الفصل السادس سمٌ قاتل

(٦)


"سمٌ قاتل"



كان يزن يسير بخطوات متثاقلة، وهو يلف في دوائر حول تلك الجثة الملقاة أمامه..

وهو يراقب عمل وسام الذي يفحص القتيل بعناية، ثم وقف أمامه وقال بهدوء :
_ يزن، إنها حالة تسمم واضحة .

أومأ يزن برأسه وقال بتأكيد :
_ نعم كنت أعرف، كل تلك الأعراض أعراض شخص متسمم .

ثم التفت ناحية الأربع رجال الجالسون يتابعون التحقيقات، وجثة صديقهم الملقاة أمامهم بحزن شديد وخوف..

اقترب يزن منهم وقال :
_ من فضلكم، أريدكم أن تخبروني كل شيء، أدق التفاصيل ستفيدنا وتساعدنا في معرفة القاتل .

حرك عمه تميم الكرسي وقال :
_ نحن جئنا إلى هنا بدعوة من سعيد، لم نكن نعرف أنه ينوي عقد هذا الاجتماع .

سحب يزن كرسي وجلس أمامه وقال :
_ أنا لا أضعكم بدائرة الشك، ولكن أي تفصيله منكم ستفيد التحقيق .

أومأ الجميع برؤوسهم بانصياع؛ فقال محمد بتوتر :
_ لقد اتصل بي سعيد، وطلب مني أن أتي لزيارته في الساعة الرابعة عصرا، وقال أنه أخبرهم وأنهم قادمون؛ فأتيت .

ثم قال إبراهيم بتلعثم :
_ وأنا ايضا اتصل بي وطلب مني أن أتي عنده الساعة الرابعة .

سألهم يزن بتركيز :
_ وعندما أتيتم، ما كان سبب دعوته لكم ؟

اجابه تميم بثبات :
_ الجميع هنا يعرف أنني كنت لواء سابق؛ فطلبوا مني المساعدة في أن نشدد عمليات التحصين والتأمين بإضافة العديد من الكاميرات وزيادة أفراد الأمن على كل بيت .

قاطعه عبد الرحمن قائلا :
_ نعم هذا ما كنا نتحدث به، وكنا على وشك الاتصال بالشركة المسؤولة عن نظام المراقبة والتامين هنا في "الكومباوند".

ثم ضغط شفتيه وقال بحزن :
_ ولكن فجأة، تشنج سعيد وأخذ ينحني من ألم كبير في بطنه، ثم ألقى بجسده على الأرض وأخذ يصرخ، وخرجت تلك السوائل البيضاء من فمه .

ثم صمت لبرهة وهو يكفف دمعة انسابت من عينيه وقال :
_ وما هي إلا دقائق، وسكنت حركته تماما ومات .

اسرع إبراهيم قائلا :
_ لقد كنا نتناول نحن الأربعة الكعك والشاي، ولم يصيبنا شيء، وإنما هو من تسمم.

ثم وقف وقال بخوف:
_ أريدكم أن تفحصوا الأكل والشاي، وفحصنا نحن أيضا، ربما نحن قد تسممنا ولكن السم سيظهر مفعوله علينا بعد قليل .

قال تميم بتردد :
_ يزن، أنا من أحضرت الكعك معي، ولكنني طلبته من المخبز بالهاتف .

أومأ يزن برأسه متفهما، ثم صاح في وسام وقال :
_ وسام تعال هنا من فضلك .

أغلق وسام سحاب الكيس الجلدي الذي وضعت به جثة سعيد، وأشار إلى الجنود بنقل الجثة إلى عربة الاسعاف ..

ثم اقترب من يزن قائلا :
_ تفضل لقد انتهيت .

وقف يزن أمامه وأشار على الكعك والشاي وقال :
_ الجميع يظن أن الكعكة والشاي هما السبب في مقتل الأستاذ سعيد، هل تعتقد أن السم قد وضع بالكعك وهم تناولوا منها وتناولوا الشاي، والآن السم سيكون بأجسادهم؟

أسرع وسام قائلا :
_ لا، من خلال فحصي المبدئي للجثة، ذلك السم سريع المفعول ولن يكون بأجسادهم، ولو ذرة قليلة منه، لكانوا تسمموا بنفس الوقت الذي تسمم به الضحية.

ومع ذلك يرجى نقلهم إلى المشفى، لعمل التحليل اللازمة، لكشف إن كان بأجسادهم السم أم هو فقط من تناوله .

انحنى تميم والتقط شيئا بجوار كرسيه المتحرك، ورفعه أمام يزن وقال :
_ تلك علبة السجائر الخاصة بسعيد .

صرخ به وسام قائلا :
_ هل جننت! لا تلمس شيئا بصماتك تلك التي أصبحت على علبة السجائر، ربما تضيع آثار نحن بحاجة إليها ز

اجابه تميم بنبرة متقطعة من الخجل:
_ أنا أعتذر، لم أكن أقصد ولكن العلبة كانت تحت عجلة الكرسي المتحرك، ولم يرها أحد، فالتقطتها وناولتها إليكم .

لاحظ يزن توتر عمه، فصرخ بوسام قائلا بغضب :
_ هل جننت؟! هل تتحدث بتلك الطريقة مع سيادة اللواء تميم الصواف ! إنه عمي .

ضغط وسام على شفتيه بخجل وأجابه :
_ أنا لا أقصد أن أغضبه مني، ولكن أنت تعرف جيدا مجرد لمسة للعلبة، أصبحت بصماته عليها أولا، وثانيا ربما قد محى معها شيئا سيدين القاتل.

اقترب وسام والتقط علبة السجائر بيده التي كان يرتدي عليها قفاز مطاطي وقربها من عينيه ..

ثم أخرج جهازا من حقيبته، يشع ضوء أزرق وبدأ بتمرير هذا الجهاز على علبة السجائر ..

ثم اتسعت عينيه وقال بصدمة :
_ تلك العلبة هي التي بها السم .

اقترب منهم معز وقال بتعجب :
_ وكيف عرفت أن تلك العلبة هي التي بها السم ؟!

رفع وسام عينيه بملل وأجابه على مضض :
_ أنا لست جزارا هنا، أنا طبيب شرعي وبأدواتي وخبراتي، أستطيع أن أعرف .

حرك يزن كتفيه بتسليم وقال :
_ وهل مررت هذا الجهاز على الكعك والاطباق وأكواب الشاي .

_ نعم مررتها على الأطباق وأكواب الشاي، ولكن ليس بهم اي مادة سمية.

ربما وضع السم في الكعك نفسه، وعندما أكلوه لم يترك أي أثر بالأطباق .

سأله معز بفضول :
_ كيف اعتقدت أن الكعك من وضع به السم ؟ بعدما وجدته على علبة السجائر .

حرك وسام نظارته الطبية بتوتر وأجابه :
_ أنا أشك بكل شيء، وسنأخذ عينات من الأربع رجال؛ كي نتأكد ولكن مبدئيا السم وضع في علبة السجائر.

تطلع بتميم وقال وهو يناوله قفازا مطاطيا :
_ ارتدي هذا القفاز فورا، من المؤكد السم بيديك .

التقط تميم القفاز وارتداه، بينما فحص وسام علبة السجائر ثم أخرج منها ورقة صفراء جعلته يصرخ بفزع :

_ يا الهي! إنه هو، كيف وصل إلى علبة سجائر الرجل ؟ ويقتله بتلك الطريقة البشعة ؟!

ضيق معز عينيه وسأله بتعجب :
_ من تقصد ؟!

رفع وسام تلك الورقة الصفراء التي عليها رمز الميزان وعبارة هذا القاتل "السيكوباتي" .

اغمض يزن عينيه ومرر كفيه على وجهه وقال بحنق :
_ هذا الرجل يتلاعب بنا .

قال له محمد بتوضيح :
_ علبة السجائر الخاصة به، هي من نوع كما ترون نادر الحصول عليه، ويأتي له خصيصا من الخارج، وجميعنا لا ندخن، ولم نلمس تلك العلبة لأنها دائما في جيب بنطاله.

وقف معز بجوار يزن وسأله :
_ إذا كيف وصل السم إليها؟ وكيف وصل هذا القاتل إلى علبة السجائر ووضع بها الكرت والسم ؟ مما أدى إلى قتل هذا الرجل بهذه الطريقة!

هز يزن رأسه بعدم فهم وقال :
_ لا أعرف كيف حدث كل هذا ؟ ولكن لحظة!

بدا وكأنه تذكر شيئا ما؛ فتمسك بذراعي معز وقال له :
_ بكل مرة يقتل شخصا ما، يترك لنا قرصا مدمج مع الضحية، هل تعتقد في هذه الحالة سنجد هذا القرص؟

ثم صمت لبرهة وتابع :
_ أم لم يتمكن من وضع ما يدين هذا الرجل كما يفعل كل مرة ؟

حرك معز كتفيه وقال :
_ لا أعرف، ولكن يجب أن نكثف البحث في البيت بأكمله، ربما نجده .

اقترب المسعف من الرجال الأربعة وقال :
_ من فضلكم تفضلوا معنا، يجب نقلكم إلى المشفى حالا لأخذ العينات، والاطمئنان على صحتكم .

ضيق تميم عينيه، وطالع يزن بنظرة طويلة ثم قال :
_ وهل نحن في دائرة الشك ؟

اجابه يزن بعملية :
_ أنت سبق وكنت رجل شرطة، وتعرف جيدا أن الشك لا يترك أحد.

رفع تميم حاجبيه بصدمة؛ فأسرع يزن قائلا :
_ ومع ذلك أنا أثق بكم جميعا، هذا القاتل قد خطط ودبر لكل شيء منذ فترة، ويعرف جيدا ماذا يفعل .

لاحظ استرخاء معالم وجه عمه فتابع بحرص :
_ وأنتم هنا لأنكم تساعدوننا، لا لأنكم فقط بدائرة الشك.

انتبهوا جميعا على صوت عالي يأتي من الخلف، ويارا وحسام يحاولون اختراق رجال الأمن؛ كي يدخلوا إلى الحديقة..

هز يزن رأسه بيأس وهو يقول :
_ لا فائدة، لن تتركنا وشأننا هذه المجنونة المتطفلة .

اقترب يزن بكرسيه من يزن، وشده من ذراعيه مقربا أذنه منه وسأله بفضول :

_ هل تلك البنت هي من اخبرتني عنها ؟!

قال له يزن بهمس لائم :
_ عمي، هذا ليس وقته من فضلك .

قال له تميم بإصرار :
_ لن اتركك إلا إن اخبرتني .

تنهد يزن باستسلام وقال له :
_ نعم هي .

ابتسم تميم وهو يطالعها جيدا وقال له باعجاب :
_ إنها جميلة للغاية، احسنت الإختيار يا ولد .

اعتدل يزن في وقفته وهو يقول بصوت عالي :
_ اذهبوا مع المسعف كي نطمئن عليكم .

بالفعل انصرف الأربع رجال مع المسعف، وطالع يزن معز الذي كان يطالع البيت ..

التفت إليه قائلا بحماس :
_ يزن، يجب أن نعثر على هذا القرص، أنا أثق جيدا أننا سنجده في البيت، هيا بنا .

اغلقت هالة الباب خلفها واستندت بظهرها عليه، وهي تبكي بحرقة، ثم خلعت حذائها ووضعته مكانه ..

دخلت تسير بغير هدى، حتى ارتمت بجسدها على الأريكة وهي تقول بنحيب :

_ اشتقت إليك كثيرا يا محمود، اشتقت إليك وإلى حبك وحنانك، لقد رأيت ابننا اليوم، ولم استطع أن أتحدث معه ككل مرة.

كففت عبراتها في المحرمة وتابعت :
_ لطالما أخبرتك أن زواجنا خاطئ من البداية، وأنني لا أليق بك، ولكن أنت من أصريت على إتمام تلك الزيجة .

حركت كتفيها وقالت بهيستيرية :
_ وها أنا قد حرمت منك بموتك، وحرمت من ابني أيضا، الذي لو أخبرته بالحقيقة؛ لأصبح في عداد الأموات هو الآخر .

وقفت وهي مطأطأة الرأس، وسارت حتى غرفتها وبدأت في نزع ملابسها التي باشرت بغسلها على الفور ..

بعيني تلمع وكأن بهما نار، نار الانتقام التي تنهشها، ولكن لم تكن مشتعلة بالقدر الكافي لأن تجبرها على أخذ حقها وحق ابنها من هذا القاتل ..

بعد أن انتهت، جففت ملابسها وأعادتهم إلى الخزانة كأنها لم تغادر هذا البيت، ودخلت إلى غرفة يارا وباشرت بتنظيفها ..

وما أن طالعت صورتهما معا، والتي تضعها يارا على المكتب، حتى ابتسمت براحة وحملت الصورة وقالت :

_ أنت الوحيدة التي تعينني على اشتياقي لابني، وأنت الوحيدة التي تجعلني أتمسك بهذه الحياة، التي لا أرغب بأي شيء منها سوا أن أراك سعيدة.

ثم تنهدت مطولا وجلست على الفراش وقالت :
_ وأرى ابني أيضا سعيد .

تركت الصورة على ساقيها، ورفعت عينيها قليلا بشرود وتساءلت :
_ هل لو رآني ابني سيتذكرني ؟ سيعرف أنني أمه ؟ هل سيسامحني ؟

أعادت الصورة إلى مكانها والتفتت منصرفة من الغرفة وهي تقول:
_ سآخذ حق ابني وحق والده، ولكن كل شيء بأوان .

جلست على الأريكة وهمست بذعر :
_ المهم الآن، ألا يعرف هذا المجرم مكاني، وإلا مخططي بالكامل سيفشل، وأنا لن اتركه على قيد الحياة.

جزت أسنانها وقالت بشراسة :
_ وستكون نهايته على يدي، لأخلص البشرية منه ومن شره، تأكد جيدا أنني لن اتركك .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي