الفصل التاسع مشتبه به

(٩)


"مشتبه به"


خرج يزن من بيت ملك وهو يزفر بغضب، بينما لاحظه معز فاقترب منه وهو يقول بتعجب :
_ يزن ما بك ؟!

تمسك يزن برأسه بكفيه وقال بفقدان صبر :
_ تلك المجنونة أكلت عقلي، إنها تحتاج الى مشفى للمجانين .

سأله معز بترقب :
_ هل أخبرتك شيئا عن القاتل كما قالت ؟

هز رأسه نافيا وقال :
_ لا، بل قالت لي أنها كانت في علاقة ما مع شخص ما، وأنها لم ترى شيئا قبل أو بعد الجريمة.

ابتسم معز بسخرية وقال :
_ وإن كان هذا ما حدث لماذا طلبتك في بيتها ؟

قال له يزن وهو يتطلع حوله :
_ لا شيء، فقط لتخبرني أنها بإمكانها أن تبقى في علاقة لساعات .

ثم عاد بعينيه لمعز و قال له ببديهية :
_ مجرد أن اشتهيها وأطلبها في يوم، تلك الامثلة الرخيصة أعرفها جيدا .

لاحظ معز نظراته المبعثرة حوله فسأله بخبث :
_ هل تبحث عن شخص ما من مكان ما ؟

تهدل كتفي يزن وقال له بيأس :
_ معز من فضلك .

ابتسم معز وقال :
_ حسنا لقد غادرت يبدو أنها حصلت على ما تريد وذهبت لعملها .

ثم تطلع معز بساعة الهاتف وقال :
_ اعطنا فقط ساعتين، وسيأتيك إشعار جريدتها الإلكترونية؛ بأن مقالها اصبح جاهز للعرض .

رفع يزن حاجبه وقال له ببوادر غضب :
_ وكيف عرفت أنها غادرت؟ هل تلاحقها عينيك أنت أيضا يا صديقي ؟!

اسرع معز وقال وهو يرفع كفيه في الهواء :
_ لا، أنا أراها بومة، وقلت لك ذلك سابقا، فلتستمتع بها أنت.

ثم تطلع ناحية بيت ملك وقال بتنهيدة طويلة :
_ أنا أريد شخصا كجارتك تلك، أن تدعوني إليها على العشاء، وأتناوله لأني جائع.

ثم غمز له بعينه وقال :
_ وربما أبقى على وضعي هذا لساعات طويلة، كما تحبه هي، لأنني أتضور جوعا لعشاء متفجر الأنوثة مثلها .

ضحك يزن ضحكة عالية وهو يدفعه أمامه قائلا :
_ هيا لنذهب إلى اللواء لإخباره بالمستجدات، هيا أنا لا عقل لي لمزاحك هذا .


دخل يسري على يارا المكتب وهو يقول بصوت عالي :
_ يارا، لماذا تأخرتِ؟ أين المقال الجميع ينتظره ؟!

رفعت رأسها ناحيته وأعادت شعراتها للخلف وقالت :
_ حالا، أنا أنهي آخر التفاصيل، يبقى فقط أن يأتي لي حسام بالصور كي أسلمها "للأدمن" المسؤول عن الصفحة .

دلف يسري إلى الغرفة وقال وهو يطالعها بجديه :
_ وهل تحصلتِ على أكبر كم من المعلومات ككل مرة ؟

أومأت يارا برأسها وقالت :
_ نعم لدي الكثير من المعلومات، ولكن سأتابع المقال غدا، سأبقي نهايته معلق حتى خروج تقرير الطب الشرعي وتشريح الجثة .

ثم تركت القلم من يدها وقالت :
_ و هذا ما سأبني عليه مقالتي الأخيرة لهذا القتيل .

حمسها يسري قائلا :
_ وأنا انتظر المقالتين، وأثق بك جيدا، هيا لا تتأخري .

ابتسمت وقالت له :
_ حسنا يا أستاذ يسري لا تقلق .

وقفت زميلتها أمنية وقالت بضيق :
_ كان بإمكانك أن تلقي علينا السلام يا أستاذ يسري، ألا يوجد بالمكتب غير يارا .

التفت يسري ناحيتها وقال بتعجب :
_ لما لم القي السلام ؟! ألم تكوني معي منذ قليل في مكتبي ؟ أمنية ليس برأسي مكان لتفاهاتك، عودي إلى عملك الذي طلبته منك .

امتقع وجه يارا ووارت ضيقها وعادت لمطالعة أوراقها، بينما قالت أمنية :
_ نعم أعلم أنني كنت معك، ولكن كان بإمكانك أن تستدعيها لمكتبك، لا أن تأتي بنفسك إليها .

خرجت يارا عن صمتها وقالت :
_ أمنية من فضلك، اخرجيني من رأسك، أنا أخشى عليك أن أصيبك في يوم ما بشيء لن يستطيع أحد علاجه.

ثم عادت لمطالعة عملها وهي تتابع بسخرية :
_ حبيبتي ألا تخشين على صحتك وصحة عقلك، بأن لا يحتمل الكثير من يارا أكثر .

صكت أمنية أسنانها وقالت بغضب :
_ وهل تعتقدين أنني أراكِ من الأساس .

ابتسمت يارا وقالت :
_ لا ولكنك لا تري شخصا آخر غيري .

ثم التفتت ناحية يسري وقالت له :
_ أريد أن ينقل مكتبي إلى أي مكان، حتى ولو دورة المياه، لأبتعد من أمامها كي تستطيع حتى العمل .

رفع يسري عينيه بملل ورفع سبابته في وجهيهما وقال بضيق:
_ هذا الشجار يجب أن ينتهي الآن، وما طلبته منكما يجب أن ينتهي حالا ويكون على مكتبي في خلال نصف ساعة.

طالعهما شرزا وتابع بحدة :
_ نحن في جريدة لها شأنها، وهذا النزاع سيؤذيكما، وربما يدمر أحدكما .

تطلع بأمنية وقال :
_ وأقصد بأحدهما هذا، أنت يا أمنية .

كادت أن تفتح فمها لترد عليه، ولكنه أسرع قائلا :
_ لا أريد المزيد من الكلام، أريد العمل وفقط .

ثم التفت بظهره وخرج من المكتب مغادرا، فأسرعت يارا مباشرة عملها، كأن شيئا لم يحدث ..

بينما طالعتها أمنية بغيرة وحقد وعادت وجلست على مكتبها وهي تطالع الملف الذي أمامها بشرود ولم تستطع المتابعة ..

أنهت يارا تقريرها وذهبت إلى غرفة حسام، تطلعت بالصور واختارت منها المناسب، ثم ذهبت إلى المشرف واعطته المقالة والصور ..

غادرت من فورها وهي تتطلع إلى ساعة معصمها بخوف، استقلت أحد سيارات الأجرة الخاصة التي نقلتها إلى بيتها، صعدت الدرج مسرعة ..

حتى أنها اصطدمت بأحد جيرانها فالتفت إليه وقالت بخجل :
_ أنا أعتذر يا سيدي .

ابتسم الرجل وقال لها بخفوت :
_ لم يحدث شيء، ولكن المرة المقبلة كوني على حذر .

أومأت له برأسها وقالت على استحياء :
_ حسنا سآخذ حذري، شكرا لك يومٌ سعيد .

تركته وأكملت ركضها على الدرج حتى وقفت أمام باب شقتها، استجمعت كامل قواها ودست المفتاح بالباب ..

دخلت قائلة :
_ أمي أين أنت .

حملت حذائها من أمام الباب ووضعته في مكانه، ولكنها لاحظت شيئا غريب، حذاء والدتها والتي لم تكن تمتلك غيره لأنها لا تخرج، متسخ !

شعرت بالغرابة، بينما قطع تفكيرها خروج هالة من المطبخ وهي تقول :
_ لماذا تأخرت ِ ؟ لقد سأمت هذه الجملة من كثرة ما قلتها .

التفتت يارا اليها وقالت :
_ لقد كان لدي المزيد من العمل، أنهيت المقالة وسلمتها، واتيت من فوري على البيت .

أشارت لها هالة على غرفتها وهي تقول :
_ اذهبي حالا إلى غرفتك، اغتسلي وبدلي ملابسك ومن بعدها حالا على الطاولة، لأني اتضور جوعا .

أدت يارا التحية العسكرية وقالت بمزح :
_ حسنا يا سيدتي، لن أتأخر عليك .

سارت خطوتين ثم التفتت إليها وقالت :
_ أمي، هل خرجت اليوم من البيت ؟

ارتبكت هالة وقالت :
_ لا لم أخرج بالطبع .

توقفت يارا مكانها وسألتها بصدمة :
_ متأكدة أنك لم تخرجي اليوم ؟!

هزت هالة كتفيها وقالت وهي تتطلع بأي شيء حولها :
_ أنا لا أخرج وأنت تعلمين هذا، ولكن لماذا تسألين هذا السؤال اليوم ؟!

توقفت يارا عن مجادلتها وقالت :
_ لا شيء، فقط مجرد شعور لا أكثر .

اتجهت هالة على ناحية المطبخ وهي تقول :
_ حسنا يا أم الشعور، اذهبي إلى غرفتك وافعلي كما قلت لك، أمامك فقط خمس دقائق لتكوني أمامي .

اجابتها يارا بشرود :
_ حسنا يا أمي .

بعدما اطمأنت أنها دخلت إلى المطبخ عادت مرة أخرى إلى حامل الأحذية، ورفعت حذاء والدتها والذي علق به الطين والاشجار الخضراء الصغيرة..

والتي تكون في الحدائق، ثم أعادته مكانه وقالت في نفسها :
_ "لماذا اخفت عني أنها خرجت؟ ماذا يدور برأسك يا أمي؟ أنت في الفترة الاخيرة تبدين مختلفة تماما" ؟

ثم توجهت ناحية غرفتها وهي ما زالت تفكر فيما حدث، ولكن لن تضغط عليها؛ فهالة لا تستحق منها ذلك وان كانت لها جانب تخفيه فهذه حريتها ..

دلفت غرفتها ورغم تعجبها من هذا الموقف إلا إنها لم تشعر بنفسها وهي تخرج هاتفها من الحقيبة وضغطت رقم يزن الذي اجابها بعد اول جرس..

وقال بنبرة ثابتة:
_ نعم ماذا تريدين؟!

سألته باندفاع:
_ اين أنت الآن؟!

ضيق يزن عينيه وقال:
_ ولماذا تسألين؟!

وصل إلى أذنها صوت اندفاع الهواء بقوة إلى جواره فقالت له:
_ هل أنت بالسيارة؟

اجابها يزن وهو يبتسم بانتشاء:
_ نعم أنا في السيارة .

قالت دون وعي منها:
_ إذاً لم تطل مقابلتك أنت وتلك الراقصة .

كتم يزن ضحكته بصعوبة واستجمعها قائلا :
_ وما شأنك أنت؟

ابتلعت ريقها بتوتر من غبائها وقالت :
_ لا شيء، أريد أن أعرف هل قالت شيئا ما؟ هل رأت القاتل؟

تطلع من نافذة السيارة بالطريق وهو يبتسم براحة وقال:
_ إنه أمر خاص بالتحقيقات ولا يجب علي إفشائه، عامة هل تريدين شيئا آخر؟

صكت يارا على أسنانها وقالت :
_ لا أراك في الصباح.

استند برأسه على الباب المجاور له وقال :
_ وأين ستجدينني؟!

أجابته ببديهية :
_ عند الطبيب وسام، من المؤكد أنك ستذهب لتأخذ منه تقرير التشريح للجثة، وأنا كل ما أرجوه منك بعض المعلومات ولو حتى قليلة.

لاحظت لينه وصمته فتابعت قائلة :
_ لأبني عليها مقالي للقادم، ربما أساعدك كما قلت.

أسرع يزن قائلا:
_ لا أريد مساعدة منك، ولا أريد رؤيتك أيضا.

تهدل كتفيها وقالت بحزن:
_ لماذا تعاملني بهذه الطريقة؟! هل تعامل كل الصحفيين الذين يغطون الأحداث معك هكذا؟

شعر يزن بغصة في قلبه من حزنها فقال لها بهدوء:
_ لا، أنتِ شيء آخر.

قالت له بضيق:
_ ألهذا الحد تكرهني؟

ابتسم بسخرية، حتى إنها استمعت إلى أنفاسه وترجمت تلك الابتسامة وقال لها:
_ بالعكس تماما، أراكِ غدا.

أغلق الخط بينما هي بقيت على حالها والهاتف على أذنيها، لا تصدق ما قاله، وعقلها يحاول ترجمة كلماته..

"بالعكس تماما"، إن كان عكس ما يكرهها هو ما يدور برأسها فهي مؤكد تحلم ولكنه حلم جميل للغاية..

أغلق يزن الهاتف وشرد بالبعيد وهو يتطلع من نافذة السيارة، إلى الخارج يفكر بهذه المجنونة التي اصابت قلبه مباشرة..

وكان وكأنما الأرض جميعها قد خلت من النساء وبقيت هي، لاحظ معز حالته وشروده..

فتنحنح قائلا :
_ يزن إلى أين ذهب تفكيرك؟!

عاد إليه قائلا ببساطة :
_ لا شيء، فقط أفكر في تلك القضية المعقدة، والتي تزداد تعقيدا يوما بيوم.

عاد معز لمطالعة الطريق أمامه وقال له :
_ معك حق، هذا القاتل ذكي للغاية، ولكننا سنستطيع أن نوقع به.

سأله يزن بفضول :
_ ماذا كان يفعل والدك عندنا اليوم؟!

حرك معز كتفيه وقال :
_ لا أعرف، قال أنه قد جاء للاطمئنان علي، ولكنني لا أصدقه.

ابتسم يزن وقال له بسخرية :
_ وهل تشك بوالدك أيضا؟! يبدو أن عملنا هذا يجعلنا نشك حتى بأقرب الناس إلينا.

التفت معز ناحيته وسأله بترقب :
_ يزن هل تشك بعمك؟! لهذا قلت هذا الحديث؟

تنهد يزن تنهيدة طويلة وقال :
_ إن كنت عاقل، فهو آخر شخص قد افكر فيه، خاصة وأن حالته صحية.

ثم طأطأ رأسه وقال :
_ كما ترى أنه لا يسير، مجرد مشلول على كرسي متحرك، ولكن هناك دلائل كثيرة ضده .

ثم ابتسم بسخرية وقال :
_ خصوصا لو أخبرنا وسام غدا بأن الكعك كان به سم، وهذا ما أعتقد أنا.

سأله معز بجدية :
_ وإن كان كما تقول، بأن الكعك كان به سم، فكيف أكل منه عمك والرجال الآخرون ولم يصيبهم هذا السم وأصاب سعيد فقط؟!

انتظر يزن لبعض ثواني واجابه قائلا :
_ لا أعرف، ولكن سأنتظر التقرير قبل أن أحكم، وأخشى أن يكون ما في بالي صحيحا.

أغمض عينيه وقال بألم :
_ حينها ربما ألقي القبض عليه، حتى وأنا أعرف أنه مظلوم، وذلك سيكون أصعب موقف قد مر علي بحياتي كلها.

تطلع بمعز وقال :
_ أنت تعرف أنه أغلى شيء بحياتي، لذلك لم أخشى من شيء كما أخشى من الغد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي