٢٢ جلسة نفسية

«الجميع يعلم بعلاقة لوكاس وسولين وكم أن سولين متعلقة بـ لوكاس وكأنه روحها، ويعلمون بتلقيب لوكاس لسولين بروحه الجميلة، لكن ستظل الأم أم ترى ابنتها ما زالت صغيرة وطفلة ليست مستعدة لشيء، ستظل تغار عليها من نظرات الجميع حتى إذا أصبح لديها اطفال.»

لم تجيبه سولين حتى وبالفعل طرق باب الغرفة لـ يبتعد لوكاس سريعًا و خوفًا بأن تكون والدتها، لكن دلف الطبيب النفسي الغرفة بأبتسامته البشوشة المعتادة: «مرحبًا!»

ألقى عليهم التحية يأخذ كرسي يضعه أمام سريرها، ويبتسم متساءلًا عن حال سولين: «كيف حالكِ اليوم، سولين؟»

اومئت برأسها تجيب بخفوتٍ: «بخير!»

: «جيد جدًا!»

هز ذقنه في شبه ايمائة مستحسنة، وهو يقلب في أوراقه، ثم أردف بحماسة: «هل أنتِ مستعدة لجلستنا؟»

اطرقت رأسها تنظر إلى يدها بتفكيرٍ  ثم قالت بذات النبرة الخافتة: «أعتقد ذلك..»

اومئ باستحسانٍ قائلًا بينما يفتح قلمه لتدوين الملاحظات: «جيد، يمكننا البدء إذن..»

انهي جملته ينظر إلى لوكاس، لكن الأخير لم يفهم معني نظراته حتى أستوعب يقول وهو يستقيم باحراج: «آه، يجب علي الخروج الان.. سوف نتظرك.»

رفعت سولين عينيها إلى الطبيب قائلة براحةٍ: «لا بأس في وجوده، صحيح؟»

: «هل أنتِ متأكدة؟ هذا فقط للمحافظة على الخصوصية وتتحديث بصورة مطلقة لا يوجد بها حرج أو تحيز.»

: «اعلم ذلك.»

اومئت بتأكيدٍ وتشد بيدها على يد لوكاس الذي أبتسم بفخر وعفوية يعاود الجلوس جوارها.

ضحك الطبيب على تعابير لوكاس يمازحه: «سعيد أنت الآن؟»

اجابه لوكاس بلا تفكير حتى: «في الواقع كثيرًا.»

ابتسم ثم نظر الطبيب إلى التقرير الذي بيده ويسأل سولين: «الا تريدين وصف مشاعرك في خمس كلمات، سولين؟»

سأل يرفع نظره عن الأوراق لها.

بدلت سولين نظرها بين لوكاس والطبيب ثم اخفضت بصرها وبين حاجبيها عقدة تنم على تفكيرها العميق: «أنا.. لدي مشاعر كثيرة.. لا أعلم كيف اصف ذلك أنه معقد بعض الشيء!»

اومئ بتفهم يدون بعض الملاحظات في دفتره وهو يقول بمباغتة: «إذا هل تفتقدين اصدقائك؟»

رمقه لوكاس بعدم تصديق وتحولت نظراته إلى متضايقة من الطبيب عندما شعر بضغط يد سولين على يده دليل على محاولتها لموازنة مشاعرها.

لكن الطبيب قصد قول هذا حتى يجبرها على إخراج كل ما في قلبها وعدم ابقائها صامتة، وهذا نجح بالفعل كلمة بسيطة كانت كفيلة بثوران مشاعرها، شهقت اثر الغصة العاقلة في جوفها، ويوجهها الطبيب: «خذي أنفاسك بروية، شهيق ثم زفير.»

اتبعت حديثه، لتهدئ ويظل صدرها يعلو ويهبط بتهدج، ويسترسل الطبيب بذات ترجيهاته: «لا بأس يا سولين، لن تظلي تكذبين ما حدث..»

قاطعته سولين تنفي: «أنا لا أكذبه.. أنا باقية به لا يمكنني الخروج من الحافلة.»

أغلق الطبيب دفتره يساير حديثها: «لِمَ لا تستطيعي الخروج؟ أيتمسكون بكِ يا سولين أم أنتِ التي تتمسك بهم؟»

رمقته بعدم محبة تريد أخباره انه لئيم.

«فـ هو يضغط على جراحها بلا أي ليونة، يستفز جوارحها للنطق بما يؤرقها للصراخ بعلو صوتها لترفض أيًا كان ما حدث لها ولا يريد تركها.»

: «أنهم أحرار، يمكنني الشعور بهم.. لكنني ما زالتُ مُقيدة ولا أعلم كيف افك قيدي.»

: «أنتِ تَعلمين، رحاب صدرك يتسع لصعاب العالم اجمع، ألا تظنين أنكِ لن تستطيع محاوطة ذلك الثقل حتى يذوب بين ذراعيك؟»

: «الحديث سهل للغاية أيها الطبيب، أما الفعل.. أنه صعب.. صعب للغاية ويكاد يهلكني.»

ربت لوكاس على ظهرها وهو ينظر لها بحزنٍ متأثر، ويمسك يدها بيده الأخرى يضغط عليها بخفه وكأنه يقول لها بأنه جوارها.

: «أنا لم أنجو قطّ، بل هم الذين نجوا بأرواحهم يجعلوني معلقة في المنتصف لا أنا فوق الأرض أشعرُ بالثبات، ولا أنا في السماء اتنعم بالسلام الأخير. لقد عاشوا هم وتركوني اناجي للبقاء حية.»

أبتسم الطبيب بآسفٍ وأكمل سلسلة اسئلته التي تدفعها للتحدث: «هل أنتِ خائفة؟»

صمت يجمع افكاره ثم أردف باستفاضة أكثر: «خائفة من أن تفقدي شخص أخر؟ أو خائفة من تكرار الحادثة؟ رُبما خائفة من الموت يا سولين؟»

رفعت رأسها تنظر إلى لوكاس، مقلتيها تلمع بقوة، دموعها تنتظر حرف أخر لتنزلق بحرية، أبتسم لوكاس لها بلطفٍ ويربت على يدها بتشجيع للتحدث.

«هو خير مساند لها، وسيظل الحائط الذي ستميل عليه وسيلحقها من السقوط.»

ابتلعت ما في جوفها تجيب دفعة واحدة مخرجة ما في جوفها: «أجل، خائفة.. من كُل شيء، حتى من أصدقائي عندما يأتوني اصحو مذعورةً وعندما لا يأتوني أخاف أن ذعري قد أحزنهم، خائفة أن أفقد أحد مُجددًا.. أجل أنا خائفة من الموت.»

ابتلعت رمقها تسترسل بنبرة منخفضة ومنكسرة: «أشعر وكأنني سأجلب لهم الحظ السيء، شعور بغيض يستولي عليّ يخبرني بأنني السبب فيما حدث، وهذا يجعل قلبي يؤلمني بشدة.»

لم تشعر سولين بمفردها بالاختناق بل شعر لوكاس بالأختناق كذلك، هو أشد علم بما تفكر به وبما تشعر به.

«هو يعلم بأن حديثها سوف يؤلمه سيفتح جرحه الغائر، ورغم ذلك أصر على البقاء بجوارها يشجعها على الإستمرار، هو أيضًا فقد أصدقاءه، وغير ذلك هي تتألم وهذا يزيد من حزنه أضعاف مضعفة.«

تحدث الطبيب بهدوء: «هذا وهم، لستِ السبب فيما حدث..»

قاطعت حديثه وهي تؤمي بسرعة وتفهم، تقول بنبرة متهدج: «أعلم، أعلم بأنه ليس ذنبي، ليس لي دخل. لكن هل يمكنك إيضاح هذا، لماذا انا؟ لماذا انا التي تبقت على قيد الحياة ورؤية خمسة وأربعون شخص لا حياة بهم؟»

ابتسم الطبيب يجيبها بطريقة مراوغة قليلًا لتهدئتها: «هل رأيتِ الأخبار؟»

نفي لوكاس قائلًا بعبوس: «لا، لا تريد رؤيتها.»

قطب الطبيب حاجبيه وقال بآسف وكأنه يغيظ طفل: «لقد فاتتك كلمات ذهبية، تعلمين ما يتداوله الاخرين عنكِ الآن؟»

فهمت سولين مغزي كلامه وقالت غير مصدقة تلاعبه بمشاعرها بتلك الطريقة السلسلة: «ايها الطبيب، لستُ طفلة سوف انجرف خلف هذا الفخ.»

ابتسم الطبيب قائلًا بعيون ضاحكة: «لقد تأكدت بنفسي الأن لِمَ أنتِ الوحيدة التي نجت، روحك تنبض بالحياة، متشبثة بها بكل إصرار لأنها تريد فعل شيء ما، قد لا تدركين ذاتكِ الأن لأنكِ ما زلت صغيرة. وإجابتي على سؤالك هو.. أن لديك إصرار عظيم لم يدعكِ تستسلمين للموت بسهولة، روحك تنبض بالأمل والشغف ما زال أمامها الكثير لفعله، لترك بصمتها قبل المغادرة. لذا انتِ أمامي الان ترزقين حية.»

ارتسمت إبتسامة فخورة على ثغر لوكاس وهو ينظر لها بعيون لامعة، طأطأت رأسها تزم شفتيها بقوة تمنع نفسها من البكاء، حتى قالت بخفوت: «لكنني لا أريد ذلك، كيف يمكنني التفكير بشيء غيرهم، اذا فعلت ذلك سأستحقر نفسي، سأشعر بالدنائة، أليس من حقي الحزن عليهم والبُكاء لأجلهم؟»

أبتسم لأنه ظن بأنها مراهقة مدللة سترهقه بأفكارها السودوية، وستظل لفترة طويلة على حالتها التي استيقظت بها، لكنها حطمت جميع توقعاته بتفاهمها وطريقة تفكيرها، رغم ما مرت به.

: «شعور نبيل ما يراودك، أخبركِ بذلك رغم فهمي لمغزي جملتكِ.»

رمش لوكاس ببطءٍ غير فاهمًا حديثهم، أردف الطبيب عندما لاحظ تحرك مقلتيها بأرتباك لطيف دليل علي إحراجها: «لا بأس، أعلم بأن ليس مقصدك التقليل من الطبيب النفسي الذي لستِ بحاجته، لكن هل يمكنك مصارحتي بما رأيته يوم الحادثة؟»

لم تعطي رد فعل في البداية لكن لاحظ الطبيب عظمة رأسها التي فوق اذنها تتحرك أثر ضغطها على فكها بقوة، وطريقتها في تمسك يد لوكاس، الذي ربت على يدها وهو يحرك يده الأخرى على ظهرها يهدئها بينما يهمس لها بمواساة: «لا بأس يا سول، أنتِ بخير.»

تنفسها الذي أصبح غير منتظم، عينيها زائغة بدون هوادة، طريقة أغماضها لعينيها بقوة لكي تهدء نفسها، لذا علم الطبيب بأن تخطي هذه النقطة صعب رغم محاولاتها لتخطيها.

«حتى وان مر الكثير من الأيام ليست كفيلة بجعلها تتخطى، حتى وان كانت ذات رجاحة عقل وقلب ما حدث لا يمكن تخطيه بسهوله.»

بدون النظر إلى الطبيب قالت بصوت مختنق: «ألا يكفي اليوم لهذا الحد؟»

اومئ الطبيب بتفهم: «حسنٌ يا سولين باركر يكفي لليوم، لدينا لقاء عما قريب، حسنًا؟»

اومأت سولين واستقام الطبيب يخرج من الغرفة بهدوء يقابل والدتها التي كانت تقف في الخارج.

: «فخور بكِ، تَعلمين.»

همس لوكاس لها ببمسةٍ وأعين لامعة.

زم الطبيب شفتيه بتفكير ثم قال إلى والدتها: «سأكون صريح معكِ، لما أري فتاة مثلها، لا تقلقِ عليها فهي قوية. كل ما في الأمر أنها ما زالت تحت تأثير الصدمة، ما حدث أمامها لم يكن هين، ما نخشي منه مستقبلًا أن لم تتخطي هذه الصدمة ستصبح عقدة لها مدي الحياة.»

وضعت والدتها يدها على فمها، وعينيها التي تشيحها بعيد عن الطبيب تعكس مدي حزنها على ابنتها، تنهدت وقالت إلى الطبيب: «شكرا لك ايها الطبيب.»

اومئ لها بأبتسامة هادئة قائلًا بملامحه السمحة: «لا بأس، أنه عملي في النهاية.»

ابتعد الطبيب يكمل سيره، بينما والدتها لم تريد البكاء أمامها فيكفي ما تمر به، اتصلت على زوجها تخبره بما حدث وهي تجلس على احدي مقاعد المشفي تشتكي له تفرغ شحناتها السلبية قبل أن تقابل ابنتها.

«لا شيء يمر كما تشتهيه السُفن، ولا الاهواء تظل كما هي، كُل شيء ييتغير ويسير كما كُتب الكتاب، ما علينا سوى تقبل الواقع مسايرته ومواكبته بما يجعلنا مرتاحين البال.»

..

يُتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي