الفصل العاشر ذكاء السيكوباتي

(١٠)


"ذكاء السيكوباتي"




جلس على فراشه ولم يبدل ملابسه حتى، والحيرة تقتله، لا يعرف هل ما يدور برأسه صحيح ..

أم أن عمله فرض عليه أن يشك في كل من حوله، حتى نفسه !

رفع يزن رأسه وتطلع حوله بخواء وهو يكاد يلعن إختياره لتلك الوظيفة، و التي يفني بها أحلى أيام عمره، ولا يستمتع بحياته حتى ..

ابتسم بسخرية وقال في نفسه :
_ " أنت هنا لسبب ما، لكل شيء سبب وقدر، اعترف أن هذا مكانك المناسب، حتى ولو لم تكن مستمتع" .

انتبه يزن لطرقات على باب غرفته، فقال بصوت عال :
_ تفضلي يا عزيزة .

انفتح الباب ودخل تميم وهو يحرك كرسيه قائلا بلوم :
_ لماذا لم تمر عليٰ بغرفتي أولا كما اعتدت.

لاحظ شحوب وجهه فسأله بقلق :
_ هل أنت بخير يا يزن ؟

وقف يزن وهو يبتسم وسار حتى أصبح أمامه وقال له بهدوء :
_ نعم أنا بخير، ولكن الحيرة والشك يقتلونني .

جذبه تميم من ذراعه وأجلسه على أقرب مقعد وقال له بعتاب :
_ أين الثبات الانفعالي يا حضرة الضابط، أنت تترك عقلك للاحتراق، فقط اهدأ وحاول أن تترك لعقلك مساحة من الراحة في البيت .

أومأ يزن برأسه وقال له بانصياع :
_ حسنا، ولكن أريد أن أناقش معك الكثير مما حدث اليوم .

تنهد تميم بحزن وقال :
_ صورة سعيد وهو يقع أمامنا قتيلا لا تفارق عيني، هذا الرجل كان هادئ وحالم .

ثم طالع يزن وتابع بإشفاق :
_ وطوال الوقت خائف ولا نعرف مما كان يخاف لهذا الحد ؟!

اجابه يزن بنبرة ثابتة :
_ لقد كان يخاف مني ومنك ومن أي شرطي .

ضيق تميم عينيه بتعجب وقال :
_ ولما ؟ هل هي فوبيا مثلا ؟!

هز يزن رأسه نافيا وأجابه قائلا :
_ لا، تجارة المخدرات هي السبب .

اتسعت عيني تميم و عاد بظهره إلى ظهر كرسيه وقال بصدمة :
_ ماذا ؟ مخدرات! وما علاقة سعيد بتجارة المخدرات ؟!

_ إنه كان يتاجر بها، ولا أعرف كيف لم يلاحظه أحد، لقد وجدنا تحت أحد الأسرة في بيته ما يقارب الثلاثة مليون جنيه، لم يضعهم في أي من البنوك .

هز تميم رأسه وهو يقول بهيستيرية :
_ لا، سعيد لا يستطيع فعل ذلك، أنت لا تعرفه إنه بريء للغاية كأنه طفل صغير .

مرر يزن أنامله في شعراته وقال :
_ بل نحن من اكتشفت أننا أطفال، لا تثق بأحد يا عمي، هذه كانت أول معلومة قلتها لي بعد تخرجي .

أومأ تميم برأسه وقال :
_ نعم معك حق، إذا فهذا القاتل المختل اختاره لأنه مخطئ، كما يقول في مبدأه الواهي .

_ نعم لقد ترك لنا مقطعاً مصور لسعيد وهو يتبادل الحقائب مع شخص مجهول.

ثم حرك عنقه بإنهاك وقال :
_ وعندما بحثنا عن تلك الحقيبة في البيت، وجدنا بها ما لا يقل عن خمسة كيلو جرام من المخدر البودرة .

سأله تميم بفضول :
_ وكيف مات ؟ وما هو تقرير الطب الشرعي ؟ وكيف تسمم هو و نحن لم نتسمم ؟!

نفخ يزن بصوت عالي وقال بنزق :
_ هذا ما يجعل عقلي يكاد ينفجر من التفكير، إن أثبت التقرير غدا بأن السم قد وضع في الكعك .

ساد الصمت لدقائق حتى تابع يزن قائلا :
_ حينها أنت تعرف الباقي .

طأطأ تميم رأسه وقال بتسليم :
_ نعم أعرف، من المؤكد ستتوجه أصابع الاتهام ناحيتي .

تمسك يزن بكفيه وقال :
_ حتى وإن ثبت ما قلناه، أنا لن أتركك؛ لأنني أثق بك وأعرف جيدا أن هذا القاتل يحاول الزج بأسامي كثيرة .

ثم لمعت عينيه بشر وقال :
_ كي نتشتت ونبتعد عنه، لم أرى بذكائه بحياتي كلها .

ضرب تميم مقبض كرسيه وقال بضيق :
_ إلى متى سنبقى في هذا الحال ؟ فهو يلهو بنا كدمى "الماريونت" ونحن لا نستطيع حتى إيقافه أو تعطيل مخططه .

تطلع بيزن وهو يلامس وجهه بكفيه وقال :
_ أخشى علينا من أن نكون نحن أحد ضحاياه، أتمنى الموت لي ولا إني أرى بك سوءا .

انحنى يزن وقبل كف عمه وقال :
_ لا تقلق من شيء، إن الله معنا، والآن دعني أساعدك في العودة إلى غرفتك؛ كي تخفوا بعض الوقت .

ثم وقف والتف خلف كرسيه وقال وهو يدفع أمامه بقلق :
_ لا نعرف ماذا يخبئ لنا الغد .


كانوا ثلاثتهم في حيرة من أمرهم، الشك لم يتوقف عند من هو المجرم فقط، بل تسلل إلى بيوتهم ..

كلا منهم يقف في شرفته يتطلع بأي شيء، ولكن عقله في عالم آخر من التفكير والقلق بكل شيء..

يزن الذي وجد نفسه أمام إتهام عمه الذي رباه ورعاه، بعد موت والده ووالدته، فأفنى حياته حتى دون أن يتزوج ..

ومعز الذي لا يجد سببا لوجود والده بمكان الجريمة، ولا بهذه الطريقة المريبة، حتى أنه لم يعود إلى البيت حتى الآن..

وهاتفه مغلق ولا يعلمون عنه شيء، كعادته الفترة الاخيرة، والده لسنوات وسنوات يعيش معهم ببيت واحد ولكن وكأنه منعزل عنهم ..

وبين يارا التي عقلها ينزرها بالأسوء، بعد كذب والدتها عليها، وإخفاؤها أمر خروجها من البيت، وسؤال يتردد برأسها ..

" أين ذهبت ولمن ؟! "

الشك مرض، ولأي مرض علاج إلا الشك، لا يقطعه إلا اليقين، ولا تمحيه إلا الحقيقة والوضوح..

ولكن أي حقيقة فيهما هي الموجعة؟ وأي ألغاز أخرى تنتظرهم؟ وأي حزن في الطريق إليهم؟

كلا منهم يرى أنه الأسوء حظا في هذا العالم ولكن ما عند الله خير وأبقى دائما وأبدا ..

استسلموا لفكرة أن كل شيء بيد الله؛ فدلفوا إلى غرفهم وناموا، لا يعرفون هل هو من التعب والإرهاق ..

أم هروب من الواقع الذي سيفرض عليهم أشياء، لم يكونوا يتخيلونها في يوم ما ..

وبقي اثنان منهم هناك نبضات حائرة، تهدئ من تفكيرهم هي تفكر في كلماته الأخيرة لها، وهو يفكر في أن هذا الوقت ليس ملائم لأن يعترف بأن قلبه أخيرا دق ..

فلينتظر حتى الوقت المناسب، أو ربما تحدث أشياء تجعل من الأمر مستحيل، وليس المستحيل الذي يمكن علاجه، بل المستحيل الذي يقتل ويدمر ..

سار وسام ناحية مكتبه، وهو يتحدث مع زميل له ويناقشه في أمر ما، حتى وجد معز ويزن يقفان أمام مكتبه وينتظرانه ..

استأذن من زميله وتوجه ناحيتهم وهو يقول :
_ صباح الخير .

أسرع يزن قائلا :
_ إنه صباح مثل أي صباح، ماذا حدث وماذا اكتشفت ؟

فتح وسام باب الغرفة وهو يقول :
_ سندخل في العمل مباشرة، ما رأيكم في أن أحضر فطارا وأكواب الشاي ونجلس لنتناول فطورنا ثم نتحدث بهدوء .

جلس معز على مكتبه وقال بنبرة قاطعة :
_ أين التقرير يا وسام لا وقت لدينا .

رفعه وسام عينيه بملل وقال :
_ لم اكتبه بعد ولكني عرفت الكثير .

أسرع يزن قائلا بتلهف :
_ فلتتحدث وتخبرنا بما عرفته كله دون أن تغفل لأي تفصيله .

ارتدى وسام نظارته الطبية وقال :
_ لقد اثبتت عينات الأحشاء أن السم منتشر في كل شيء، في الكعك في السجائر في يده في كل شيء.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي