم علي، كان من الأولى أن يعرفني ويترك لي حرية الاختيار .

تمسك معز بكفيه وقال بإشفاق :
_ اهدأ من فضلك، بالنهاية عمك أفنى عمره كله عليك، ولا يستحق منك أن تدينه في أمر مثل هذا، إن صحت أنها أمك .

وقف يزن ودار حول نفسه وهو يقول بحدة :
_ لا أعرف من هو الظالم ومن هو المظلوم، ولكن كل ما أعرفه أنني الآن أشعر أنني كالدجاجة المذبوحة .

تمسك بعنقه وهو يقول بصوت مكتوم :
_ والتي تتخبط أثناء خروج روحها من جسدها .

سأله معز بهدوء :
_ وهل أخبرت يارا عن شيئا من هذا الحديث .

ابتسم يزن بخفوت وقال :
_ لا لم أخبرها بشيء، فهي مثلي مجرد ضحية وأمها ضحكت عليها وأخفت الأمر عنها .

طالع معز وهو يقول :
_ الجيد في الأمر أنني خرجت من هذه الدوامة بأخت صغيرة، لا أعرف كيف سأتقبل الأمر، ولكن الوقت كفيل بمداواة كل شيء .

وقف معز هو الآخر أمامه وقال :
_ ماذا تنوي أن تفعل الآن ؟

ضيق يزن عينيه وقال بضيق :
_ من المؤكد سأواجهها، لأعرف لماذا تركتني بهذا الشكل ؟ ولماذا لم تفكر بي ثانية واحدة .

تمسك برأسه وقال من بين أسنانه :
_ هناك أسئلة كثيرة تحطم رأسي، بل تنهشه و أريد أجوبتها عليها .

ربت معز على ذراعه وقال بحنو :
_ أنا إلى جوارك، وإن احتجت أي شيء في هذا الشأن أنا معك ولن اتركك .

ابتسم يزن بهدوء ابتسامة مصطنعة وقال له :
_ أعرف، أدامك الله في حياتي يا أخي، اذهب الآن إلى مكتبك لكي تنهي ما طلبته منك .

سحب نفسا طويلا وقال :
_ وأنا سأحاول أن أخرج من تلك الأفكار، وأعمل على تلك القضية يجب أن ننهيها في الوقت القريب .

أجابه معز بجدية :
_ حسنا، وأنا معك، لقد قاربنا على الوصول، لن أشغل بالك بشيء إلا عندما تكتمل رؤيتي .

تطلع إليه بإشفاق وقال :
_ ولكن حينها سنرتاح جميعا، أنا في مكتبي إن احتجت لأي شيء فقط هاتفني .

أومأ يزن برأسه وقال :
_ حسنا وشكرا جزيلا لك .

طالعه معز بلوم وقال :
_ لماذا تشكرني لطالما تحملتني وتحملت مشكلتي مع أبي، الآن اتحملك ولو لمرة واحدة، والآن عد إلى عملك .

تركهم معز وخرج، فالتفت مجددا حول مكتبه وجلس خلفه وهو يتنهد بألم وقال :
_ لماذا يحدث معي كل هذا ؟

وقف سالم في شرفة قصر أبيه يتطلع حوله على هذا المكان الواسع الممتدة فيه المساحات الخضراء، والتي كانت منذ فترة قصيرة تعج بالسكان ..

والذين يستمتعون بتلك المناظر الخلابة، ولكنها الآن خاوية وقد غزاها الخوف والرعب، بعدما تملك هذا القاتل منها ولا يستطيع أحد ايقافه ..

عاد وتطلع خلفه وقال لهؤلاء الأشخاص الواقفين أمامه :
_ أريد منكم مراقبة كل شبر في هذه النقطة، أريد زرع كاميرات في كل مكان .

نفث دخان سيجارته وقال :
_لا أريد أن اكتفي بالكاميرات الموضوعة، كل أسرة يجب أن تراقب كل بيت و يجب أن يخترق .

لمعت عينيه وقال بتلهف :
_ أنا أريد أن أصل إلى قاتل والدي بأي شكل قبل الشرطة .

حك أحدهم أنفي وأجابه قائلا :
_ سنفعل لك كل ما تريد، ولكن الشرطة في كل مكان هنا، وإن تحركنا سيبدؤون باستجوابنا وسندخل في نفق مظلم .

فتح سالم خزنته وأخرج منها مبلغ مالي كبير وبدأ في رصة على المكتب بشكل أفقي وقال :
_ أعرف أنكم تستطيعون فعل كل ذلك دون أن تشعر بكم الشرطة، وأنا مستعد لدفع ما لا يتخيله عقلكم .

توقف وقال بحزم :
_ فقط كلما أريده هذا القاتل، وأعلم أنكم جديرون بهذه المهمة .

لمعت عيني الرجل وهو يطالع الأموال التي ترص فوق بعضها كالجبل ثم قال :

_ سنفعل كل ما بوسعنا، ونعدك أننا بأقرب وقت سنستطيع تجميع أكبر قدر من المعلومات والصور، كي نوقع به .

ابتسم سالم بخوف وقال :
_ وأنا أثق بكم ولكن كلما أريده هو السرعة في الوقت ز

أجابه الرجل قائلا :
_ لا تقلق نحن فريق كبير، وسنبقى هنا كأننا أصدقاء لك ونقيم معك .

أومأ سليم برأسه وقال :
_ البيت كله تحت أمركم، إبقوا فيه كيفما شئتم .

تطلع رجل آخر حوله وقال :
_ سنضع شاشات المراقبة الخاصة بنا في هذا المكان الفارغ، وسنغلق تلك النوافذ جميعها، لا نريد أن يشعر بنا أحد .

أمن سالم على حديثه وقال :
_ معك حق، كما قلت لكم البيت تحت أمركم، إفعلوا به ما شئتم، أنا أريد هذا القاتل وبشدة .


بعد أن أنهى يزن عمله عاد إلى بيته وهو يتخبط كالشخص الثمل، والذي شرب ما يفوق قدرته من الخمر ..

ولكن يزن شرب من الدنيا ما يكفي، أن يحيا طفولة كاملة يتيم، وأن يشب على تلك التربية الجامدة من عمه ..

وأن يصبح ضابط شرطة عكس ما كان يريد؛ كي يرضي عمه وأن يقضي وقته كله في التحقيقات، وألا يشعر بالحياة كما يشعر بها أي شاب في عمره ..

استوقفته عزيزة وهي تقول :
_ يزن أُحضر لك الطعام يا حبيبي .

التفت يزن ناحيتها وقال :
_ لا، لا أريد أنا سأصعد إلى غرفتي .

خرج عمه من غرفته وهو يقول :
_ ستصعد إلى غرفتك دون أن تمر علي ! أنا أنتظرك .

لم يتطلع يزن ناحية وقال ببرود :
_ لقد تعبت اليوم وأحتاج إلى قسطا من الراحة .

حرك تميم الكرسي وقال بتعجب :
_ لطالما كنت تتعب في عملك، ولكنك دائما ما كنت تمر علي ونتحدث قليلا .

لاحظ جمود يزن فقال بترفق :
_ هل أنت بخير يا حبيبي ؟

هز يزن رأسه وقال بسرعة :
_ لا لست بخير، ولا أريد المزيد من الأسئلة أنا متعب، بل مستهلك، من فضلكم اتركوني وشأني .

اقتربت عزيزة منه وتمسكت بذراعه وقالت :
_ حبيبي إن كنت تشعر بأي شيء من الألم أو من التعب سأهاتف الطبيب كي يأتي لطمأننا عليك .

طالعها يزن بابتسامة خافتة وقال :
_ شكرا جزيلا لك، أعرف إنك تعبت من أجلي تلك السنوات المنصرفة، وكنت عوضا لي عن أمي التي تركتني .

ابتسمت عزيزة وملست على شعراته وقالت بحنو :
_ أنت تعلم جيدا أن معزتك من معزة ابنتي، وأنني كنت أترك ابنتي كي أهتم بك أنت .

طالعها يزن باهتمام فتابعت :
_ و ه١ا ليس فقط من أجل المال، ولكن لأنك كنت تحتاج الرعاية فأصبحت الأقرب لقلبي وغلاتك من غلاتها .

انحنى يزن وقبل مقدمة رأسها وقال :
_ وأنت أيضا في مثابة أمي، أرجو منك أن تسامحيني إن اغضبتك في أي وقت .

ابتسمت عزيزة وقالت :
_ الأم لا تغضب من أبنائها أبداً، بل تسامحهم في وقت غضبها أكثر من وقت فرحها بهم .

تنهد يزن بأسى وقال :
_ شكرا جزيلا لك على كل شيء .

سأله تميم بجدية :
_ الأمر يبدو خطيرا، ماذا هناك يا يزن وما الذي ذكرك بأمك من الأساس ؟!

تطلع يزن ناحيته وقال :
_ لا شيء، لقد غفوت لدقائق في المكتب ورأيت أمي، فقط هذا السبب الذي يجعلني أحن إليها .

أومأ تميم برأسه وقال :
_ حسنا، رحمها الله .

تطلع يزن أمامه على الدرج وقال :
_ معك حق رحمها الله، ورحم الله أبي وتقبلهم عنده .

حرك تميم كرسيه مجددا واقترب منه وقال :
_ قلبي يخبرني أنك تخفي عني شيئا، وشيئا قد جرحك، أنا أفهمك جيدا من عينيك .

تأوه يزن مطولا وقال :
_ أنا لست مجروحا بل مذبوحا يا عمي، من فضلكم أنا أريد أن أصعد إلى غرفتي ربما أرتاح بعض الوقت .

ثم دخل إلى غرفة عمه وهو يقول :
_ سأدخل إلى غرفتك واستعير حبة من الحبوب التي تأخذها لكي تنام؛ فأنا أريد الهرب من التفكير بأي شكل .

اسرع تميم وقال بذعر :
_ ولكن تلك الحبوب خطر عليك .

لم يستمع إليه يزن والتقط حبة من العلبة وأغلقها مجددا ووضعها في فمه وهو يقول :
_ أتمنى هذا الخطر كي أرتاح مما أنا فيه، سأترككما الآن وأصعد إلى الأعلى، ربما أنام .

ابتلعها و صعد الدرج وابتعد عنهما، فاقتربت عزيزة من عمه وقالت :
_ ماذا به يا ترى ؟ لم أره في حياتي بهذه الحالة !

التف تميم مباشرة على غرفته و دخلها وصفع الباب خلفه؛ فانتفضت عزيزة في وقفتها وقالت :

_ ماذا به هو الآخر ؟ حقا إنها عائلة مجنونة .

توجهت ناحية المطبخ وقالت :
_ سأعود إلى مطبخي كي أنهي تلك الصحون التي تنتظرني .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي