Survivor

شفق ناري`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2023-11-30ضع على الرف
  • 42.6K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

مُدخل

أصوات قنوات التلفاز الإخبارية مُتداخلة مع بعضها تصنع ضجيج مُزعِج مع شوشرة تَصمُ الأذان، حتى صدح صَوْت مُذيعة إخبارية تُملى آخر الأحداث:
«رحلة مدرسية انتهت بحادثٍ شَنِيعٍ، أدى إلى مَصرع جميع الطُلاب.»

في الجِهة الأخرى يَبزغ صَوت المُذيع مُتأسفًا لأهالي طُلاب الحادِثة:
«حضرات السادّة المُستمعين، لا أهلًا ولا سهلًا، فـ مَا ليّ أنّ أُرحبُ بِكم، ولا اليوم يومٍ مُشرقٌ لِـ نتمناهُ."

تجعدت ملامحه بجزع لِمَا يحدث خلفه من تسارع الجميع لإنقاذ الارواح الطاهرة: «نُرسل تَعازينّا الحارة إلى جميع العائلات، نأسف لذلك أشدُ الاسف.»

ضَوضاءٌ تعمّ الأرجاءِ، صَوتُ نواح مُتحسر، مُتألم، وأصوات البكاء تتعالى مع كُل خبرٍ يلوح في الأرجاء.

دماءٌ مُتناثرة، وعظامٌ مُهشمة، أجسادٌ سُلِبت أرواحها، وقلبٌ يكاد يفتك بهِ، غُبارٌ يتصاعد مِن أسفل التل حيثُ رائحةٌ الموت تحوم حول الجميع.

كيف لِلنفس أنّ تَستكين وهي فُقِدت رَوحها؟
كيف لِلعقل أنّ يَحيّا أبد الدَهرّ وهو لَشاهدٌ لِلمَوتِ رَفيق؟

ما أصعبُ النَدمَ! وما أصعب الفَقدَ! فمَا أصعبِ تجمعهم معًا؟

لم تتمالك مُذيعة الأخبار دموعها للتساقط فوق ملامحها التي حاولت المحافظة عليها: «كُل حَادِثَة تنتهى بِـمَصْرَع بعض الأشخاص، وأصابة بعضهم، وينجو فئة، وهذه الفئة الناجية تهوّن هوّل الحَادِثة.»

طالعت الشاشة العملاقة بجوارها تنظر إلى الحافلة المُحترقة بالكامل لتسترسل بنبرةٍ آجشة. «لكن المُفْجِع أن لا أحد، لا أحد أراد النَجَاة، لا أحد أراد التشبُث بالحياة، وكأنهم تعهدوا على الموت سويًا.»

قلب أحد مواطنين المدينة قناة التلفاز ليجد أحد المُذيع ينقل الخبر كذلك بلسانٍ بليغ. «تنقبض عضلة القلب من أجلهم حُزنًا، والعين تذرف الدمع من هوّل ما حدث لهم، ينفطر القلب لأجل الطُلاب الذين مُنذ لحظاتٍ كانوا يضحكون، ويمزحون، ينتهى بهم الأمر مفقودون أسفل التراب!»

فقد المواطن عقله، أهذه الرحلة التي ذهب ابنه إليها؟ هل غدى ميتًا الان، أم هذا خبرٌ كاذب؟

يتَناثَر الخبر كتناثر البُخار المُتصاعدٍ مِن الحافلة المدرسية المُدَمرة، يزيد مِن تألم جميع المستمعين.

أصوات التقاط الصور مِن قبل الصحافة، صَوت المروحية التي تُنير موقع الحادثة، صَوت بوق سيارة الإسعاف، واِكتمل المنظر بِـنظرة تَحسّر رجال الأمن عندما لم يجدوا أحدٌ على قَيدِ الحياة.

فكيف سوف يجدون الحياة في وَسط يَحيطهُ الموت مِن كُل اِتَّجاه؟

لكن فجأةً صَوْت أمل أنشقُ وسط هذه العتمة، يَخبر الجميع أنه على قيد الحياة، ويُطالب بمَن يمدّ له يد العون.

زادت لهفة الصحافة على معرفة مَن هو الناجي الوحيد، يتسابقون لكي يصورون ما يحدث بشغفٍ لتوثيق لَوعة البقاء حيًا.

تحرك مذيع يتواجد في الموقع ليصور المشهد بصورةٍ واضحة أكثر بينما ينطق بلهجة تشعب بها الأمل: «يبدو أن أحد الطلاب قد تشبث بالحياة ليقص لنّا ما حدث لرفاقه.»

حمحم المُذيع يستشعر بشاعة ما نطق به ليسترسل مصححًا حديثه: «فالنصلى له بقلوبنا فـ أن الأمر ثقيل ليتحمله بشرًا.»

رجال الأمن والإسعاف يهرولون باتَّجاه الحافلة، وسيارة الأسعاف تنتظر الناجي الوحيد لِـإسعافهِ في الحَال.

لقد كَانت نَاجية واحيدةٌ فقط، لمْ تَكن لتُدرك سَبب نجاتها، ولن تُدركهُ بِسهولةٍ، ألم الفَقد مُهلك، وتَشعب رهاب الموت يَفتك بعظامها.

صدمةً لا مَثيل لها تَحوذ على بدنها، أما طُوق نَجاتها يكاد ينقلب لحبل مشنقة يلتف حول رقبتها.

هذا الموقف يَمر في خلال دقائق، لكن بالنسبة للجميع فهي ساعاتٍ تَمُر ببُطءٍ، بُطءٌ قاتل يُؤلم المعدة.

هذا هو وقت الحُزن لا يَمُر بسهولةٍ، وكأنه يُريد تذكيرك وترسيخ آلامك لأطول مُدة مُمكنك، بينما الفرح يَمر لحظاتٍ عابرة دون الوعي بها حتى.

إنهُ مَفهوم الحياة تسلب منكَ أكثر مما تَعطيك.

.

الناجية الوحيدة؛ سولين باركر.

الحياة لَيست سهلة، إنها مِثل الغَابة مليئة بِالطُرق الوَعرّة، والحيوانات المُفترسة، بها الكثير مِن الصِعاب لن نستطيع التعايش معها أو تَقبُلها.

: «كذلك الحياة غابة والجميع يتصارع لِلبقاء بِها حيًا.»
نبستُ بينما امرر يدي فوق قبورهم ذات الشواهد الرخامية محفورة عليها اسماء مَن كانوا يومًا أصدقائي.

لكن بالتفكير في الأمر، إن لم يكن لدينا نحن البشر غريزة البقاء، ونزعة الحياة لم نكن لنكمل جيلٍ بعد جيل، لم يكن ليكون لدينا هذه المُعِدات المُتطورة لِأعالتنا على النجاة.

ورغم هذه الفُرصة المُتاحة حولنا للنجاة ما زال التعايش مع جَرحٍ لم يذبُل أمرٌ مُرهق ومُهلك للنفسِ البشرية.

: «كيف سوف تؤلني نفسي بالتعايش مع حالة النجاة؟»
تساءلتُ لعلهم يجبوني.

ضحكتُ أضع الأزهار فوق التُراب تزامنًا مع سقوط الدمع من عيني لعله يريح خاطري ولو قليلًا: «مَا زالتُ لا أعلم هل نجاتي هي نعمة أم نقمة؟»

ضَحكتُ ساخرةٌ رغم كُل شيء ما زالتُ في صراعٍ يفتك بمشاعري: «لكن مَن سوف يعلم؟»

ها أنا جالسة أمام قبور أفئدتي احاول تهدئة خواطري؛ لكي أنجو بروحي مِن الخرابِ المُلتحف حولي.

مِن البِداية أدركتُ أن جسدي فقط مَن نَجى، روحي، وعقلي، ومشاعِري سُلبت معهم أيضًا، فقط عُودتُ جسدٌ خاوٍ مُمتليء بالندباتِ والكدمات إلى عائلتي.

روحي مُعلقة، تُناجي لِلتحرر مِن قيودٍ مُلتفة حولها، قيود ألفها عقلي ليحيطني في حالة النجاة يحميني من تلفٍ لتصبح روحي هي التالفة.

: «روز، چاسمين، أستمعاني؟ أيمكنكما الشعور بي؟» تساءلتُ ولم امانع من سماع أصوات أشباحهم تجيبني، لن اخشاهم، لكن فقط اسمع اصواتهم للمرة الأخيرة.

زفرتُ الهواء استشعر خواء صدري، ورغم ذلك نبستُ ببسمةٍ اخبرهم عن يومي كما كنت افعل دومًا: «اليوم لوكاس والرفاق فازوا بالمبارةِ، لقد هلل الجميع لفوز مدرستنا، لكن لم أرى السعادة تضوى في ملامحهم يا روز، لم أرى حماسة الرفاق وثورانهم بمجرد أخذ الكأس يا چاسمين، ولم أشعر بعناقكم يدفئ بردي كذلك.»

مُجددًا تساقطت الدموع تروي الأزهار أسفلي، ومُجددًا تنفلت شهقاتي الضعيفة، تزيد همي، وتزيد ألمي: «يا ليتنا لم نذهب، يا ليتني لم اقنعكما بالذهابِ، لكنتم معي اليوم لتجعلونه هيّن على قلبي.»

صوتي يخرج بصعوبة.

وشعور الندم؟ الذنب رُبما قد افتك أم مشاعري يجعلني خالية الوفاض من تعزياتهم.

اجثو أمامهم اترجاهم للعودة، أنزفُ بدلًا عن أدماعي، أبكي وأنوح بلا هوادة، لكن بأي آلاء سوف يُجيبنّ؟ بأي وسيلةً سوف يعودون؛ فلقد غدوتُ وحيدة مُجددًا.

نفيتُ سريعًا واسترسل وكأنهم يسمعون أفكاري، ابرر لهم علتي لعلهم يشفعون لي: «لستُ وحيدة بلا رِفقة، بل بِلا روحٍ تَسكن جسدي حيث أصبح للوحدة مفوهمًا آخر.»

زفرتُ الهواء المتوسط صدري لعلي استطيع التنفس يومًا، افضفض لهم عن القليل الذي يهلكني: «لقد هُلكت، ونفَذت طَاقتي، وما زالتُ أشعرُ بِدمَاءكم الدافئة تُدغدغ بَشرتي، تَحرق جلدي وتَنهش عظامي. هذا مُتعب وقد وَصلت ذروتي من التحملِ.»

لا علم لي كيف أخبرتهم بذلك، لكنني
لا أُريدُ مُجرد النّجاة بعد الآن، بَل أُريدُ أنّ أحيا حيًا.

«انا سولين باركر، الناجية الوحيدة،
وهذه رسالتي_ ليّ ولكم.»

«لِكُل روحٍ انهكتها الحياة، وفَتك بِها البَشر، نحن نتنفس وهذا كافٍ لنبقى ناجين مِن خراب العالم.»

«لِكُل فَاقدٍ، لم يَتنهى العالم عِند شَخصك المُفضل، عَجلة الحياة تَدور، وإذا لم تُباشر في ركضك كَركض الوَحوش في الغابة سوف تُدهس، وتزهق روحك بأبشعِ الطُرق.»

«تَشجع يا رفيق، وأفتح بَصيرتك العالم ما زال يتواجد بهِ الخير، لذا ابتسم وتقبل صِعابهُ بصدرٍ رَحب حتى تَستطيع التعايش مع فَرِقة الناجين.»
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي