٢٠ اضطراب

«اضراب ما بعد الصدمة، هو من أبشعِ الأشياء التي قد تحصل للمرء يومًا؛ تجعله يدخل في بؤرة مُطلمة ومُهلكة يُصعب الخروج مِنها، وإذا حاول الخروج يومًا سيكون كخروج الظفر من الجلد.»

نواحها، بكاءها، صراخها ليلًا عندما تحاول أن تغفو ويراودها أبشع مخاوفها في أحلامها يسرد لها مأساة ما حدث، وكأن عقلها يحاول تذكيرها بكل الطرق حتى لا تسهو عنه.

«همذا الألم، عندما تنشغل وترتفع درجة حرارة جسدك لا تشعر به، أما عند هدوءك؟ فـ هو لئيم لن يسمح لك بالراحة بتاتًا.»

أسبوع بأكمله انهكت نفسها ومَن حولها، لكن هذا ليس بيدها أو إرادتها حتى، الأمر يفوق طاقتها على تحمله حتى.

«فما رأته لا يمكن نسيانه أو تخطيه بسهولة.
ما رأته سولين باركر لا يمكن الحديث عنه ببضع كلماتٍ.»

«الأنسان عدو نفسه، وداعمها في ذات الوقت.»

سولين كانت الأثنان في جسد واحد يصارع للبقاء سالمًا، أحدهم يذكرها بالحادثة يجعلها لا تُريد الحياة تذهب للهلاك بقدميها، والآخر يريها كيف أن الجميع يبذل جهده حتى تتخطي هذا، كيف تم اختيارها لتبقى حية ترزق، وأنّ ما حدث لها معجزة يجب الحمد عليها.

وعندما قال الطبيب المعالج لها ذات مرةً أخبرته عن مخاوفها حول موت الجميع حولها: «من مات فات، لا يمكننا استعادته، لكن يمكننا التمسك بما بقى، لا تفكرِ في المفقود حتى لا تفقدي الموجود.»

رغم تشتتها لكن كلماته اخترقت مسامعها ووجدانها، عندما تدفع لوكاس أو والديها وأشقاءها تتذكر كلمات طبيبها وتندم لكنها ما زالت لا تستطيع تقبل أحد حولها وهذا يزيد شعورها بالذنب؛ لأن ليس لديهم ذنب بما حدث لذا لِمَ تقابلهم بالبغض والغضب رغم أنهم يحاولون المساعدة؟

ورغم ذلك مُجرد لمسة منهم تجعلها تنتفض خارج جلدها. «اللمسة تذكرني بدماءهم فوق جسدي، ما زال الشعور يسكن جلدي لا استطيع اخراجه، ما زال كُلما لمس لوكاس وجنتي أتذكر كيف كانت دماء أصدقائي تلطخ وجهي.»

هكذا أخبرت الطبيب المعالج، هكذا اشتكت له عن معاناتها، هي ترغب بوحودهم حولها مرحبة بهم، لكنها كذلك لا تستطيع كبت جموح أفكارها.

«هي نقية لدرجة شعورها بالجميع والتفكير في كُل شيء، تشعر بضجيج أشخاص عده بداخلها وتحارب بعضها، فمن سوف ينتصر في هذه المعركة الملحمية؟»

«معركة النفس، هي مِن أشدّ المعارك التي تواجه الإنسان، الجهاد وتلك المصارع مُهلكة، والقوى مَن يخرج منها بأقل الخسائر المُمكنة.»

«الفقد ليس بأمل سهل يتقبله القلب قبل العقل، ليس بأمر أثره سيزول كذهاب المياة، أنه جرح غائر يشفى ببطءٍ وفي النهاية يترك ندبة بعمق الروح لا يمكن محوها، كوشمٍ صارخ بكثير من الأحاديث.»

مرّ أسبوع اخر ومَا زالت كما أول يوم، تحاول كبت مشاعرها والسكون الاستماع لكلماتهم، لكنها تنهزم ليلًا،تنهزم ولا تستطيع السيطرة على تِلك الهزيمة مما يسبب لها الأحباط والانخذال.

: «أتفكرين في الانتحار يا سولين؟»

تساءل الطبيب المعالج واخفصت وجهها تطالع جروح يدها أثر محاولاتها دفع المقعد عنها، نفت ببطءٍ ونفور تجيبه برهبةٍ: «لا، لم أفكر يومًا.»

: «ماذا عن الآن؟»

: «أصبحتُ أهاب الموت أكثر مِن أي شيء، أخاف أن تلحقني المنية وأنا بفردي، وأخاف أن أشهدها مُجددًا تحدث لعائلتي.. ولوكاس، لا أظن انني سوف أنجو حينها.»

ابتسم الطبيب يخبرها بتشجيعٍ: «سوف تنجين يا سولين، أنتِ الناجية الوحيدة مِن حادث مُميت، روحك صاخبة لن تفنى بسهولة، وجودك أمامي في تِلك اللحظة تتحدثين معي وتتفاعلين دليلًا اخر لرغبتك في النجاة.. تَعلمين مَن مثلك يظل شهرًا كامل يرفض الحديث أو مقابلتي حتى أما أنتِ مُعجزة بحق.»

إذا كان الكلام يفيد لكانت ابتسمت، لكنها لا تقوى على الابتسام حتى.

«وكأن الابتسام سوف يجعلها خائنة، وكأنها سوف تخون رفاقها بتلك الابتسامة البسيطة.»

الطبيب النفسي يخبرها دومًا عندما يصل الأحباط اخر رمق: «هل يذبل الجرح في يوم؟ اتركيه يستنشق الهواء أعطي له الحُرية والمعاملة الحسنة حتى يذبل تمامًا وينتج قشرة بسيط اسقط بمفرده ليعاود الجلد كما هو. أعطي نفسك الوقت لا تملي وتحبطي بهذه السرعة واجهي نفسك وتقبليها، لا يمكنك تخطي تِلك المشاعر في ليلة وضحاها، ولا يمكنكِ تجاهلها أيضًا.»

الحديث دومًا يكون سهل، أما الفعل فكأنك تُحرك تروس صدئة.

يوم بعد الآخر وما زالت كما هي، لا تستطيع معانقة والدتها تستشعر منها الآن، لا تستطيع تقبل لمسه حبيبها تستشعر منه كم المشاعر الذي يكنها لها، لا تستطيع الضحك علي مزحات شقيقها ولا الانجراف بتشوق وحماسة لحديثه عن مواقفه في الجيش، لا شيء تستطيع الشعور به.. وإذا فعلت تشعر بالخيانة العُظمى.

..

تنهدت سولين بوهنٍ وهي تخبر والدتها باكتفاءٍ: «أمي، توقفِ ارجوكِ، لا أريد.»

تركت والدتها الطبق فوق الطاولة تجيبها في هدوءٍ: «أعلم ما حدث صعب، لا يصدق أيضًا انا اعلم جيدًا، لكن لا يعنى ذلك بأن نتوقف في ذات النقطة ولا نتحرك، لا يعنى ذلك أن تستسلمي يا ابنتي، أترغبين أن تؤلمي قلبي عليكِ؟»

عقدت سولين حاجبيها غير راغبة في سماع تلك الكلمات فـ هي تزيدها ضغطً بالفعل: «أمي..»

تنهدت والدتها تؤمي لها: «حسنٌ، اعلم، اعلم ولا أرغب بالضغط عليكِ أكثر، اعتذر.»

راقبت ملامح سولين التي تصبح أهدئ شيئًا فشيء وتُحني رأسها بيننا تحرك يدها بدوائر وهمية على الجبيرة التي تلتف حول ذراعها الأخرى، تنهدت والدتها تشعر بثقل يثقل كاهلها من رؤيتها ابنتها العفوية التي مشاكلهم كانت تتمحور حول كونها ليس هادئة أبدًا: «سولين، ابنتي الجميلة، تحدثي معي، هذا..»

توقفت تُشير على قلبها وتكمل: «لا يمكنه التحمل بمفرده، لذا نتشارك همومنا معًا، لذا خلقنا نشعر ببعضنا البعض نتحدث ليقل الثقل الموضوع فوق أكتافنا، إذا لم نتشارك سوف ننفجر، لا يمكننا كبح ومواكبة كُل شيء، اسمحي لي.»

ظلت سولين ثابتة لا تتحدث وعندما شعرت والدتها باليأس يستحوذها وان ابنتها لن تفرج عن كومة مشاعرها كادت تقف لتُعيد الطعام، لكن كلمات سولين جعلتها تعود وتنظر لها باهتمامٍ بليغ: «أمي.. أنا فقط.. أحتاج بعض الوقت.»

لم تصدق والدتها كلماتها الهادئة، في العادة كانت لتبكي بصمتٍ تخبرها بضعفٍ أنها لا تستطيع.

«ظلت تنظر لها بعيونٍ منكسرة لأيامٍ وهي تسمعُ بكاءها ليلًا، شهقاتها تخترق مسامعها، تعلم بأنها تحارب حتى تريهم بأنها متماسكة، لكن تعلم بأن هذا سوف يهلكها لا أكثر.»

لاحظت سولين إطالة تحديق والدتها بها فرفعت رأسها تبادلها النظر.

«لقد كانت دوما تتفادى النظر إلى عينيها، تتفادى النظر إلى أعين أحد تخشى أن ترى عتابهم، تخشي أن ترى ما يثقل كاهلها أكثر ويجعلها تتمنى لو أنها قد ماتت يومها.»

ادمعت أعين والدتها مخرجة أياها من صمتها، ضحكت بدون فكاهه وهي تمسح دموعها وتمسك يد سولين تربت فوقها بحنوٍ وحذر وقد قبضت سولين يدها وتستشعر والدتها تلك الانتفاضة الصغيرة، لكنها نبست بترجي: «لا تتركيني، أنتِ أغلي ما أملك، اعلم أنني أنانية لأخبارك ذلك، لكن حاربي يا سولين، حاربي لن استطيع العيش بدونك."

طرفت سولين متفاجئة من انهيار والدتها، من البداية وقد اظهرت أمامها القوة وفقط، خارت قوة سولين هي الأخرى تسقط رأسها فوق كتف والدتها التي ابتسمت بسعادة تستقبلها بصدرٍ رحب: «أشتقت لرائحتك، صوتك، ابتسامتك، اشتقت لفلذة كبدي واسفة إذا كان هذا يسبب لكِ الضغط، أنا أم ومتلهفة لمعانقتك والشعور بكِ تتوسطين أحضاني كأول لحظة أتيت بها في هذه الحياة، لا تحرميني من تلك الفضيلة!»

ولم تحرمها سولين تَلف ذراعها السليمة حول والدتها لتقهقه والدتها من بين دموعها المنهمرة تمرر يدها فوق خصلات شعر ابنتها تارة وتربت فوق ظهرها تارة أخرى بحذرٍ وخوف.

«وان كان للأمان مسمى اخر سيكون الأم، حتى وان كان التلامس منبع خوفها ورهبتها الأم سيكون لها طريقها دومًا لتخترق ذلك الحاجز محتضنه فلذة كبدها بكُل حُب وحنانٍ.»

قبضت سولين بيدها على ملابس والدتها بقوة تحارب نفسها كما اخبرتها والدتها، واستشعرت والدتها بأنها تحاول التمسك لكي لا تبكي، ربتت فوق ظهرها تقول بأبتسامة مرحة تحاول ممازحتها وتبسيط الأمر: «ما زالتِ صغيرتي التي تتشبث بي لكي لا تبكي، لكن لا بأس يا عزيزتي، لا بأس أبكي على كتفي أنتِ بأمانٍ الأن، لا بأس يا روح الروح.»

زمت سولين شفتيها تبتلع غصتها وهي تبتعد وتقول وهي تخفض عينيها تتحاشي التواصل البصري: «شكرًا؛ لأنكِ دومًا بجواري.»

أبتسمت والدتها بحنان تكوب وجهها وتقول بسعادة غامرة من تطور تحسن حالة ابنتها: «وسأظل بجوارك للأبد حتى إذا أخذك هذا الـ لوكاس من بين يداي، وحتى إذا أصبح لديكِ أطفال في طولك ستظلين ابنتي الصغيرة والجميلة.»

أبتسمت سولين تسايرها، لتستقم والدتها وما زالت عينيها متعلقة عليها ممزوجة بالفخر والسعادة قبلت جبهتها وأمسكت صينيه الطعام تخرج من الغرفة وفي طريقها لأعادتها قابلت لوكاس، ابتسمت له وهي تتساءل اعتيادية: «كيف حالك بُني؟»

اومئ لوماس لها في هدوءٍ ويتنهد رافعً كتفيه: «بخير، لا يسعني سوى أن أكون بخير.»

ضيقت عينيه تقترب منه بحدة ويتقهقهر خطوة بخوفٍ من مباغتها، لتهمس له محذرة بحدة: «تِلك التنهيدة لا اسمعها قريبة من سولين، أتفهم؟»

اومأ قبل أن يفهم حتى حديثها.

«لطالما كانت وابدة سولين مرعبة لجميع رفاقهم، تصنع لهم الارهاب دومًا ثم تبتسم باتساع وتصنع لهم البهجة ليأخذوا راحتهم معها، لقد كانت أم لهم جميعًا، وستظل كذلك.»

تنهدت والدتها تشيح بوجهها وهي تقول بتكلفٍ: «لا تتركها، وإلا كسرت عظامك ولن أكتفي بذلك بل سوف القيها في أقرب سلة مهملات لكي تتعفن دون أن يؤيك مكان ما.»

حمحم لوكاس يعدل ملابسه بجدية وكأنه ذاهب ليتقدم لخطبة فتاته، أبتسم وهو ينفي: «لن يحدث ذلك إلا في أحلامك يا سيدة باركر.»

قلبت عينيها مستمعة لتلك الجملة منذ زمن، وقد أخبرته قبلًا بالنص: 'انا ادعك وشأنك لأن ابنتي تُحبك، لكن اذا رأيت دمعة واحدة بسببك لن يكتفى نواه بحرقك حي.'

تنهدت تقول ببرود مزيف وتكمل سيرها: «أيها الشاب اللطيف لا تقترب من ابنتي كثيرًا، هذا تحذير خاص.»

وضع لوكاس يده فوق صدره ينبس بجدية: «هي في عيني ولا يوجد أقرب من ذلك.»

هزت والدتها رأسها يائسة من لسانه المعسول، ولا تتعجب كيف ابنتها واقعة في حُبه.

«لأنه شاب لطيف يسطتيع رسم الابتسامة على وجهك وبه ما يجعلك تشعر بمدى كون العالم مُظلم.»
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي