١٠ فقد

«الندم من أصعبِ المشاعر التي تداهم المرء.»

يظل الضمير مستيقظًا فقط كي يذكرك بالماضي وما كان سيحدث إذا فعلت العكس، ليجعل حياتك جحيمًا، يوسوس لك بسوء أفعالك يجعلك تسقط للهاوية أكثر وأكثر.

«شعور الندم انساني، لكن الانخراط به حد الانهيار من وسوسة الشيطان وضعف الإنسان.»

ضميرك الكامن داخلك يجعلك تندم لكي تصلح من شأنك، لكي تتخرك وتفعل عكس الخطأ الذي وقعت به، لا لكي تظل واقعًا في بؤرة احزانك وآلامك.

الاستمرار على الشيء وان كان مُضر لـ هو إدمانٌ غير مُباشر، والابتعاد عنه مؤلم بقدر الألم أضعاف مُضعفة.

يقف مارك فوق كرسي بغرفته بينما يتمسك بحبلٍ.. بحبلٍ سيكون المشنقة التي تنهى أي صراع قائم بداخلهِ ضاربًا بكُل شيء عرض الحائط وكأن لم يمكن مثقال سبب للبقاء حيًا.

تمسك بالحبلِ بقوةٍ يطالعه بترددِ وعينيه أغروت بالدموعِ الخائفة والمتحسرة، يريد الأنتحار فهو لا يشعر بأي شيء وكأنه في غرفة معزولة رغم أنتحاب شقيقته الأكبر في الخارج تترجاه حتى لا يؤذي نفسه: «مارك، لا تَفعل هذا.. يا مارك لن استطيع تحمل خسارتك أنت الاخر.»

اخترق صوت شقيقته صخب محاولات رفاقه بدفع باب غرفته وهم يصرخون به حتى لا يجن جنونه يفتح لهم الباب.

: «أنا اسف يا رفاق.»

تمتم بخفوتٍ يضع الحبل حول عنقه ويغمض عينيه بضعفٍ يتمتم بذات النبرة الخافتة: «آسف لعدم قدرتي على التحمل، لكنني لا استطيع بعد الان.»

كاد يدفع الكرسي لكن أنتفضت جسده عندما كُسر باب غرفته فجأةً وحمل بيتر له من معدته يدفعه ضد السرير بغضبٍ لا يستطيع أحد كبحه، اقترب جاستن منه يلكم وجهه بغضبٍ والأخير مُستسلمًا كُليًا لهم حتى صاح جاستن به شزرًا: «ألا يكفينا من فقدناهم؟ أتريد التسبب بجرح أخر وأكبر بسبب ندمنا على عدم حمايتك أيها الوغد؟ هل سترتاح بينما تنحرق في جحيم موتك؟»

: «اتركوني وشأني!»

صاح مارك ينكمش في وضع الجنين فوق فراشه بينما يخبيء وجهه بذراعهِ قائلًا بخفوتٍ ونبرة متحشرجة أثر غصة البكاء: «لمَ منعتوني؟ لا أريدُ تِلك الحياة، لا أريدها بدون أخي، لا يمكنني تحمل الألم بعد الآن.. الا تستطيعون الشعور بي؟ أنا لستُ.. لستُ قويًا مِثلكم كي اتحمل.. يا ليتني مُت أنا.»

تقدم لوكاس يسحبه من ياقة قميصه غاضبًا وغير مُصدقًا هذا الضعف الذي طغى على كُل معالم مارك المرحة والشجاعة: «توقف، فقط توقف ولا تكن طفل متذمر هكذا، الجميع يتألم، الجميع فَقد، لست أولهم ولا أخرهم، لذا توقف عن تذمرك.»

ظنوا أن انفجار لوكاس في وجه مارك سيجعله يصتدم بالحقيقة، لكنه فقط انفجر صارخًا بهم وكأنه يتهمهم بعدم التفهم والتدارك بوضعه: «كيف؟ كيف ولا استطيع تحمل ألم صدري؟ انه يفوقني مقدرة.. بحقكم كيف يمكنني التوقف عن لوم نفسي؟ وأنا الذي أخبرته أن يذهب حتى أتخذ راحة من تذمراته الدائمة، سجلت أسمه دون رضاه دافعًا الحقيبة بوجه لكي يذهب، أنا مَن دفعته للموت بيداي، أنا مَن عجلت برحيله بكامل رغبتي وأنا الذي أتمنى المُوت بدلًا عنه الان.. لا يمكنني التحمل انني السبب، أشعر بالأختناق، الندم يأكلني حيًا.»

هربت غصته يشهق حتى يستطيع اخذ أنفاسه: «لا أريدُ.. هذه الحياة بدونه.»

دموعه تنهمر مثل جاستن الذي يمسحها سريعًا مدعيًا القوة يحاول التماسك ولا يعلم لِمَ يؤذي نفسه بطريقة أخرى تزيد ثقل كتفيه كاد يتحدث ولكن سبقه مارك بصوتٍ مرتعش مثل طفلٍ صغير لا يستطيع ايقاف بُكاءه: «أعيدوا لي أخي.. أرجوكم أعيدوه ولن أتضايق من تذمراتهِ مجددًا. يا إلهي لا استطيع العيش بدونه.»

انتحب منفجرًا ببكاءٍ، ولم يستطع أحد تشجيعه نبس بكلماتٍ تساعده على تخطي فقد شقيقه، فهو لا يتألم بسبب فقده فقط وهذا شعور بغيض لا يستطيع احد ان يمحيه أبدًا؛ الندم.

أفلته لوكاس ببطءٍ وهو ينظر له بأعينِ متسعة لامعة بالدموعِ المتحجرة، شعر بحرقته وندمه، وتذكر بأنه اقنع سولين بأن لا تهتم بحضور مبارته والذهاب أخبرها نصًا ان الحياة لن تتوقف إذ لم تحضر مباراته.
شعر بأنقباض قلبه هو الأخر لذا أنسحب بجسدٍ يرتعش.

أدرك الرفاق ان فقد الأخ وان كان سيئًا فـ هو طعنة مُميتة لا تُقارن بالصديق، الأخ أنه صلة الرحم، دماء مشتركة وروح مترابطة حتى الأبد، الأخوة رابطة يصعب انكسارها، ويصعب تحمل انكسارها.

أنزلقت شقيقته الكبرى ضد الحائط تضم ساقيها إلى صدرها تعانقهم بذراعيها وهي تنظر له بعيونٍ منكسرة تنهمر منها الدموع بحرقةٍ على حاله فقد فاق الندم كأسه، وهي بالفعل تريد الصراخ به لأنه السبب في ذهاب شقيقهم، لكنها هكذا سوف تفقده هو الأخر لذا اتخذت من الصمت حليفًا.

اقترب جاستن يجلس جوار مارك يضمه له بينما يربت على ظهره بحنوٍ، حتى وإن كانت الصداقة ليست ذات صلة رحم لكنها ذات صلة روحية لا يستطيع أحد تفسيرها، بهم نتعافي وبهم نكمل سيرنا، رفقاء الدرب لا يمكن تعويضهم في النهاية.

تشبث مارك به وازدادت شهقاته بينما يردد بنواحٍ جعل الغصة تلتف حول اعناقهم جميعًا: «أريد أخي، أريد الاستماع إلى صراخه كل صباح.. حتى لا يذهب إلى المدرسة.. فاليعود ويتشاجر معي لن أعاقبه فقط يعود..»

أجمعت شقيقته شتات نفسها وأستقامت فجأةً تتقدم منه بخطي متعثرة بينما تمسح دموعها التب تساقطت عنوة، سحبته من الفراش بقوة جعلته يجفل ويعتدل بسبب سحبها له ويبتعد الرفاق سامحين لها باختراق مساحة مارك.

وفجأة ودون سابق انذار دوت صفعة قوية فوق وجهه جعلتهم منصدمين وصاحت به قبل أن يستوعب احد ما فعلته للتو: «حسنٌ لقد مات فيلكس، ماذا نفعل؟ أجبني لقد مات وانتهى وجوده.»

لا أحد تجرأ على النطق أمام نظراتها الحادة وصوتها الغاضب تهدر في وجه شقيقها الصغير بينما تهز جسده بلا رحمة: «ألا تشعر بي؟ أجبني أيها الجبان؟ ألا تعشر بمن حولك؟ بمن يهتمون بكَ؟ هل فيلكس سيكون سعيد هكذا؟ هو مات بالفعل، لذا توقف.»

انقطعت أنفاسها كما تنقطع اوتار قلبها ألمًا على حالهم: «توقف أرجوك لا تزيد ثقل كاهلي، الجميع لديه جرح عميق بقلبه وهذا لا يعنى النهاية.. تذكر كلمات والداينا عندما ننجرح، أتذكرهم حتي أم غباءك يعميك؟»

: «أنت لم تفعل هذا الصخب عندما فقدناهم، أتريد ان تصيبني بالحسرة حتى تزهق روحي؟ أتتذكر كلماتهم يا مارك؟»

انهت سؤالها تدفع كتفه بقوة لعله يستفيق ويجيبها.

حاول منع استمرار ترقرق دمعه وهو يجيبها خوفًا منها وهو لا يعلم سبب خوفه منها حتى: «الضربة التي لا تقتلك تجعلك أقوى.»

نظرت له غاضبةٍ بسبب ضعفه وخوفه، بسبب خضوعه لأفكارٍ ومشاعر ستجعله يتشبث بالهاوية، سحبته من ياقة قميصة إلى المرحاض وهي تقول بحدة: «جيد أنك ما زلت تتذكر كلماتهم، أتريدني أن أصاب بالجنون؟ أنا فقدتُ جميع من حولي، تريدني أن افتقد القشة التي اتمسك بها حتى أظل واعية؟ لمَ تفعل هذا بنّا يامارك؟»

رشت الماء على وجهه وهي تصرخ به بجنونٍ تمسك رأسه توجهه حيث المرآه: «أنظر إلى نفسك كيف تبدو؟ ألم تخبرنا دومًا بأنك رجل المنزل ويجب أن نستمع لك؟ أين هذا؟ أنا فقط أرى وغد عديم المشاعر... يا مارك تماسك فأمامك الطريق مليء بالأشواك، وأن لم يكن لأجلك، تماسك لأجلي يا أخي.»

خانتها قوتها في نهاية حديثها، فظهرت نبرتها مرتعشة وتنهمر دموعها تزيدها ضعفًا.

تشبثت بشقيقها تبكي مثله على أرضية المرحاض، ومن صدمة مارك ربت فوق ظهرها وهو يمسح دموعه وكأنه واعٍ لما حوله أخيرًا؛ لأنه لم يرى شقيقته يومًا بهذا الضعف، شقيقته التي لم تتزوج حتى هذه اللحظة كي ترعاهم لم يراه يومًا تبكي وتنوح مثل هذه اللحظة.

ظل يردد لها بصوت مرتعش صادق عما أدركه في لحظة شعور بموعها تبلل قميصه بينما تعانقه بقوة وكأنه سيختفي: «آسف، أنا حقًا آسف.»

انسحب رفاق مارك بهدوءٍ تاركين المساحة للشقيقين بمفردهم، وهم يسيرون عائدين لمنازلهم لم يتجرء أحد منهم أن ينبث بحرفٍ واحد، يتذكرون كل شيء.. كيف كانت حياتهم، وكيف اصبحت الان.

‹الجميع فقد شخصًا ما، من فقد صديق، حبيب، شقيق، ابن، جميع مَن في المدينة فقدوا آحد قريب منهم، منهم من يتحمل الألم النفسي، ومنهم يلجأ إلى أساليب تدمره وتدمر من حوله›

‹لكن لا يدركه المرء في أسوأ لحظاته ان الشخص ليس بمفرده، لا يوجد أحد وحيد، مهما كانت وحدتك سوف تجد على الأقل شخص يهتم لك حتى لو لم يظهر ذلك. فـ توجد العائلة، الأصدقاء، حتى المعارف السطحية.. لا تظن أبدًا أنك حُر في ذاتك، مشاعرك تؤثر عليهم بطريقةٍ او بأخرى، لذا لا تؤذي ذاتك بحُجة أن لا احد يهتم بك، الجميع يهتم أنت الأعمي فقط›
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي