الفصل الثاني

كانت ترتدي ملابس سميكة وتغطي نفسها بمعطف عسكري سميك يكاد يصل إلى ركبتيها، وتلف وجهها ورأسها بوشاح أسود اللون أيضاً، كشفت عن وجهها مذهولا بما أرى وقلت بصوت عالٍ دون أن انتبه "يا إلهي إنها حقاً فتاة"

ولكن كيف هذا لقد مضى وقت طويل جداً على أخر مرة رأيت فيها انثى في هذه المنطقة من المدينة! ولقد كانت مخطوفة على الأغلب، في الحقيقة لا إناث في هذه المدينة مطلقاً.

قلت هذا وأنا أدقق النظر واتمعن في وجهها ممسكاً بمصباحي اليدوي، لأرى بعد ذلك صدفةً بركة من الدماء قد تجمعت أسفل رأسها وقد اختلطت بمياه المطر.

دسست يدي أسفل كتفيها ووضعت المصباح في فمي ويدي الأخرى أسفل رأسها وتحسست شعرها بيدي لأجد جرحا كبيراً في مؤخرة رأسها ينزف دماً بشكل مهول!

تلفت حولي فلم أرى أي أحد في الشارع لا سيارات تمر ولا حتى مشاة تساءلت في نفسي ماذا سأفعل الأن بهذه الفتاة هل يجب أخذها معي؟ أم أتركها في مكانها وأكمل طريقي.

لا شيء حولي سوى الأنقاض وركام المباني والظلام يلف كل ذلك وقد خيم على المكان رائحة المطر ممزوجة برائحة الدماء التي قد جفت على جدران المنازل وفي الأزقة الضيقة المعتمة منذ أيام طويلة.

كانت الرائحة تنبعث من كل مكان ولا صوت يعلو على صوت المطر هاطلاً على صفائح الحديد والخردة المتناثرة هنا وهناك فيصدر ذلك الصوت القوي المعروف.

بالإضافة لبعض أصوات الحيوانات كالذئاب والكلاب وطيور البومة، وبعض أصوات الرصاص تأتي من هنا وهناك.

حسمت أمري وقررت أن أكمل طريقي إلى المنزل، تركتها مرميةً على الأرض وركبت على الدراجة، لكن شعوراً ما كان يلح عليّ أن لا أتركها هنا.

إحترت في أمري ولم أدري ماذا يجب أن أفعل في هذه الفتاة، وبعد قليل من التفكير رأيت أنني إن تركتها هنا سوف تموت لا محالة أو تكون صيداً سهلاً لتجار الأعضاء ومن يتاجر بعرض الفتيات ولربما يعتدي عليها أحد ما.

قررت اخذها معي إلى المنزل كي أنظر في شأنها وأيضا هي فارة من أحد ما، هذا ما يوحي شكلها ومظهرها ولعلها كانت فتاة بريئة لا ذنب لها.

شددت عليها ثيابها وحملتها بين ذراعي ووضعتها أمامي على الدراجة النارية أشعلت المحرك ووضعت سيجارتي في فمي و أشعلتها ومضيت أكمل طريقي.

لا أنكر أنني كدت أقع عدة مرات أو أصطدم بحواف الطريق بسببها فقد كانت تتمايل كالهلام فهي غائبة عن الوعي وقد تراخى جسمها حتى أخر حد.

وقد لاحت لي فكرة القائها على جانب الطريق وتوفير ذلك الجهد على نفسي ولأن الفتاة ايضا ليست من الذين يهمني أمرهم فلم أكن أعلم لماذا أنا مهتم في مساعدتها من الأساس.


لكن كان هناك دافع خفي بداخلي يحثني على المواصلة لم أعلم حينها ما هو.

كانت هي بحالة اغماء وكأنها ميتة لا تكاد تثبت على جلسة واحدة تتمايل مع كل مطب والطريق زلق بسبب المطر، وبصعوبة بالغة أكملت طريقي على مهل حتى وصلت إلى منزلي.

نزلت من على الدراجة النارية وحملتها بين ذراعي أدخلتها إلى الشقة ووضعتها على كرسي في صالة الاستقبال ومن ثم أدخلت الدراجة إلى الشقة أيضا أغلقت الباب بإحكام خلفي وعدت إلى تلك الفتاة.

كان البيت مظلم كله باستثناء نافذة صغيرة مطلة على الشارع يدخل منها اشعة القمر التي تتسلل هاربة من بين السحاب الممطر، تارة يضيء البرق وتارة يتسلل شعاع خفيف من القمر.

بحثت في الأدراج عن معقمات وشيء ما ألفُّ به رأسها، أحضرت كل شيء وجدته أمامي وعدت إليها، مددتها على سريري.

وقمت بلف رأسها جيداً بإحكام بعد أن عقمت لها الجرح وقمت برش بعض أوراق نبات العصفر كما علمتني أمي رحمها الله عندما كنت أجرح نفس وأنا صغير.

أحسست بأن جلدها بارد جداً والماء يقطر من ثيابها فاحترت في أمري "مجدداً هل اتركها على حالها حتى الصباح" ؟

ربما لو تركتها حتى الصباح لمرضت من البرد أو ماتت من كثرة النزف.

أمسكت ذلك المعطف من الأعلى وأغمضت عيني مستغفرا ربي فأنا لست بذلك السوء لانتهاز فرصة كهذه لأعتدي على فتاة أنا حتى لا اعلم من تكون.

نزعت عنها ذلك المعطف وأنا أحاول أن لا أنظر إليها، رميت المعطف على الارض وتلمست ذراعها فأحسست بقماش عليه تنفست الصعداء وزفرت بارتياح لأنها كانت ترتدي شيئا أضافياً أيضاً.

فتحت عيني لأجدها مرتدية جلباباً، إلا أنها كانت قد رفعته قليلا عن ساقيها وهي تركض على ما أظن.

كان من الغريب رؤية فتاة ترتدي جلباباً، لقد انقرض هذا اللباس منذ زمن وعلى الأغلب مات كل من كان يرتدي مثل هذه الأشياء، أو هكذا كنت أظن.

قمت بتعديل لباسها وتأكدت أن لاشيء مبلل من ملابسها ولففت لها رأسها بمنشفة وحاولت أن لا أترك لها شيئا ظاهراً من جسمها ابداً فهي على الأغلب فتاة محتشمة.

جلست على الاريكة أحاول أن التقط بعض الأنفاس، فقد أتعبتني هذه الفتاة، تلفت حولي فرأيت بعضاً من الأخشاب مجمعة في ركن الغرفة.

"يااااه جميل جداً هذا ما أنا بحاجة إليه"

قلت هذا وأنا أرتجف، لقد كنت بدأت أشعر بالبرد أنا أيضا بعد أن تبللت ملابسي.

جمعت بعض الأخشاب ورميتها في المدفئة وسكبت عليها بعض الوقود واشعلتها، اشتعلت وبدأ الدفئ يسري في الغرفة شيئاً فشيئاً.

فأمسكت السرير الذي تضطجع عليه الفتاة، وجررته ببطء ناحية المدفئة قربته منها لعلها تشعر بالدفئ قليلا وتجف ثيابها فأنا لن أنزع عنها قطعة أخرى من الثياب حتى لو ماتت من البرد.

قلت في نفسي ساخراً متهكماً "هذا ما كان ينقصني أن أعتني بالأطفال في آخر حياتي"

نهضت من مكاني وتوجهت إلى الغرفة الأخرى بدلت ملابسي أنا أيضا فقد تبللت كلها وأنا أحملها طيلة الطريق، وأحضرت إسفنجة صغيرة وبضع بطانيات كي أغطي الفتاة بها.

تركت لنفسي الإسفنجة لكي افترشها واغطي نفسي ببطانية صغيرة، سمعت صوت إبريق الشاي يصفر وهو على المدفئة، يا إلهي لقد نسيت أمره حقاً و جفت المياه التي بداخله ايضا.

رائع هذا ما كان ينقصني هذه الليلة اخرجت ظرف شاي من العلبة ورميتها على الأدراج في مكانها المعتاد وحضرت لي كأساً من الشاي وضعته أمامي ووضعت بجانبها علبة السجائر ومسدسي الخاص وبعض الطلقات الاضافية.


أمسكت بأحد كتب الروايات التي كنت أقرأها سابقاً لكي أكملها وبجانبي كتاب لبعض أشعار "المتنبي" ذاك الشاعر الفذ والذي أظنه أثر في تكوين شخصيتي تأثيراً كبيراًفصرت أشبهه لحد ما.

هذه هي عائلتي وهذه الرصاصات هم من أدعوهم "بصغاري" وعلى الرغم من ذلك فلطالما ضحيت بهم في سبيل أن أنجو أنا.

لا يكاد يمر يوم إلا وألقي بعشرة منهم في جسم أحد ما أو رأس ذئب مثلا.

هذا ما أسميه بالعائلة والحب الحقيقي والتضحية فكما يقولون "الجميع للواحد والواحد للجميع"

أما ما كنت أراه في القصص وأقرأه في الروايات فلا يعدو أن يكون محظ أحلام وردية وخرافات لا أكثر بالنسبة لي.

وأما سيجارتي التي لا تفارقني فقد صارت سميري في ليالي الطويلة المملة نوعا ما، وأيضاً أنفس بها عن غضبي عندما أفشل بأداء عمل مهم مثلا.

مددت يدي على يدها لكي أتحسس حرارتها فكأنها قد شعرت بدفئ ما وجسمها بد أكثر حيوية من قبل ولم تعد مبللة كثيراً


يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي