اافصل التاسع والعشرون

_إذا يا ربا ما الذي حدث بعدها؟

أجابت ربا بابتسامة ساخرة تخفي خلفها الف خيبة أمل: ما رأيك أنت؟

فقلت لها: وما ادراني انا.

ربا: اسمع إذاً.

في اليوم التالي بعد ان وصلته الرسالة عن طريق إحدى صديقاتي وقرأها وعلم ما بداخلها.

تلاقينا في الفصل وكنت قد تأخرت يومها بضعة دقائق فلم تسنح لي الفرصة بمعرفة ماذا سيكون رده على رسالتي وبقيت ساعة تقريباً اتحرق وأفكر فيما إذا كان تحرك شعوره او هو كما هو ولا جديد عليه.

كان هو يتقدمني بمقعد واحد وكنت طوال الوقت احدق به وبشعره المتناثر كنت احب كل تفاصيله التي لا تهمه ولا يشعر بها حتى.

انتهت المحاضرة وخرجنا لنأخذ قسطاً من الراحة فخرج امامي وذهب وجلس في مكاننا المعتاد يتلفت للطلبة ويشاكسهم، لكل الطلبة ما عدا هذه الطالبة التي تهواه.

علمت حينها ان الرسالة لم تفد وأنه حقاً لا يحبني ولا ينظر لي نظرة مستقبلية بتاتاً.

قلت في نفسي "لم لا أقدم اخر محاولة لدي فإما ان يرق قلبه لي وإما أن اشفق انا على قلبي وابعده عن هذه المهزلة العاطفية"

وبالفعل استجمعت قواي وتوجهت إليه بخطاً هادئة اخفي بها حر قلبي وروحي وما كان يجري لي من نار الغيرة وخوف الفقد.

وقفت قبالته وألقيت التحية عليه كالمعتاد وتوجهت لجانبه على المقعد وجلست ضامةً ركبتيّ على بعضهما ممسكة في دفارتي ووضعتهم على قدماي.

صامتة لا اصدر صوتاً وأما ايمن فحافظ على سكوته إلا انه مد يده إلى جيبه واخرج تلك الرسالة ومد يده إلي يمررها ببرودة أعصاب وهدوء.

تناولت الرسالة من يده وسألته عن ما بداخلها فلم يجب فتحتها قلبتها فلم اجد حرفاً واحداً مكتوباً عليها مع الاسف وعلمت انه الجواب بالرفض، حافظت على ما تبقى من كرامتي المسحوقة بالاقدام، ونهضت من مكاني ومضيت إلى القاعة وقلبي يرتجف ويعتصر من شدة الألم كنت اريد الانفجار في البكاء لكنني لم استطع.

منعت نفسي من البكاء فلم استطع ان اذل نفسي امامه مرة اخرى وتمالكت نفسي حتى وصلت إلى القاعة ورميت بنفسي على المقعد واضعة رأسي على خشبة وانهمرت دموعي تتدفق كالشلال.

كنت ابكي بشكل مثير للشفقة لدرجة أن لو أحدا ما رآني لحتضنني من دون أن يعلم شيئاً.

استمر بكائي طيلة الفترة التي كان الطلبة فيها بالخارج و بمجرد سماعي لصوت خطاهم في الممر حاولت تهدأة نفسي وتجفيف دموعي قدر الامكان واخفيت وجهي بين صفحات الكتاب كي لا يراني ايمن.

حضر الجميع وبقي هو لم يأتي بدأت المحاضرة وانتهى الدرس دون أن يدخل لربما كانت هدية من القدر لي كي لا يراني على هذه الحال المزرية.

بدأ الطلاب يخرجون شيئاً فشيئاً حتى فرغت القاعة من كل احد سواي حملت دفاتري وكتبي وخرجت من القاعة عائدةً للمنزل صادفته واقفاً مع اصدقائه و "صديقاته" يضحك ويمزح ولا يظهر عليه أي اثر يدل على حزن أو حتى مواساتي على الأقل.

اذكر ان اهلي قد لاحظوا عليّ انني لست بخير وقد بدا على عيني آثار البكاء حتى اصبحتا حمراوين ووجهي قد تغير والحزن مرسوم عليه.

وبدأت يومها الاسئلة عن سبب هذا البكاء وبدأت اتظاهر انني تشاجرت مع الفتيات فقط واخفيت قصة أيمن عن الجميع.

حاولت نسيانه يوماً بعد يوم كان الامر صعباً في البداية لكنني نجحت واصبحت اراه في ساحة الجامعة وامضي في سبيلي وأنا لا يتحرك لي شعرة واحدة لقد كان درساً قاسياً.

لكنه كان مجرد تأديب أمام قصتي مع همام ولعلني قد اصبحت لا اثق برجل مطلقاً بسببهم ويبدو أن لدي الحق الكامل في هذا، وهاهي قصتي مع أيمن قد عرفتها يا عزام.


فقلت لها مواسيا إياها: شكراً ولكن يبدو انك لا حظ لك بالرجال على ما يبدو يا ربا.

ضحكت ربا ببراءة وقالت: و من يحتاج الرجال لا فائدة منهم سوى بكسب القلوب ثم كسرها في اخر المطاف.

مدت يده إلي وقالت: خذ هذه الرقعة الجديدة ارتدها علها تحمي لك عينك من الاذى.

اخذت الرقعة من يدها ووقفت امام المرأة فتأملت شكلي مستغرباً هل هذا أنا أم لا! شعري طويل ولحيتي و شارباي عريضان
مدت يدي على لحيتي اتحسسها محاولاً التذكر متى كانت آخر مرة حلقتها دون ان اجد اجابة لدي.

نظرت لعيني وقد ابيض البؤبؤ وثبت مكانه وغار في الداخل، شعرت بالغرابة من مظهري كيف تغير حتى ملابسي رثة ومتسخة ونسيت ان ابدلها.


نادت علي ربا من الخلف: ما بك يا عزام هل يحتاج ارتدائها كل هذا الوقت؟

فأجبتها: لا ولكن استهجنت شكلي بعض الشيء لا أكثر.

ربا: هيا تعال لقد بقي امامنا المطبخ تعال معي.

أمسكت بيدها على غير قصد وقلت:تعالي لن نذهب قبل ان نشرب كأساً من الشاي لماذا أنت متحمسة هكذا.

توقفت ربا وتفاجئت ونظرت إلى يدي وهي تمسك بمعصمها ثم نظرت إلي ولم تتفوه بشيء، استدركت الأمر فأفلتها بعد أن احمر وجهي وشعرت بالخجل الشديد من فعلتي.

حاولت ربا تخطي الموقف وتظاهرت بأن شيئاً لم يحصل وقالت: لدي بعض الاسئلة اريد ان اغتنم الفرصة ونحن ننظف.

قلت لها: اجلسي اجلسي لقد مللت التنظيف، لست معتادا على كل هذا، لنشرب كأساً من الشاي أولا ثم نكمل ما كنا قد بدأناه.

ربا: حسنا و لكن لدي سؤال واريد جوابه الآن.

فقلت لها: و ما هو؟

ربا: اخبرني اين الطفلة ولماذا لا تسكن مع أحد؟

ضحكت وقهقهت واشرت بأصبعي السبابة والوسطى وقلت: هذان اثنان ولكن لا بأس سوف أجيبك على كل حال فأنا كريم جدا.

اما امي وتسنيم فقد حدث ما يلي: اذكر انني في اليوم السابع للمهلة قبل ان التحق بالمقاومة كنت جالساً مع امي في المنزل وبعد عدة أيام كانت كلها تمضي على نقاشات طويلة مملة عن أمر خروجي وبقائي وخروج والدتي من المدينة وبقائها.

كانت مصرةً على أن تبقى وأبقى أنا بجانبها بينما كان رأي أن تسافر للخارج إلى عند وفاء وعندما لم اجد حلاً معها اضطررت للكذب ومسايستها قليلاً وقلت انني وافقت على ما تريد.

وفي اليوم التالي قمت بحجز تذكرة طائرة لأمي وتسنيم
لكي تسافرا في اليوم التالي على أنني سأسافر معهم ولكن كنت انوي خداعها حفاظاً على سلامتها.

عدت من المطار وتوجهت لشعبة التجنيد واستلمت سلاحي وعتادي وبينما أنا في الطريق إذ حصل قصف عنيف استهدف كامل المدينة بشكل عشوائي استمر قرابة الساعة والصواريخ تنهال على المدينة كالمطر.

اضطررت للإختباء في احد الاقبية ريثما يهدأ القصف قليلاً إلا ان قلبي كان يخفق وكأن شيئاً ما سيئاً سوف يحدث انتظرت بفارغ الصبر وبمجرد ان هدأ القصف اكملت طريقي نحو المنزل عائداً فكانت الفاجعة.

ربا: حينها توفت والدتك؟

_أجل انتظرت حتى هدأ القصف قليلا ثم قدت الدراجة منطلقا بأقصى سرعة وعدت إلى المنزل، وحينما وصلت كان الغبار يعج في المكان ولا يمكن رؤية أي شيء، كان ذلك الغبار إثر قصف طال المنطقة، وليس أي منطقة، لقد تدمر منزلنا بعد سقطت به عدة صواريخ مدمرة، اقتربت من المكان فوجدت المنزل قد انهار وقد صار حطاماً.

ألقيت الدراجة النارية على الارض وركضت كالمجنون إلى المنزل لكن الاوان كان قد فات مع الأسف لم أستوعب ما الذي يجري وبدأت بالصراخ والمنادة على والدتي وأبحث في كل مكان ولكن كنت قد تأخرت كثيرا.

كان الجيران وأهالي الحي قد أسعفوا تسنيم إلى المستشفى بعد أن وجدوا بها رمقاً من حياة حيث أصيبت وهي تلعب في الشارع والبقية يحاولون انتشال والدتي من بين الركام والأنقاض واستمرت العملية ما يقارب الثلاث ساعات.

قضيتها وأنا اشعر بكل لحظة بألف صرخة في داخلي واعصابي متشنجة حتى بدأت أهذي واسمع صوت أمي يناديني من تحت الانقاض، تهشمت أصابعي وأنا أحاول رفع كل ما رأته عيني من الأنقاض وأنا أبحث عنها

كان المنزل مؤلفاً من طابقين ومدمرٌ بشكل كامل وتحول لكومة حجارة وأسمنت أخفى تحت كل ذلك الركام أغلى شخص في هذه الدنيا على قلبي.

استطعنا اخراج والدتي بشق الانفس بعد عناء طويل وتعب شديد وساعات ثقيلة جعلت كل أعصابي تتلف وارهقت عقلي حتى لم اعد استطيع ان استوعب ما الذي يجري من حولي.

رأيت يد والدتي خارجة من بين أحد أكوام الحجارة فهرعت نحوها كالمجنون احفر بيدي وأصرخ وأنادي بأعلى صوتي علها تسمعني، علها تكون لا تزال على قيد الحياة.

تشققت يداي و ملأت بالجراح والدم يثعب منها دون أن أدرك
أسرع الرجال يساعدوني وتم اخراج والدتي ولكن بعد فوات الاوان.

كانت روحها قد فاضت مختنقة تحت امتار من الركام متأثرة بالحجارة التي انهارت فوقها.

منظرها ذاك وهي مغمضة عينيها فاتحة فمها متألمة و الغبار بملأها مشهدا قاسياً لا زلت أحمله في قلبي حتى هذه اللحظة ولن أنساه حتى أوسد في التراب، لم استطع ان اتحمل اكثر انهارت قواي وارتميت فوقها ابكي واصرخ وانوح كالاطفال.

إنها امي التي ربتني واعتنت بي حتى اصبحت شاباً ذهبت هكذا بكل بساطة وتركتني وحيداً في هذه الحياة.

لم اكن اصدق انها ماتت وبدأت اصرخ على طاقم الإسعاف ليأتوا ويأخذونها بسرعة إلى المستشفى.

تم إسعافها على الرغم من أن الجميع كان يعلم انها توفت فمن الذي سيبقى حياً لثلاث ساعات تحت الركام.

مرت تلك الساعات عليّ وهي اشد من لحظات الموت، كم تمنيت لو كنت أنا في المنزل بدلاً عنها، لكنت فديتها بروحي وجسدي ولكنها رحلت وتم الامر.

اصطحبني أحدهم إلى المستشفى الذي تم نقل والدتي عليها وعندما وصلنا وكانت قد فارقت الحياة ووضعت على سريرها الابيض بانتظار الكفن.

وقفت خارج الغرفة أنظر من زجاج الباب نحو الداخل، كان ذلك مشهداً لا يمكن نسيانه بأي شكل من الأشكال، انهارت قواي وخارت وبالكاد استطعت أن أمشي متخطيا الباب ووقفت بجانبها انظر لها في غرفة فارغة، كل شيء فيها ابيض ورائحة الموت تفوح في المكان لا احد غيرنا حينها فقط صدقت انها توفيت.

وأن اليوم كان هو اخر يوم اراها فيه وانني بعد قليل سأحملها على كتفي بعد أن كانت هي من تحملني على ظهرها وفي حضنها.

حاولت تأملها واطلت النظر في وجهها المنير الوضاء لعلي أحفظ في ذاكرتي كل تقاسيم وجهها امسكت يدها برفق وضممتها بكلتا يدي ومسحت بها على وجهي و قبلتها وانا اتخيلها تبتسم لي وتشدي على يدي مودعتني.

أتاني احدهم ليخبرني ان الطفلة تسنيم في العناية المركزة أيضا فزاد همي ضعفين وتبدل الحال من سيء إلى اسوء.

حملناها بعد ذلك إلى المقابر وضعتها بجانب الحفرة و نزلت اجمع الحصى وارتب مكان سكنها الجديد حرصت على أن يكون مريحاً كما كانت تفعل هي في فراشي.

وانزلتها ووجهتها ناحية القبلة ودفناها بجوار اخي و ابي الذين سبقونا في المسير.

ذهبت إلى المقبرة برفقة واحد تركتها هناك برفقة اثنين غيرها معها ودعتهم وسقيت القبور بدمعي قبل ان اسقيها الماء الزلال.

عدت لوحدي من هناك احمل بيدي قلبي الميت وانتظر ساعة خروج روحي لكي ادفن بجانبهم فقد بقيت انا من العائلة فقط.

وبقي مستطيل صغير بجانبهم يناسبني كقبر صغير يحتويني ويضمني بعد أن أصبحت وحيداً في هذه البلاد المقفرة القاحلة الخالية من الأهل والاحباب.

في خضم تلك المأساة استقبلت اتصالاً من المستشفى يطلب حضوري بسرعة.

لم اجد خياراً سوى الذهاب إلى المستشفى توجهت إلى هناك من فوري وطلب مني الذهاب إلى غرفة الانعاش وقفت خارج الغرفة فخرج الطبيب إليّ يعزيني وقال: رحم الله والدتك يا سيد عزام وتقبلها في عليين.

يوجد اخبار جديدة بالنسبة للطفلة تسنيم بعد أن استقر حالها اكتشفنا اصابتها بشظية صغيرة في النخاع الشوكي وادت للأسف برضوض في الأعصاب وشلل في القدمين.


يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي