١١ النحيط

«النحيط.»

يقولون ان البُكاء والحُزن الصامت؛ هو النَحيط.

ولوكاس كان ذو بُكاء النحيط، يجثو كُل ليلةٍ في قاعِ احزانه ولا يَعلم لِمَن يشكو أمره، ويتساءل إذا كان أحد يستطيع الشعور به والاهتمام بأمرهِ؟ وحيدٌ بحزنٍ صامت لا يستطيع البوح به.

مَن كانوا يحيطونه ويتساءلون عنه دومًا أسفل التُراب، ومَن تغلف روحه المُنكسرة بين الحياة والموت تعجله يفقد عقله بصورة بطيئة تكاد تَقتله في ليلةٍ.

أنه اليوم العشرون مُنذ الحادثة ولم تفتح عينيها بعد لتخبره أن كُل شيء بخير؛ لأن لا يوجد شيء بخير.

احاط يدها بين كفيه الكبيران بالنسبة لخاصتها، اغمض عينيه يقبل يدها بعمقٍ ودمعةٍ تفر هاربة من مقلتيه.

: «آهً يا روحي، لو تشعروين بي لم ابتعدتِ كُل هذا الوقت.»

اختتم حديثه بقبلةٍ أخرى فوق يدها.

: «آهً لو تَعلمين كيف يتمزق وجداني كُلما نظرتُ لكِ.»

ومجددًا قبلة تكون من نصيبها.

: «كُنتِ الروح ومَا زالتِ تَسكنين الجسد، لكن ما بكِ أصبحتِ باردة لا تؤنسين وحشتي.»

مرر يده فوق وجهها، فوق خصلات شعرها الذهبي الذي فقد نضارته واعتناءها به.

: «هل البُعاد هيّن عليكِ؟ فـ إذا كنتِ تَسمعيني لِمَ لا تجيبيني؟»

داعب أصابعها بخاصته يشابك يديهم مثلما كان يفعل دومًا.

: «لم يعد لصوتي حضور بغيابكِ، ولم تعد للحياة ملامح من دونكِ.»

طالعها بعتابٍ، يريد أن يصرخ لعلها تستفيق، هي شفاءه، هي حتمًا ستكون شفاءه، حتى وإذا أصبحت تبغضه لكن حضورها وجودها استيقاظها وتفاعلها مع الحياة سيشفيه وهو لا يطلب الكثير فقط ان تنظر له بأعين عشبية خالصة.

: «أنتِ سولين، وأنتِ الروح يا وجداني.»

ألتفت الغصة حول رقبته كحبل مشنقة متين يخبره ان دوره قادم لا محال، أنه سيفقد السيطرة علي ذاته السيئة كما فعل مارك وكما فعل سابقيه، لكنه خائف، خائف ان يلقى بنفسه في الهلكة ولن يستطيع أحد اللحاق به.

احني ظهره مسندًا رأسه ضد فراش سولين بينما يعانق يدها وكأنها اخر السبيل، وامل النجاة.

افكاره تعصف حتى قسمت ظهره، وهو شابٌّ رياضي لم تؤلمه عضلاته من رفع الأثقال يومًا، بل كانت لعبه المُفصلة وحتمًا خسر بها.

: «يا فتى!»

نبست المُمرضة تدخل الغُرفة وتربت فوق ظهر لوكاس بحنوٍ: «هوّن اللّٰه عليكَ لا تهلك نفسك.»

أقام لوكاس ظهره يمرر كفيه فوق وجهه بينما يجيبها بنبرةٍ ظهرت بها الغصة بوضوحٍ: «أنا بخير.»

تخصرت الممرضة في غاية المزاح: «ولم اسألك عن حالك كي تخبرني هذا.»

عبس لوكاس بصمتٍ يمتنع عن الرد بلا مقدرة منه يتابعها فقط تبدل المحاليل المُعلقة التي تمد سولين بالغذاء.

هو يشعر بالعجز ولا يستطيع فعل شيء سوى المتابعة بصمتٍ، لا هو يستطيع البقاء في منزله مثلما فعل شقيقها ماركوس غالقًا على نفسه كُل شيء في انتظار يوم معرفة وفاتها، ولا هو يستطيع النواح كما يفعل مارك، هو فقط يشعر بالعجز يقيدوه مِن كُل جانب.

: «ستكون بخير.»

نبست الممرضة تطمئنه، تعطيه بعض الأمل، ويؤمي لها بذات الصمت، لقد استمع لهذه الجملة مُنذ عشرون يوم، وما زالت روحه بعيدة لا يستطيع التحذث معها.

: «انظر يا فتى، تبدو كشقيقتي ولا أرغب برؤيتك في هذه العتمة.»

قالت متنهدة وتنفض يدها مُقتربة من لوكاس تسحب كرسيًا لتجلس جواره بحسمٍ، تنطق بكلماتٍ لغاية واحدة ان تجعل هذا الشاب المنهار كل ليلة أمام فراش حبيبته ان يتماسك ولو قليلًا: «هي لم تَمُت بعد وهذا في حد ذاته أمل..»

قاطعها لوكاس بيأسٍ: «أمل زائف وسيكون فقدانها القشة التي ستقطم ظهري.»

طرفت الممرضة من سلبيته ويائسه المُميت تنفض رأسها حتى لا تتأثر وتكمل بذات الجدية والحسم: «هي بخير، تِلك الفتاة حقًا قرية، المقاطع المصورة المنتشرة لها، حديثها، والكشف عن هوية قائدة نادى النساء السري.. هي حقًا رائعة، هنيئًا لك وليس هذا موضوعنا، لكن بمثل هذه الشخصية لن تتوقف وتلف ظهرها متخلية عن مَن ينتظرونها، تِلك الفتاة ستعود وستفتح عينيها مُجددًا ليس حبًا في الحياة وانما حبًا بكم وبك خاصةً، حان وقت الاعتراف، أنا معجبة كبيرة بعلاقتكم، انها نقية بشكلٍ لا يصدق.. ويبدو حديثي غير مترابط مثل عبثٍ ما، صحيح؟»

اومأ لوكاس يؤكد تساؤلها، وتبتسم باستحياءٍ مزيف، محته سريعًا تكمل بجدية أكثر: «سولين مرت بموقفٍ عصيب، أصابتها صدمة لا يوجد بمثلها مثيل، لذا اعطها بعض الوقت، فقط بعض الوقت الصغير.»

هز لوكاس رأسه بتفهم، ويجيبها: «أنا اعلم، ولستُ بمعترض، لكن فقط تفتح عينيها لخمس دقائق، خمس دقائق فقط ليطمئن قلبي انها ما زالت حية حقًا.»

ابتسمت الممرضة في وجهه ببشاشة: «أنت فتى جيد، هوّن على نفسك هي الآن بخير أكثر مني ومنك، منغمسة في أفضل ذكرياتها هربًا من نفسها ومن بشاعة ما حدث لها في هذا العالم، هي تحاول الحفاظ على سلامة عقلها لحين عودتها تستطيع تقبل الأمر.. ما حدث لها ليس بهيّنِ أعطها بعض الوقت وستعود لك كما تَرغب وكما تشاء.»

قبض فكه في محاولة لكبت انفعاله وحرقته، هو خير عالم بكم هي تأثرت حد النخاع، هو مَن استمع لبُكاءها وصراخها على اصدقاءهم، هو أكثرهم علمًا بما مرت به، لذا لا يمكنه تقبل انها بخير؛ لأنها وان كانت بخير جسديًا لن تكون معنويًا أبدًا، وهذا سيقتله ببطءٍ.

: «أنه مروع، ما زال صراخها يتردد صداه داخل رأسي.. رُبما إذا كنت معها.. رُبما ان لم تذهب إذا تمسكت بها أكثر، لقد كانت مترددة وأنا مَن دفعتها مُشجعًا، لقد كانت خائفة..»

اجهش بالبكاء ولأول مرة لم يخفى دمعه، هو احتاج ان يتحدث مع أحدهم ولم يعطيه احد الفُرصة قبلًا، لم يستطيع حد اعطاءه إذن الحديث عن شيء يؤلمه في المقابل.

ربتت الممرضة فوق ظهره بتشجيعٍ ليواصل حديثه ولمساندته في وقتٍ من أبشع الأوقات التي تمر عليه كمراهقٍ فقد الكثير في بداية عمره: «أنه قدر، كتابٌ مكتوب ولا يوجد به خلاف، هذا قدرهم، وقدرك أيضًا حسرة قلبك وضيق صدرك ما هم إلا تمهيدًا لفرج وتعويضًا قريب.»

: «لا يوجد ما يعوضها، لا يوجد ما يصلح نفسها، إذا كنت منهار لأجل نفسي ولأجل فقدان أقرب الناس لي، فأنا مُحطم لأجلها.. أضعافًا.»

أمالت المُمرضة رأسها بتفكيرٍ وتداعب خصلات شعره بمشاكسة لتنطق بكلماتٍ تراها قاسية لكنها حقيقة وواقع ملموس: «ان الموت لقريب، وكُل نفسٍ ذائقة الموت، لا مفر مِنه جميعًا سنموت وتعددت الأسباب وستظل الحقيقة التي تلاحقنا واحدة وهي الموت، حادث كان أو مرض سنموت في النهاية، الفارق أنه يوجد أشخاص روحهم لا تتحمل قسوة الحياة، لا تتحمل السوء الذي سيحدث لها ان بقت في هذا العالم لِذا وقتها يكون قريب، يسبقونا لمكان الخُلد حيث لا يموتون سوى الميتة الأولى.. أنت لست سبب في موت احد، ولست سبب في دفع أحدهم للموت، هذا طريقهم وهذا مكتوبٌ لهم وأنت مجرد شخصية مساعدة لحلقة مفرغة.»

: «تَعلمين ان حديثك هذا لا يساعد بتاتًا؟»

تساءل لوكاس يكمكم دموعه ويحمحم بجدية، وتؤمي هي له بمعرفة تدفع كتفه بمزاحٍ: «أنا المُخطئة، حاولت مواساتك.. تَعلم سوف أخبر عمتك بحالتك تِلك حتى تزيف صلابتك أمامها جيدًا.»

ابتسم لوكاس يخفض رأسه، هو لم يعد يقابل عمته حتى يمتنع عن الحديث معخا وعن لقاءها صدفة في المنزل حتى، لأنه لا يرى سوى الشفقة على حاله وهذا يجعله يفقد عقله.

: «هيا، انتهى وقت الزيارة.»

دفعت الممرضة كتفه تحثه على الخروج ويعبس في وجهها كونها تستغل مكانتها في طرده، وتنهدت الممرضة تبتسم في وجهه برقةٍ: «رائحتك تكاد تعميني يا فتى، اذهب إلى المنزل وتناول شيء وبدل ملابسك، عود في أي وقت وسوف ادخلك لا تقلق.»

: «لا تتراجعي إذا عدت في الثانية فجرًا.»

حذرها لوكاس بينما يستقيم، وتؤمي له مغمضة العينين بتأكيد ووعدٍ. انحنى لوكاس تّجاه سولين يطبع قبلة دافئة فوق جبهتها ويبتعد ببطءٍ متأملًا ملامحها الذابلة بِشجن.

: «ابتعد عنها يا فتى إذا اختطلت أنفاسكم لا أضمن سلامتك من والدتها.»

: «أتظنيني سأعطيها قبلة الحياة أمامك؟ لن يحصل أحد على هذا أبدًا.»

قلبت عينيها بمللٍ تتجاهل حديثه الساخر بها كونها ما زالت عزباء.

..

يحنى جسده أمام شاهد قبرها، يضع الأزهار أمامها وهو لم يلحق بتسليمها في يدها باقة ازهار ضخمة، لم تترقرق دمعة واحدة منه مُنذ علمه بخبر وفاته، منذ تِلك اللحظة وهو فقط يشعر بالخواء.

هو حزين يشعر بالأسى والشجن، لكنه لا يستطيع تقبل الأمر بعد، ألم صدره يتفاقم حتى أصبح هو الشعور المعتاد.

عشرون يوم ولم يتقبل الأمر بعد، عشرون يوم يحاول الهروب وفي كُل مرةٍ يجد نفسه عائدًا لذات الرقعة، يجلس بصمتٍ ينظر إلى الشاهد لا يتحدث ولا يبكى حتى فقط هذا الصمت الموحش الذي يلتف حوله بينما توجد اعاصير تعصف بداخله بلا هوادة.

جاستن كان النحيط ذاتًا.

حزنه وألمه صامت، مهما حاول الخروج من تِلك القوقعة يجد نفسه ينسحب للقاع بقسوة أكبر من ذي قبل.

فقد حبه الأول قبل أن يعلم أنها تبادله، قبل أن يخبرها بالكثير الذي يتوسط صدره، هو أخبرها وقد اعترف لها مرارًا لكن خجلها واستحياءها كان يمنعانه من سماع ما يرضيه منها.

: «روز، أكنتِ تبادليني ذات الشعور؟»

تساءل وكان أول هاجس يدور في خلده، لم يخبر أحد ولن يخبر، هذا سره الذي دفن معها، هذا المشاعر الجياشة ما زالت تعصف داخله تمنعه من تصديق حقيقة موتها.

: «صدري ما زال دافئًا يا روز، وهذا يؤلمني أكثر أنني واقفًا فوق قبرك وذكراكِ لم تمت من خلدي أبدًا.»

وزع الأزهار الوردية كما كانت تصبغ أطراف شعرها دومًا، وزعهم بأيدينٍ ترتجف وجسدٍ مُرتعش حتى اغمض عينيه يمتنع عن توزيعهم يطالع اسمها المنقوش فوق الشاهد، ويطالع باقية الشواهد العائدة لباقية الرفاق.

: «اشتقت لكم يا رفاق.. اشتقت لكم كثيرًا.»

..

يُتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي