٢ مشاعر صادقة

مُمددة فوق سرير المشفي، ولم تتخطى مرحلة الخطر بعد، لذا ستظل تحت المراقبة، الأجهزة متصلة بجسدها تحفزها على الأستمرار، والبقاء على قيد الحياة.

جسد مشوه، متغدق بالاجهزة والمحاليل، فاقدة الوعي، ولا حياة لمَن تنادي بها، فهل ستبقى كما يُريذ بقاءها ام سوف تستسلم وتُودع الحياة؟

يجلس جوار فراشها، مُنحنى الظهر ويسند مرفقيه فوق فخذيه، مُطأطًأ رأسهِ ويتمسك بيدها، يضغط عليهما برفق وكأنه يحاول أرسال لها أنه هُنا جوارها، ولأجلها، ولم يتركها كيفما يُخبرها دائمًا، وكما تُريد هي.

الافكار تغزو عقلهُ بلا هوادة، وسواس يبث سمهِ باستمرار أنه لن يستطيع رؤيتها مُجددًا، لن يستطيع رؤيه أصدقائهِ فقد أصبحوا أسفل التُراب سرابًا.

: «لقد رأيتهم اليوم، سولي.. رأيت بعضٍ منهم فقط لم يسمحوا لي قائلين أنني ستأثر! كم هذا مُضحك لقد رأهم العالم من خلال شاشة التلفاز بالفعل.. لقد رأيتهم خلال الشاشة مثلي مثل الجميع، أردت معانقتهم أردت التحدث معهم.. لكن لم يسمحوا لي.»

شهقة مختنقة أفلتت من بين شفتيه، وَضعًا يدهِ الحُره فوق عينيه وهو يرجع رأسه للخلف يزم شفتيه بقوة يمنع ذاته من البكاء مرة أخرى.

يحاول التماسك، والبقاء صلبًا، لكن لا يستطيع، فقد الكثير في ذات اللحظة، واقربهم له يكاد يفقدها هي الأخرى، لقد اعتاد تواجدهم جواره، ومِن الصعب خسارتهم فجأة دون سابق إنذار.

الموت حقيقة نتلمسها من حولنا حتى يحين دورنا وتكون حقيقتنا، لا مفر منه، سيأتي الان... بعد قليل، بعد أعوام، وستكون نهاية كل مخلوق الموت.

زفر لوكاس الهواء يفضفض عما بخاطره لها هي وحدها: «سيظل ابشع شيء يواجهه المرّء هو الموت، فجأة يختفي شخص قريب لقلوبنا لـ هو امر مروع، ينزف القلب استنجادًا ان يعود الشخص قربه، لكن لا مفر فقد حان وقت رحيله.. لماذا لا استطيع تقبل هذا إذن؟»

نظر لها يتمعن النظر بها، يحدق بكل انش يريد ترسيخ ذكرها في عقلهِ، ويصرخ كل ذرة بجسده رافضًا فكرة انها سوف تصبح مُجرد ذكرى عما قريب مثل الجميع.

وجهها الشاحب، شفتيها الزرقاء، الأجهزة مُتصلة بجسدها، والجروح المنتشرة على كامل جسدها، ساقها التي الجبيرة تغلفها مثل يدها الأخرى، لا شيء يدل على تمسكها عدا رنين نبض قلبها الذي يصدر من جهاز مقياس نبضات القلب.

أبتسم بأنكسار، و تحسر. الحزن يفتك به، فقدت أبتعدت عنه يوم فعادت مُمَدة لا حياة بها، ونسبة نجاتها لم تصل للنصف. مَن أحبها خمسة أعوام، ومَن كان يتمنى أن يُقابلها قبل ذلك، مَن يتمنى أن يكمل باقي عمره معها.. يفقدها ببطء، ببطءٍ قاتل له.

: «أشعرُ بالعجز يحطم جدران قلبي يا سول، يجعلني أفقد السيطرة على ذاتي بالجنون. تعرفين أنتِ عندما تشعري بالقيود تمنعك من الحركة، مِن الهرولة والذهاب لمساعدة مَن تحب، ومَن تُريد، هذا الشعور.. أنه موحش للغاية، ويُتعب ويرهق النفس.»

تزداد العتمة حولهُ في هالة من الحزن والكئابة، يفترض به أن يقف أمام شواهد قبورهم يودعهم لاخر مرة، لكنه عاجز عن فعل ابسط شيء لهم.

لأنه خائف، خائف من كل شيء، أصبح رهاب الموت يتغلغل داخل أوصالهُ، هذا الشعور الذي يجعلك تفكر في الجميع على انهم جثث لا محال.

: «تَعلمين؟ لم تعد قدماي تحملاني، لا أظن ان ساقاي الطويلة ستساعدني في لعب كرة السلة مُجددًا.. سول، أنا خائف ولا يوجد أحد استظل به.»

: «أرجوكِ لا تتركيني مِثلهم، لن استطيع التحمل خسارتك.»

رطب شفتيه، ويمسح عينيه، يحاول ان يجمع شتات نفسه. اعتدل في جلسته ويتمسك بيدها جيدًا يرسم عليها دوائر وهميه بأبهامه وينظر لها وكأنها تُبادله النظر، حتى قال بصوت اجش مبحوح اثر غصته: «لقد أشتقت لكِ، إذن لمَ لمْ تعودي لتخبريني بصوتٍ يملؤه الطاقة أنكِ أيضًا تشتاقين إليّ؟ أهذه الرحلة غيرتكِ كثيرًا عليّ؟»

أبتلع غصته، ويزم شفتيه يحاول إلا يبكي مسترسًا بتقطع: «تحبين التحدى، صحيح سولي؟ دائمًا تتحديني، وتخبرينني أنكِ إذا إردتي شيء سوف تتحدينه وتحصلين عليه بقوتك الخاصة، لذا تحدى الموت أيضًا.. تحديه لأجلي هذه المرة.. لا تكوني مثلهم وتتركيني..»

احنى رأسه ويحدق بيدها المُتمسك بها، متمسكًا بأمله الاخير: «لا تحبين أخلاف الوعود، وأنتِ ألقيتِ وعود تكفيني دَهرّ كاملٌ. وعدتيني أنكِ لن تذهبِ وتتركينِ خلفكِ، لا تخلفين بوعدكِ إذًا، لا تفعلي الان.. أنا في احتاجك بشدّة لتكوني جواري."

أبتسم بأنكسار وأبتسامته أتسعت حتى ضاقت عينيه وأنزلقت إحدى الدموع العالقة بها متذكرًا ذكراهم التي تهوّن عليه كثيرًا تدفع آلامه جانبًا لبعض الوقت، يتحدث وكأنها مستيقظة وتستمع له بعيون تلمع بزهوٍ كما تفعل عندما يخبرها بشيء:

«تتذكرين أول لقاء بينا؟»

ضحك يشعب أصابع في خصلات شعره الدجى: «عندما أنتقلت إلى المدرسة حديثًا، وأصبحت في ذات الصف خاصتكِ، وما أن تلاقت أعيننا أتسعت أبتسامتكِ وعينيكِ وكأنكِ لا تصدقين..»

بعثر شعره وما زالت البسمة مرتسمة فوق ثغره بينما الدموع تبلل وجنتيه: «وعندما سألتكِ ما سبب هذه النظرة؟ أخبرتيني فورًا بلا تردد وعفوية: 'يوجد أشخاص يحصلون على قلوبنا من أول لقاء، يدخلون القلب دون موعد مُسبق، هم فقط لديهم سحر خاص، وهنيئًا لك يا فتى فلقد حصلت على قلبي الذي ظللت مُحافظة عليه لمدة ثلاثة عشر عام.'»

قهقه لوكاس بلا رغبة فقط كفعل روتين لعله يبقيه صاحيًا: «ثلاثة عشر عام ظللت محافظة على قلبك، سولي؟ أليس وقت كثير؟»

هز رأسه بلا إعجاب من سخريته، ويسطرد بذات البسمة السمحة: «لم أنكر سعادتي ان ذاك... حتى أنني لم أستطيع النوم حينها وكلما أتذكر كلماتكِ أبتسم مثل الأبله.»

رفع رأسه يرمق وجهها يتمعن النظر بها مثلما يفعل دائمًا حتى تبتسم بخجل وتدفعه بعيدًا استحياءٍ مِن نظراته: «لا يهمني ندوبك الان، واقسم لكِ لو أصبحتِ بلا ملامح سوف أبقى واقعٌ في حبكِ للأبد، فلقد أحبتتكِ لروحك.. لقد غرقت في نافذة روحك ولقد اغلقتي نافذتك علي.. سولي، أنني مغمور بكِ.»

ابتلع رمقه يمرر برقة بالغة اصابعه فوق وجنتها الخالية من اللاصقات الطبية: «ما زالت طريقة نطقكِ لأسمي يتردد في ذهني، يمكنه انتشالي من عتمتي ليخرجني للضياء. عندما تغضبين تنطقينه كاملًا 'لوكاس' ورغم كونكِ غاضبة مني ولكنني أجده لطيفًا أيضًا.»

أنهمرت دموعه أكثر لا يستطيع التحكم بها، قلبه وكل ذره في جسده ترتجف خوفًا من فقدها، وحزنًا على مَن فقدهم، هو حتمًا لن يتحمل فقدًا اخر يثقل كاهله.

تحدث وسط شهقاته، لا يتوقف عن التفوه بالكلمات والمواقف العشوائية حتى لا يبقى وحيد افكاره بينما يراها جسد واهن، خائفًا ان تلتهمه وتسود العتمة حياتهِ:

«أخبروني أنكِ تستطيعين سماعي، لذا أردت قول أنكِ مصدر الأمان لي، لذا لا يمكنكِ الذهاب وسلبه مني هكذا!»

هو يعاتبهتا ويتيقن انها لن تتذمر أو تناديه غاضبة لكي يتوقف عن تأنيبها، لذا حمحم سريعًا يغير الحديث حتى لا يضايقها: «أردت فقط قول بأنني أحبكِ كثيرًا، وأنني سأظل مخلصًا لكِ لآخر رمق سأظل لكِ.»

شعر بجفاف حلقه من تذكر مخططاتهم: «وأردت التقدم لكِ رسميًا يوم تخرجنا كما نخطط دائمًا، تَعلمين.. لدينا خطط كثيرة لم ننفذها بعد، لذا أرجوكِ لا تذهبِ هكذا، ما زال أمامنا الكثير وسوف نحققه معًا، سول.»

ارتجفت اوصاله ويزداد رهابه أضعاف، ليترجاها كفطلٍ باكٍ: «سولي، أنا أريدكِ في حياتي لا تذهبِ وتتركيني بمفردي مثلهم. لا استطيع التحمل انه شعور مقيت، ولن استطيع التعامل معه.»
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي