١٨ الناجية الوحيدة

انبثق صوت إنذار سيارة الإسعاف يجعلها تستفيق من عواصف خواطرها، فتحت سولين عينيها بتعبٍ تحرك رأسها قليلًا بعدم راحة من الألم الذي يغزو حسدها.

أقتربت سيارة الشرطة، تقف السيارتان على مقربة من الحافلة، وتستمع إلى أصواتٍ خافته لا تستطيع تمييزها حتى، هي ليست واعية كفاية.

في هذه العتمة لم يستطيعوا رؤية شيء لذا أحتاجوا لأضاءة قوية، أصوات الاشخاص الذين أتوا لتلبية المساعدة يجعلونها تتماسك، هي حتى لا تعلم لمَ ما زالت متماسكة رغم ما رأته وما تشعر به، نبست بوهن وصوتٍ متقطع: «هُنا.. هُنـ..»

اخترقت صوت طائرة هليكوبتر المكان وهي تسلط ضوءها على الحافلة تنير الموقع للصحافيين لتصوير أبشع حادثة تمر على مواطنين مدينتهم الهادئة، وأغمضت سولين عينيها بأنزعاج وألم من قوة الضوء.

إستطاع رجال الشرطة كسر باب الحافلة، وقف في مقدمتها رجل وخلفه الكثير من الأشخاص في انتظار لتقديم المساعدة، نظر بتمعن للجميع يحاول إيجاد شخص على قيد الحياة لكنه لم يجد سوى الدماء واجساد فارقتها الحياة.

أبتعد يقول بآسف وحزن.: «لا يوجد آحد على قيد الحياة.»

الرجل الذي خلفه لم يقتنع وأراد الدخول فصرخ به: «سوف تضمر النيران بها في اي وقت، يجب أن نبتعد سريعًا»

دفعه يدخل الحافلة بلا اهتمام، ويحاول الدخول أكثر لكي يرى الجميع، يضع يده على رقبه أيًا من يستطيع الوصول له، الاجساد مترامية والمقاعد انثنت قضبانها الحديدية، لا يوجد شيء سليم حتى يوضح ذلك لذا صاح: «يوجد أحد هنا؟ يمكنك سماعي؟»

شعر باليأس وهو يرى الجميع ساكن بينما سولين التي تحاول جاهدة لتحريك يدها لكي يرى بأنها ما زالت حية، لكنها لم تستطيع لذا حاولت التحدث من أسفل الركام: «انا.. هنا.»

التفت الرجل حوله وهو يقول بصوت مرتفع أكثر: «ساعدني برفع صوتك قليلًا.»

أبتلعت سولين ما في جوفها ترطب حلقها وقالت بصوت مرتفع نسبيًا: «هنا.»

لاحظها الرجل، وبدون تردد دفع المقاعد وجثث الطلاب لكي يصل لها، جثي بجوارها في نية دفع المقعد الذي فوقها لكنه توقف بأعين متسعةعندما لاحظ ساقها العالقة ويحمحم يهدئها: «هاي، لا تتحركِ، اتفقنا؟ ستكونين بخير.»

وصاح بمن ينتظرنه بالخارج: «نحتاج مساعدة، اسرعوا.»

دلف رجل الشرطة غير أبهة بأن الحافلة سوف تشتعل في أي لحظة، ورجال الشرطة يحاولن إطفاء النار المشتعلة بجوار محرك الحافلة يبطؤن من عملية الاشتعال قدر الإمكان، متتظرين رجال الاطفاء.

دفع الرجُلين المقعد بقوة عنها، وجثي أحدهم بجوارها يبتسم بخفة لكي يطمنأها يشتتها عن ألم المصتحب لساقها: «أنتِ بخير، لا تقلقِ.»

أومأت سولين له وهي تبكي بصمت ووهنٍ.

حملها برفق حتى لا تتأذي أكثر، والآخر حاول إبعاد المقاعد لكي لا يتعثر بها، خرج كل منهم، فصاح رجال الشرطة بهم يساعدونهم على الابتعاد سريعًا: «ابتعدوا، لن نستطيع إيقاف الأشتعال.»

ركضوا مبتعدين سريعًا، وتعلقت سولين عينيها بالحافلة غير مصدقة ترك رفاقها بهذه البساطة لتصرخ باخر ذرة قوة لديها: «توقفوا! أصدقائي.. بالدخال، ارجوكم ساعدوهم..»

ظلت تصرخ بهيسترية متناسية ألم جسدها، وضعها الرجل على سرير سيارة الإسعاف قائلًا في محاولة بائسة لتهدئتها: «كل شيء سيكون بخير، اهدئ، سوف ينقذون أصدقاءك، حسنًا؟»

شهقت تحاول أخذ أنفاسها، وتؤمي للرجل تحاول تصديقه ودموعها تسري على وجنتيها بحسرة تحاول تكذيب ما رأته عينيها وتصديق كلماته، تحاول التشبث بأي أمل لأن السقوط في بؤرة أفكارها وما يحدث سيجعل حياتها جحيمًا حي.

وضع رجل الإسعاف قناع الأكسجين على وجهها والآخر يقيس أشارتها الحيوية وأخر يغلق باب السيارة سريعًا تزامنًا مع لحظة اشتعال الحافلة، أغمضت سولين عينيها بقوة وكأنها تحاول منع تسرب المنظر لها.

..


يضع لوكاس يده على أذنيه بقوة وهو يجلس فوق الأرض الباردة يضم ساقيه إلى صدره، ينسد ظهره عكس الجدار الفاصل بينه وبين غرفة سولين، يحاول لملمة هوجاء فكره ومشاعره فـ صوت الممرضين والطبيب وهو يصرخ بهم لكي يسرعوا يجعله يفزع وتضطر أنفاسه أكثر.

أمسك الطبيب جهاز الصاعق الكهربائي لكي يصنع صدمة كهربائية تجعل قلبها ينبض مرة أخرى، وضعت الممرضة المرهم على الصاعق وفركه الطبيب ثم صعق صدرها، أنتفض جسدها بقوة كما انتفض جسده بخوفٍ من بشاعة الصوت، ورغم ذلك لم تتغير إشارات نبض قلبها.

فعلها مرة ثم الأخرى وهذا تحت سمع لوكاس الذي يضع يده فوق أذنيه بقوه يحاول ألا يستمع لأصواتهم، ودموعه تسري على وجنتيه بضعفٍ واستسلامًا لفقدها هي الأخرى، بسط ساقيه ينظر إلى كفيه بقلة حيلة، ماذا سيفعل أمام الموت؟ لا أحد يستطيع مجابهته.

لا أحد.

: «أستكونين بخير، عزيزتي؟»

همس متساءلًا ودموعه تنهمر بقوة وبلا توقف: «أستكونين سعيدة، سولي؟»

حادث نفسه بجنونٍ ولحسن حظه لم يعيره احد انتباهه، جميعهم ينظرون حيث غرفة سولين على أمل أن يعاد نبضها بمعجزة ما، والدتها ما زالت تتأمل رؤية ذلك رغم خروج نواحها المتحسر على وداعها.

: «لا تخافي يا فتاتي، نحن حولكِ ومعكِ، لا تخافي.»

همس لوكاس مُجددًا وتفرج شهقاته أثر الغصة الملتفة حول عنقه: «أستتركيني حقًا يا روحي؟ أستتركين مَن سكنتِ جسده؟»

تساؤله لا يتوقف، وفكره ودموعه لا تأبي التوقف، هو يحثو أرضًا يترجاه ويدعو أن تَعود له بخير: «أسنفترق بهذه البساطة يا سولين؟»

: «أرجوكِ لا تَفعلي، لا تفعلي هذا بيّ، لن اتحمل أقسم لكِ.. لن استطيع تحمل بُعدك أنتِ الروح يا حبيبتي.»

يهمس بخفوتٍ ودموعه اغرقت ثنايا ملامحه تفقده الرؤية من حوله، يشعر وكأن دلو ماء انقلب فوق رأسه بلا سابق إنذار يزيده برودة وثقل.

كاد الطبيب ييأس ولكنه ثابر لأخر لحظة، فعلها مجددًا ومُجددًا عازمًا على مساعدتها بالتمسك بتلك الحياة، صعقة أخيرة فعلها بدافع الاستسلام وتنهار والدتها تستسلم لتلك الحقيقة المؤلمة، لكن دوما ستجد الأمل في أشد الظلمات.

وما أن أبتعد الطبيب ظهر نبض ضعيف على شاشة جهاز قياس نبض القلب، وتشهق سولين بقوةٍ وهي تفتح عينيها الممتلئة بالرعب.

استرخي الممرضين، وأبتسم الطبيب براحةٍ يتابع مؤشراتها الحيوية لتفادي الضرر.

وضعت والدتها يدها على النافذة الزجاجية وهي تنظر لابنتها بإبتسامة باهتة وعيونها تزرف دموع الفرح غير مصدقة أنها عادت لها وفتحت عينيها أخيرًا، أستقام لوكاس بهرولة عندما وجد الجميع يركض إتجاه النافذة الزجاجية، استند ضد الجدار يدعم حسده الهزيل والضعيف في مقاومه عجزه لعله يرى ما يشاهدونه.. لعله يرى ما يشفي جراح صدره بعد طول انتظار.

وقف بخوفٍ لا يريد سماع خبر آخر مُحزن، لا يريد أن تكون هي صاحبة الخبر هذه المرة، وعندما أستمع إلى ضحكة والدتها وهي تعانق زوجها بثت الطمأنينة في ذاته قليلًا تجعله يفلت ضحكةً بينما ينظر إلى جسدها الساكن والممرضون الذين عادوا لمحاوطتها والكشف عليها.

: «سول؟ سول بخير!»

نبس لوكاس يشير إلى النافذة وينظر للحاضرين، وتؤمي والدة سولين له بقوة تمد يدها له تسحبه لعناقها وتؤكد حديثه: «أخبرتك يا فتى ابنتي قوية.»

دفع برادلي نواه ابنه يبتسم له براحةٍ والآخر يخفي وجهه ينهار أخيرًا: «ظننت أننا سوف نفقدها يا أبي.»

نفي والده يربت فوق ظهره بتشجيعٍ ويعانق ماركوس من الجه الأخرى: «أنها سولين، لا تمزح بشأنها!»

ضحك ماركوس فـ هو أكثرهم تشاجر معاها ويعلم ما تعنيه عزيمة أخته.

أما سولين فقد كانت معهم جسدًا بلا عقل، عينيها لم ترمش حتى، تُطالع السقف ونبضات قلبها عادت للمعدل الطبيعي نوعًا ما، تحركت مقلتيها حولها بتفحصٍ، رمشت تستقبل شعور حرقة عينيها أخيرًا وينبس الطبيب متساءلًا مجبرًا فتح عينيها أسفل الضوء: «سولين، تسمعيني؟»

: «يمكنك رؤيتي، صحيح؟»

تساءل مُجددًا يطفئ الضوء المسلط على عينيها يتأكد ان حواسها لم تتأثر، لكنها فقط في عالم آخر لا تجيبه، هي تشعر بوجودهم وتسمع أصواتهم لكنها بعيدة بحق، بعيدة ولا تستطيع الصراخ ليسحبها أحدهم لأرض الواقع، طرفت تعتاد على الإضاءة من حولها حتى أصبحت عينيها زائغة، تتحرك بدون توقف ومعالم الرعب تزحف إلى ملامحها الزابلة.

نبضات قلبها التي أصبحت تزداد فجأة وكأنها في سباق مارثون، عَلم الطبيب حينها بأنها تمّر بصدمة عصبية ستجعل التعامل معها صعب، حاول تهدئتها وهو يلوح بيده أمام وجهها لكي يشتت ناظريها، ويده الأخرى يضعها على كتفها يضغط بخفه وهو يقول بنبرة هادئة لا تؤذيها: «أنتِ بخير الأن، كل شيء على ما يرام.»

تنفسها أصبح أسرع تأخذه بصعوبة وتطالعه بخوفٍ وكأنه ملاك الموت الذي سيقبض روحها، جسدها تحرك بعشوائية ضعيفة لهشاشة عزمها، حاولت النطق بشيء لكن الغصة كانت أقوى من تحرك لسانها لتصبح عينيها تلمع أثر الدموع المتحجرة بها تأبي الانهمار.

حركت رأسها ببطء تنفي ولا يعلم أحد لِمَ تنفي ومما هي خائفة، عينيها تائة وكأنها غير واعية بما يحدث حولها. انتهي دور الطبيب ينسحب ببطء يخبر والديها بحالتها، بينما باقية الممرضون يعدلون المحاليل والأجهزة المتصلة بجسدها تاركين المحلول فقط، وأخرى تجهز حقنة لتهدئها بينما أخرى تهمس لها بكلماتٍ مشجعة تتعامل على العلاج النفسي في أولى لحظاتها منذ الحادثة.

: «جسديًا هي بخير، فقط بعد الوقت وستشفي تمامًا لم تتأثرًا كثيرًا، أما نفسيًا هي ليست في أفضل حال، سيتولى الطبيب النفسي رعايتها مُنذ هذه اللحظة، ليس بيدي شيء لتقديمه أكثر من ذلك، اعتذر."

نبس الطبيب حديثه دفعة واحدة، يرفع يده بقلة حيلة ويتخذ خطواته مبتعدًا كفعل احترازي يفعله دومًا في تلك الحالات.

: «لقد اطمئناننا عليها وهذا يكفي.»

واسي برادلي زوجته التي ما لبثت حتى انكسرت ملامحها مُجددًا.

ظلت سولين ساكنة تنظر للسقف بملامحٍ مندهشة يتشعبها بعض الخوف، وعينيها بها لمعة انكسار وكأنها تعاتب أحدهم، لكنه فقط ظهرت مقتطافات في ذهنها سريعة من صوت ضحكاتهم الذي يخترق مسامعها لـ منظرهم وهم يضحكون بسعادة إلى صوت صراخهم الفزع ومنظر موتهم الذي حدث أمام عينيها وهي عاجزة عن المساعدة، لشعور البرد الذي ألتحف حولها لساعاتٍ بمفردها، جميعها مشاعر ثقيلة وباردة تشهدها وهي واعية تمامًا.

تشهدها وهي مدركة أنها الناجية الوحيدة.

..

يُتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي