الفصل الثامن والعشرون

اسمت امي تلك الطفلة تسنيم وكان لها فعلا اثر النسيم على عائلتنا في سحرها كما يفعل نسيم الصباح بقلوب المتألمين.

منذ أن دخلت تلك الطفلة حياتنا وبدأ كل شيء يتحسن، الاحزان تنجلي و التفاؤل بالقادم يملأ القلوب وعادت الأمور تدريجيا تسيرنحو الأفضل، فرح الجميع بمجيء تلك الطفلة وخاصة أمي كانت تسنيم بمثابة هبة من الله أرسلت من غاض الغيب إليها.

استمرت وفاء زوجة عامر بالعيش معنا ثلاث سنوات ثم قررت السفر إلى الخارج وإكمال دراستها التي انقطعت عنها بعد ان تزوجت اخي عامر.

فقد كان شرطه الأول والوحيد ان تبقى وفاء متفرغة للمنزل والعائلة حيث كان يسكن معي انا وامي في حينها.

سافرت وفاء تاركة لنا تسنيم ذات الثلاثة أعوام لنعتني بها و تؤنس وحدة امي، على الرغم من شدة تعلقها بابنتها ولكنها أثرت أمي على نفسها.

ربا: اكمل اين هي الان؟

_وفاء؟ لا ادري أظنها في إيطاليا
ربا: لااا اقصد تسنيم اين هي؟

_أها تلك قصة أخرى سأخبرك بها لاحقاً

ربا: يا إلهي كم أنت كتوم يا عزام! حسنا اين والدتك الان اخبرني! واياك ان تقول سأخبرك لاحقاً.

أجبتها بغصة خفية في قلبي:لا لا لن اقول ذلك لأن والدتي "توفت رحمها الله"

انخفض حاجبها مستشعرة الحزن وقالت متأسفة: حقاً اسفة يا عزام لم اكن_

خشيت ان ترى ربا الرجفة في عيوني واحمرارهما وحاولت الالتفات لناحية اخرى ابعد عيني عن ربا وقلت لها: لا عليكِ إنه امر وانقضى ولا نملك ان نفعل شيئاً سوى الدعاء لها بالرحمة.

ربا: رحمها الله ربما الله قد اراد لها أن تجتمع بعامر

هدأت ربا للحظات و هي تحدث نفسها "لن اسأله عن احد حاليا ظاهر عليه أنه قد تأثر وبدا عليه الحزن"

تمالكت نفسي وعدت والتفت إلى ربا فوجدتها شاردة الذهن فأمسكت بيدي رشقة من الماء ورششت بها على وجه ربا وضحكت انتظر ردة فعلها.

شهقت وافلتت الممسحة من يدها متفاجئة بما حدث لم استطع ان اتمالك نفسي فانفلتت ضحكاتي وأنا أراها عابسة بذلك الشكل الطفولي الجميل.

ربا: ولكن، لماذا فعلت هذا!

ضحكت و قلت لها: تذكرت ان امي قالت الماء فراق فرششتك لعلك تعودين لبيتك.

_بصراحة مظهرك كالقط المبلل العابس حمداً لله أنك لا تضعين المكياج.

وبينما انا اضحك إذ أمسكت هي الاخرى ماء بكلتا يديها ورشقتني غاضبة تريد الانتقام لنفسها.

فتعالت ضحكاتنا ولم احس إلا ورقعة عيني سقطت بعد أن تبللت.

فشهقت ربا واضعة يدها على فمها بعد أن تبددت تلك الضحكة عن ثغرها وقالت: يا إلهي عزام عزام!

رأيت الرقعة تسقط فانحنيت وحاولت امساكها لكنني لم الحق بها.

رفعت رأسي لكي انهض فأصبحت قريباً جداً من ربا
فخافت مني واغمضت عينيها بيديها الصغيرتين وهي تكتم انفاسها.

فتراجعت خطوة للوراء وانا اضحك وقلت: لا تخافي انا لا اكل الفتيات لقد تناولت الفول قبل قليل من يد فتاة جميلة.

أزاحت اصبعها ببطء عن إحدى عينيها تنظر بخوف لتطمئن لكنها سرعان ما ادارت وجهها تضع كف يدها بجانبه.

استغربت من فعلها وقلت: ربا ما بك لماذا أنت خائفة هكذا؟

تمتمت بصوت خافت متلعثم: عينك لقد تحولت إلى اللون الابيض!

سمعت تلك الكلمات فدق قلبي دقة واحدة جعلته يسقط في قعر صدري فكأنما خر إلى أسافل الجب.

على الرغم من انني كنت اعلم انني لن ارى بها مجدداً ولكن هالني جداً ردة فعلها فغطيت عيني بيدي وادرت وجهي وقلت: احضري اي قماشة ألف بها عيني بسرعة.

استجابت لأمري وهبت مسرعة إلى غرفته وعادت محضرةً خرقةً سوداء اللون وناولتني إياها قائلة: تفضل هذه يا عزام

ساد الصمت بضعة دقائق ونحن ننظف وخيم الهدوء
فرأيتها تتوقف عن التنظيف وصمتت لبرهة من الوقت فاستدرك ناحيتها ونظرت لها وقلت: ما بك يا ربا في فمك كلام اليس كذلك.

أجابتني والحزن يبدو في كلماتها: عزام أنا اشعر بعذاب الضمير وقد خفت بسبب انني لم_

قاطعتها واغمضت عيني وقلت: انتظري انتظري إن كنت ستعودين للاعتذارات والتبريرات فسوف اغضب منك لأنني سبق واخبرتك لا حق لي عليك وما حصل خارج عن ارادتنا_

_اسمعي بدل هذا الجو الكئيب ما رأيك ان تحكي لي حكاية.

ربا: حكاية! هل انت جاد؟

_اجل لقد مللت من التنظيف اسمعي سأجلس لأحضر لنا كوبين من الشاي ريثما تخيطين لي رقعة جديدة وبينما تنتهين ستحكين لي بعض الشيء عن الفتى المسمى أيمن ما رأيك!


رددت ربا اسمه باستنكار وقالت: أيمن! ما الذي تريد أن تعرفه عنه؟

_اجل هو أخبريني عن علاقتكما كيف كانت؟

ربا: حسنا سأخبرك ولكن لا تضحك من كلامي ارجوك سأشعر بالخجل حينها ولن أستطيع أن أكمل الحديث.

قهقهت وقلت: لك ذلك كما تريدين هيا تعالي.

فقالت ربا مغتاظة: انت تضحك منذ اللحظة يفترض بأن يكون هذا مبشراً أليس كذلك.

_حسنا حسنا انا سأجلس بجانب المدفأة وانتي اجلسي على الاريكة وخذي قسطاً من الراحة هيا أخبريني عن المشاكل التي كانت بينكما مثلا.

ربا: حسنا لكن اخبرني لماذا؟

_سأخبرك عندما تنتهين من خياطة الرقعة كعقاب لك.

ضحكت ربا وارتسم على ثغرها ابتسامة صغيرة خجولة سريعة ومن ثم عادت تجمع شفتيها لتبل الخيط بيشيء من ريقها وبدأت الخياطة قائلة:

حسنا اسمع قصتي الغريبة إذاً؛ أيمن الشاب الوغد الخائن كان يعاملني طيلة الوقت كصديقة فقط ويمنيني بالمستقبل الواعد وأنا التي أحبه وأدمنته واندفعت نحوه بمشاعري الرقيقة، بقلبي الذي لم يعرف معنى الحب من قبل.

نعم من أجله خالفت الواقع وأنكرت الحقيقة وتعاميت عن الف دليل الذين كانوا يحاولون اقناعي انه سيرحل ويتركني كما يفعل أغلب الشباب اليوم مع الأسف.

لم اكن اطيق كوني له مجرد صديقة، لأن الأصدقاء يتعددون وهذا يعني ان تدخل فتاة جديدة حياته وتشاركني فيه.

كنت أرغب في الانتماء إلى عالمه الخاص أحبه حبا طاهرا حقيقياً؛ وهذا معنى ان اكون صديقة له "يريد أن يتزوج غيري وهذا ليس منطقي ابدا"

على الاقل بالنسبة لي أنا فقط! أنا التي أحببته حبا كل يوم يكبر ويتسع ويرتقي.

يجعلني مجرد صديقة وأنا التي كنت أنتظر كلمة أخرى منه بفارغ الصبر ليس هذا عادلاً إنه يستهلك كامل مشاعري واحاسيسي ثم ماذا! لن يكون بالمقدور أن اسمعه يناديني يوما ما زوجتي أو حبيبتي أو سندي أو أميرتي.

أنا التي لم تسمح لدموعه أن تنزل منها قطرة واحدة بسببي يوماً من الأيام بينما كنت أنا التي جفت مقلتيها من البكاء بسبب معاملته الجافة لي، رغم ذلك لم اسمح لابتسامته أن ترحل يوماً.

وأفكر كيف يقضي يومه بعد أن نفترق وهل هو يجتهد وكنت اتعبه وأضيق عليه "على حد وصفه" بأسئلتي التي لا تنتهي مثلا هل أنت متعب من العمل، ماذا كان طعامك اليوم، هل شربت قهوتك الصباحية، هل نمت جيداً.

إلى آخر تلك الأسئلة التي لا تصدر إلا من فتاة قد ملأ العشق قلبها وتسلل في أوصال روحها و كيانها، ثم يأتي ويقول بكل تفاهة: انت صديقتي.

تخيل هذا يا عزام_

لطالما رددتُ كلامي بأفعالي بحركاتي بغيرتي التي كانت تحرقني وانا اراه يمازح هذه ويمشي مع هذه بحكم انني صديقة.

لم أكن أريد أن أتأخر وفي حبي أنا أتكاسل، أتدري يا عزام كنت أخاف أن أكتم كثيرا وأتقبل وجودي كصديقة لا أكثر.


فقررت في يوم من الأيام أن أكتب له رسالة ابوح فيها عن ما بداخلي حرفاً بدل التلميحات هذه المرة امسكت قلمي وكتبت: إليك يا أيمن

تريدني صديقة وهذا مستحيل فالصديقات عابرات وسأكون منهن وأنت ستبحث بعدها عن زوجة أجمل مني وتنساني وعلي تتفاخر وتتكبر.

وقد كنت أنا من أجلك أسهر وأفكر، أقضي معظم أوقاتي في صورتك أتدبر.

ثم ماذا بعد هذا! الجواب لا شيء

ولكنني دائما ما يخطر ببالي ذلك الهاجس يؤرق ليلي وفكري،
ماذا لو شاء الله لصداقتنا أن تنتهي وتتزوج فتاة أخرى؟

أنا حقا أحبك ولربما هذه أول مرة انطقها ولكن يبدو ان لا مكان لها لتهبط عليه سوى هامش مسامعك فقط.

و لكني لن أنكر أمر الله حينها وسآخذ العبرة وأقول لقلبي صبرا على المصاب رغم أني اخشى أن تبتعد عني شبرا من زمن أو ساعة من المسافات.

ولكن ماذا لو لم تكن من نصيبي، لا زوجي ولا خطيبي ماذا سوف تفعل حينها هل سوف تبتعد فتقبل تعذيبي بكل بساطة وأريحية! أم أنك ستغير نظرتك لي من اليوم فصاعداً!

ولكن يجب ان تعلم انك لن تجد احداً في الأرض كلها يحبك بكل مافيك من خصال حميدة وعيوب كما أحببتك أنا وحينها لن يكون العيب عيبي، ولا الذنب ذنبي لأنني جاهدت أن أرافقك طول الدرب، ولكنك قبل القضاء كنت عائقاً بينا.

ولا اظنك إلا قائلاً امام الناس "حاولتُ ولكن القدر أنهى هذا الحب، أنهى التواصل ولوح لنا بالفراق مهدداً.

أتمنى يا صديقاً في حياتي ويا حبيباً في قلبي وزوجا في أمنياتي.

أتمنى أن تكون مرتاحاً، وأن تجعلك تلك التي ستتزوجك سعيدا وتملأ حياتك فرحا وأن تكون اجمل مني واكثر طواعيةً وأقل نكداً كما تسمعني دائماً.

اتمنى ان تجد ما كنت تقول لي انها امنيتك الأهم.
أتمنى أن لا تبتئس لأنك تركت في قلبي جرحا، لأن هذا الجرح بسعادتك يلتئم، رغم الوجع رغم الألم، سعادتك سعادتي، وراحتك هي غايتي_ يا صديقي.


غداً في اول نظرة بيننا سأعلم ردك على ما كتبت فلا تحاول التمثيل او مجاراتي لتسكتني كن صادقاً فقط.

ربا.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي