٢٤ وهم

خرج والديها لمقابلة الطبيب ليحدثهم بكُل شفافية دون التحيز أمامها، وظلت سولين جالسة تنظر للنافذة بملامح منكسرة تدل على حزنها العميق.

«مهما طال الزمان سوف يظل جرح الفقد غائر غير ملتئم بعد.»

جذب انتباهها لأصوات ضحكات چاسمن وروز حولها وكأنهم متواجدين معها تمامًا، ألتفت سريعًا حولها تنظر في الأرجاء بنظراتٍ مشتاقة، ظامئة من رؤيتهم.

: «يا رفاق؟ هل أنتم هُنا؟»

همست سولين خائفة أن ينفروا من صخب صوتها.

و فجأة وجدت چاسمن تقترب منها بأبتسامتها الواسعة، جلست على السرير أمامها، وروز تسند ذراعها على چاسمن وتضع يدها الأخرى على خصرها تطالع سولين بأبتسامة جانبية قائلة بسخط ممزاح: «تعافي سريعًا، فلدينا حفلة نميمة تنظركِ.»

عينيها احمرت من الأسفل والدموع تتكثف بهم تجعل عينيها تتلألأ، أبتسمت بأتساع غير مصدقة: «أنتم بخير حقًا!»

تبادلا روز وچاسمن النظرات بأستنكار وقالت روز تلكم ذراع سولين بمزاحٍ: «أنتِ التي أصبتِ يا فتاة وليس نحن!"

وعندما نظرت روز إلى سولين التي تناظرها بعدم تصديق: «تلعمين هناك خمس أصابع، وخير الأمور أوسطها.»

قالت ذلك رافعة اصبعها الأوسط وهي تقلب عينيها بملل من بلادة سولين.

قطبت سولين حاجبيها، وأنزلقت دموعها بكثرة تغرق وجنتيها، مدركة الفوارق ومدرك الوهم الذي يلتحف حولها: «روز لا تفعلها، تخجل عندما تفعلها چاس.»

شهقة فلتت منها، ثم استنشقت الهواء بكثرة لرئتيها، ابتلعت غصتها قائلة بنبرة متهدجة: «أنتم.. هذا ليس حقيقي!»

استمعت لأصوات ضحكاتهم ترتفع أكثر بصخبٍ لتضعت يديها فوق اذنيها عندما استمعت لأخر صرخة اصدرتها روز قبل الحادثة، تتكرر بقوسة على مسمعها.

تكورت على نفسها أكثر تشعر بقلبها ينقبض بقوة، ينزف، تشعر بألم قلبها ينتشر ويفتك بجسدها بأكمله، ظلت الصرخات الهالعة تتكرر على مسامعها تجلد ذاتها، كأنها تُذكرها لتجعلها تتألم أكثر ليس إلا.

: «توقفوا! فقط توقفوا!»

لم تتوقف الأصوات حولها، نفت برأسها بقوة وهي تشاهد مقتطافات من بداية هلعها من وقوع روز إلى انقلاب الحافلة وبقائها بمفردها.

«ذكرياتها تعاد بقسوة تجعلها تسقط للقاع مُجددًا ومُجددًا بلا رحمة.»

تحدثت بشفاه مرتجفة تندثر اكثر بين الاغطية وكأنها تخفي نفسها عنهم، كأنها طفل يخشي الأشباح: «لا أريد رؤية هذا، لا أريد.»

ازدادت صوت الصراخات والأنين المتألم الذي يخترق قلبها وليس مسامعها فقط، صرخت بقوة حتى شعرت بأن اذنيها اصابهم الصنم: «توقفوا، توقفوا لا أريد الإستماع، لا أريد رؤية هذا مجددًا.»

اقتحم لوكاس الغرفة راكضًا عندما استمع لصوت صراخها من الممر، وجدها بحالة مزرية تغرز أصابعها بشعرها ترجعه للخلف بقوة، أخذها بين احضانه يربت على ظهرها ويقول كلمات مهدئة.

«لكنها فقط قابلت عناقه الدافئ بنفورٍ تحاول دفعه ويحاول هو جعلها تتوقف عن غرز أصابعها في رأسها وكأنه راغبة في نزع ذلك الصوت من الرأسها، لا الدفء يستطيع اذابة ذلك الجليد الذي التحف حول رحباة صدرها ولا الكلمات تستطيع اختراق طنين اذنها.. لا شيء يجدي نفعًا وهي أكثرهم علمًا بذلك، لذا جميع المحاولات في نظرها فاشلة حتى وان كانت تجدي نفعًا.»

فهذه ليست المرة الأول، رغم مرور تلك الايام منذ استيقاظها هي ما زالت تكرر ذات النوبات.

: «سولين، سولين!»

صاح لوكاس بها، صاح بقوة يمسك يديها يمنعخا من الانفلات: «انظري إلى عيناي، سولين انظري لي!»

صاح مُجددًا يخترق صخب عقلها، وتصرخ هي تشعر بالضغط أكثر وكأن يوجد الكثير في الغرفة يتحدثون وهي تعلم بحقيقة أنهم أموات تجعلها تفقد العقل: «توقفوا! اصمتوا يكفي!»

صَرخت فجأة بأعين جاحظة وكأنها عادت لأرض الواقع لتبصر أنه لا يوجد أحد سوى لوكاس الذي يناديها.

: «لوكاس!»

همست بارتجاف. ويزفر لوكاس الهواء براحة يؤمي لها: «أنا هُنا، سول. أنا هُنا ولا يوجد سواي.»

طمئنها يمرر يده فوق رأسها وتسقط رأسها فوق كتفه تبكي بحرقة وهي تضع يدها على قلبها الذي تشعر به يكاد يخرج من بين ضلوعها من سرعة نبضه: «هذا غير عادل.»

همست بضعفٍ، وربت لوكاس فوق ظهرها: «لا بأس، أنا معكِ الان.»

تقف الممرضة خلف سولين لتحقنها بمهدء مثل كل مرة تصاب بنوبة، لكن هذه المرة ألتفت ذراعيها حول رقبة لوكاس تعانقه بقوة، لم تدفعه، لم تصرخ به، بل تشبثت به، وما زالت عينيها تدمع: «لا أريد سماع ذلك مُجددًا!»

تفاجئ لوكاس في بادئ الأمر، لكنه أبتسم يأخذ كمية كبيرة من الهواء إلى رئتيه يشجع نفسه ثم يزفره وهو يربت على ظهرها يبادلها العناق: «لن تستمعي له مُجددًا.»

شهقت سولين لكي تستطيع أخذ انفاسها والتوقف عن البكاء: «أراهم.. لوكاس، أنا أستطيع رؤيتهم و ما زلت أشعر بهم حولي، لكنه غير حقيقي.. هم ليسوا أشباح!»

عندما كادت الممرضه تحقنها بالمهدء بدون أن تعلم سولين أشار لوكاس لها بألا تفعل، ثم ربت على ظهر سولين، ويمسد شعرها بخفه: «هم ليسوا كذلك يا سول، هم ليسوا كذلك.. أنه حُلم سيئ فقط.»

زادت من شده عناقها تخبره بما يضيق صدرها بصوت يتخللهُ التحسر مُفرجة أخيرًا عما بصدرها له: «عندما أكاد أتخطي ما حدث، عندما تبدأ الغيوم التزحزح لإظهار الشمس أجدهم يحجبونها مرة أخرى عني، يجعلوني أقع في ظلمتي مرة أخرى، يُعاد موتهم امام عيني مجددًا، ومُجددًا بلا توقف.. وهذا يؤلمني، يؤلمني للغاية. لا أريد رؤية ما حدث مرة أخرى، لا أريد رؤيته، هذا متعب. يهلكني.. لوكاس أنا متعبة بحق ولا استطيع علاج هذا.»

أخرجت ما في قلبها دفعة واحدة من بين شهقاتها، أحمرت أطراف أعين لوكاس مع وجنتيه، ورغم كبته لدموعه من الظهور أبتعد عنها يمسك كتفيها، وعندما لم ترفع رأسها لتنظر له كوب وجهها بين يديه يمسح دموعها.

همست له: «أنا خائفة، أخاف أن تتركني بمفردي مثلهم. لن استطيع الاستمرار هكذا.. لا، أنا خائفة من الموت.»

مسح دموعها، ويهمس لوكاس إلى سولين: «لن أذهب إلى أي مكان، سأظل رفقتك حتى تملين من وجودي ولن اتركك كذلك، لا تخافي أنا معكِ.»

: «أنا لن استطيع الاستمرار هكذا.»

همست تخفض اجفانها تشيح بصرها عن لوكاس باحراج.

وضع يده فوق وجنتها، واليد الأخري يمسك يدها بتشجيعًا: «لا بأس أن تكونِ حزينة، لا بأس أن تغضبي، تبكين، تصرخين. سول، أنا أعنيها لا بأس، تعلمين؟»

صمت بتفكير ثم ابتسم يخبرها بحماس ليحاول جعلها تدرك ان حالتها لن تجعله يبغض قربها يومًا: «سوف نتخطي هذا معًا وعندما نتخرج سنتذكر هذه الأيام ونبتسم حينها بأنتصار، ونخبر أطفالنا بأننا مررنا بفترة صعبة ولكن معًا أستطاعنا الأستمرار، ولن يصدقون هذا وحينها سوف أطردهم من المنزل وتأتين لـ تتشاجرين معي لأنني طردهم، وفي الأخير سوف أطرد أنا.»

علم لوكاس بأنها هدأت عندما أبتسمت، بينما لم يسع لوكاس سوي القهقة سعيدًا بأنه استطاع تهدئتها هذه المرة، أنسحبت الممرضة التي في كل مرة تشاهد ما يحدث بصمت منتظرة لحظة تداخلها أو انسحابها.

هذه المرة أنسحبت فقدت تخطتها سولين بنجاح، زم لوكاس شفتيه بتفكير وهو يمسد على يديها، يرسم أشكال وهمية في باطن كفها: «تعلمين الهضبة؟»

نفت سولين وما زالت شفتيه عابسة قليلًا، وتستنشق سيلان انفها. ابتسم لوكاس وهو ينظر إلى عينيها ويسترسل بجدية: «هذه الهضبة تقابلنا في مسار حياتنا دائمًا، عندما نظن بأن حياتنا رائعة فجأة نصتدم بهضبة كبيرة تجعلنا كارهين لكل شيء، لكن عندما ننظر لها من المفترض أن تعززنا بالطاقة لكي نكمل طريقنا، وأحيانًا تقف بطريقنا لكي نغير مسار طريقنا ونختار الأفضل.. هل تذكرين فيلم الأسد الملك؟ عندما أخبره هذا القرد العجوز 'الضربة التي لا تقتلك تقويك'؟ هو على حق، وأثق بأنكِ ستصبحين أقوى وستساعدين أشخاص كثيرة. ستكونين أفضل ثقِ بي يا سولي.»

نظرت إلى يديهم، مشاعر كثيرة مثل العاصفة تعصف داخلها، لكن شعرت بضوء خافت يخترق هذه العاصفة، يخبرها بأنه الأمل للخروج من محيط الظلام إلى مرسى النور بأمان.

: «أثق بك..»

ابتسم لها يمسك يدها يُقبلها بنبل متحدثًا باللغة الفرنسية: «اوه مدام، يسعدني سماع ذلك.»

تلألأت عينيها بالدموع مُجددًا وهي تنظر له: «لوكاس، ممتنة لوجدك جواري.»

ظل ينظر لها ببسمةٍ فرحة لخروجها من تلك الحالة يوم بعد يوم بصورة سلسلة للغاية لذا اقترب في نية معانقتها ومشاركتها تلك الانجاز، لكنه شعر فجأة بشيء صلب يصفع مؤخرة رأسه، وصوت حاد يخترق أذنه: «أخبرتك ألا تقترب من ابنتي، ايها المنحرف.»

أبتعد سريعً يرفع يديه بأستسلام ينظر لها ببرائة وابتسامة لطيفة مرتسمة على شفتيه: «لم أفعل شيء!»

بينما تزم سولين شفتيها وتشيح بنظرها حرجًا فقال لوكاس بسخط إلى سولين: «ألم أخبرك بأنها تراقبنا من قبل؟ متى ظهرتِ يا سيد باركر؟»

أنتهي الأمر بشجار والدتها معه وطرده من الغرفة، وتهديده بترك سولين: «لا أراك حول الغُرفة حتى يا لوماس باتردينج.»

بعد عشر دقائق أو أقل فتح لوكاس باب الغرفة يطل برأسه فقط ينظر في أنحاء الغرفة لكن نظره تجمد حيث سولين التي تحاول كبح إبتسامتها.

ابتسم بأتساع وهو يناظرها، ممتن بأنها بخير، وما زالت تبتسم، ما زالت تحب تواجده بجوارها، لكن كل هذه المشاعر أختفت عندما تم صفع مؤخرة رأسه مجددًا من قبل والدتها.

قرصت اذنه تجعله ينحني لطولها قليلًا، وتأنبه: «ألم أخبرك ألا تقترب؟ ما زلتم صغار على المواعدة وما تدعون عليه هذا.»

تذمر لوكاس وهو يحاول أبعاد يد والدتها عن اذنه: «هذا ظلم، أخبرتنا من قبل عندما نتم الثمانة عشر أستطيع أواعدها رسميًا، وتوقعي ماذا سيدة باركر؟ لقد اتممت الثامنة عشر وما زلتِ تبعديني عن روحي! هذا يعد ظُلم!»

قال أخر جملة بدرامية زائدة جعلت والدتها تقلب عينيها وتقول بصرامة: «ابنتي ما زالت صغيرة بعد، الأن للخارج.»

أشار لوكاس إلى سولين قائلًا بابتسامة واسعة رغم صوته الذي يدل على تذمره: «هاي سول، أنتظر أتمامك الثامنة عشر لكي أقبلك أمام والدتكِ خصيصًا.»

ضحكت سولين بخفه، بينما والدتها ضربت مؤخرة رأسه مرة أخرى: «تهذب يا فتى بأمكانني الرفض وأخبار والدها بأن يرفض هو الأخر وأرني كيف ستقترب منها خطوة بدون علمنا، تعلم نواه ينتظر لفحة صغيرة ليقتلك بالفعل.»

كاد فكه يصل إلى الأرض، صاح بضيق: «هذا ظلم، لحظه سول لن تقبل بذلك وستهرب معي حتمًا!»

رمق سولين بإنتظار أجابتها لكنها زمت شفتيها تنظر إلى والدتها تقول باستسلام، تبيعه في أول محطة: «بالطبع لن أفعل هذا.»

رمش لوكاس ببطيء، ثم ضحك بدون فكاهه يشعر بالخطر: «حسنًا، حسنًا لنتوقف عن المزاح سيدة باركر الان!»

ابتلع ما في جوفه عندما وجد نظرات والدتها الصارمة: «من أخبرك بأنني أمزح؟»

عندما وجدت ملامح لوكاس المنصدمة، أسقطت قناعها تضحك، بينما سولين تهز رأسها بيأس تعتدل بجلستها حتى تسند ظهرها عكس لوح الفراش.

«هم يستمرون بالمجادلة لأجل أخراج سولين من هذه الحالة، يظنون بأن تغير بسيط سيفرق معاها، وهم بالفعل على حق، فهي ممتنة لهذه الشجارات اللطيفة بينهم، يجعلونها تشعر بأن يوجد أشخاص يهتمون لها يريدونها معاها، يجعلونها تحارب لأجل البقاء لأجلهم.»

«لا يمكنك الاستمرار في الحياة بمفردك، ستشعر بالملل، الوحدة، والفراغ، مشاعر بائسة لا تستساغ أبدًا، لا تصدق بأنك بمفردك سيكون أفضل، فالصحبة نحتاجها بدون أن شعر هي الداعم لنا، هذه فطرة فنحن كائنات ضعيفة نحتاج لعون.»

ضحكت وقهقة لوكاس بدون أن يعلم سبب ضحك والدتها، ولكنه يسايرها لينول رضاها فقط: «بالطبع السيدة باركر النبيلة لن تفرق بين الأحباء.»

رمقته بطرف عينيها متوجهه حيث سولين تُقبل جبينها: «تظن بأن كلماتك المعسولة تجدي نفعًا؟»

حك لوكاس رقبته بتردد، بينما والدتها رمقته بطرف عينيها تعقد ذراعيها بصرامة: «حسنًا هي بالفعل تفعل.»

ضحك لوكاس بصخب، سعيدًا بزوال قناع والدتها أخيرًا رغم انه يعلم بأن هذا مزاح لكن يجعله يرتبك قليلًا، وسعيدًا بأن سولين عادت للأبتسام.. بصدق.

: «والدتي الثانية رائعة بحق!»

عزز لوكاس لها وهي فقط ضحكت بيأسٍ.

..

يُتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي