الفصل الثلاثون

وقع الخبر على قلبي كالصاعقة طفلة في عمر البراعم شلت و امي توفت ! يا إلهي كل هذا في يوم واحد!

لم ادري ماذا افعل ولكنني سألت الطبيب عن إمكانية شفائها فأجابني مترددا: نرجو من الله ان يعافيها و لكن.

قلت له وأنا خائف من رده: ولكن ماذا يا حضرة الطبيب! اخبرني ارجوك!

الطبيب: أنت ترى حال الامكانيات هنا وهذا سيجعل شفائها امراً صعباً قليلاً لذلك انصحك بإخراجها إلى خارج البلاد وارجو ان تجد هناك فرصة أفضل.

قلت له: لقد كنت أنوي تسفيرها بالفعل غدا.

الطبيب: عظيم إذا لا تنتظر غدا يمكنك اخراجها لتلقي العلاج ان شاء الله.

_حاضر ايها الطبيب غدا سننظر في الأمر وحاول إخراجها في أقرب وقت ممكن.


خرجت يومها من المستشفى هائما على وجهي ولم اجد لي مكاناً اذهب إليه سوى بقعة من العشب في أحد المنتزهات القريبة فاستلقيت على العشب أراقب السماء واعد النجوم.

كان القمر ساطعا والجو صيفياً حاراً والعشب دافئ يتسلل منه نسمات تلفح وجهي فأحسست كأنني قد وضعت رأسي على قدم امي وهي تمسح بيدها على شعري وتكلمني عن كم كنت اتسبب بالمتاعب عندما كنت صغيرا مشاكساً.

تذكرت الهاتف فأخرجته وبحثت عن محادثة امي بدأت اتصفح صورها والمقاطع الصوتية لها عندما كانت تراسلني وانا في الجامعة.

يا إلهي لم يمضي اليوم وقد بدأت اشتاق لها واحن كيف سيمضي باقي عمري الكئيب هذا بدون ام ولا اب ولا اخ.

سهرت الليلة بأكملها أتأمل السماء وأحدق في صور امي حتى طلع الضوء وبدأت الشمس تبزغ وقرصها يعلو في السماء نهضت من مكاني وأجريت اتصالا مع وفاء أخبرها بما حدث لابنتها ووفاة امي.

و بعد ساعات قليلة قمنا بإرسال تسنيم إلى والدتها في ذلك اليوم ولحسن الحظ وصلت بأمان وسلامة إلى والدتها، وهي الآن تتلقى العلاج خارج البلاد،هذه هي قصة وفاة امي وغياب تسنيم عن حياتي.


ربا: يا للأسف يا عزام كنت اتوقع ان ماضيك حزين لكن ليس لهذه الدرجة.

_لا تعلمين كم من المآسي مر علي في الماضي ولكن يكفي هذا القدر هيا بنا للنظف المطبخ نحن لم ننم البارحة ويجب أن نأخذ قسطا من الراحة.

قاطع كلامنا صوت باب المنزل يطرق على غير العادة

ربا بقلق وارتباك: من هذا يا عزام!

_و ما ادراني ناوليني المسدس وادخلي إلى غرفتك بسرعة.

تناولت سلاحي من يدها وأسرعت نحو باب المنزل وانتظرت للحظات لأستمع لصوت القادم لكنني اسمع صوتاً ابداً لا صوت خلف الباب لا نأمة ولا همس.

سكتُ لأرى إن كان قد رحل فهدأ الجو وقلت في نفسي " لربما كان ذلك وهماً أو خيالا"

لكن عاد ذلك الشخص يطرق الباب مرة أخرى، فتأهبت وامسكت سلاحي مستعدا وفتحت الباب بحذر شديد وانا واقف خلفه فدخل الرجل مسرعاً وبمجرد ان رأيت قدمه قد داست العتبة وبدأ يخطو خطوته الثانية.

مددت يدي وامسكت رأسه ومغلقاً فمه وممسكاً به من الخلف و شددته إلى الداخل ووضعت المسدس برأسه مستعداً للإطلاق.

ولكن كانت المفاجئة لم يكن شخصا غريبا لقد كان هو مالك صديقي الذي يعمل ممرضا قد أتى لزيارتي والاطمئنان على حالي، تفاجئت فارتبكت ثم هدأت.


لم ادري ماذا افعل. فهمست مستغرباً مما رأيت أمامي وقلت: مالك! ما الذي اتى بك في هذا الوقت لماذا لم تتصل بي على الأقل!

افلته ودفعته عني وكان قد أصابه من الخوف مثل ما أصابني فالتفت إلى الخلف ورآني فما كان منه إلا أن لكمني على كتفي ممازحاً لي وقال: جئناك أطباء فاستقبلتنا كقاتل.


مالك: اردنا ان نداويك فاردت قتلنا يا لك من ناكر للمعروف ايها المخادع.

فضحكت من كلامه وعانقته ومن ثم ادخلته معي إلى الداخل
ودفعته امامي وانا اقول: ادخل ادخل كان عليك ان تخبرني بقدومك كن سعيداً بأنني لم اطلق قبل ان افتح لك حتى فليس من عادتي استقبال الزوار.

"في هذه المدينة لا يوجد شيء اسمه ضيف او زائر حتى بل اعلم انه إذا طرق الباب من غير ميعاد فهو على الأغلب شبح الموت يطرق بابك ليلقي عليك التحية بطريقته الخاصة فقط"



وصلنا إلى الغرفة وانا اقول في نفسي "ارجو ان تمضي هذه الزيارة على خير وان لا ينتبه إلى ما احدثنا في المنزل في الايام الماضية.

اشرت له ليدخل الغرفة وجلسنا نتبادل الكلام ونطمئن على بعضنا فقلت له: لماذا لم تخبرني انك قادم يا مالك! كنت استقبلتك بشكل مناسب يا رجل.

مالك: أنسيت انني اخبرتك انني قادم بعد يوم واحد لتغيير الضمادات ولكي اتفقد جرحك!

ام انك اصبحت انت حاكم المقاطعة وبتنا نحتاج إلى موعد لكي نتمكن من زيارتك يا صديقي!؟

ضحكت من كلامه وقلت له: لا ادري لعلي لم انتبه او لربما نسيت انك اخبرتني بهذا؟

مالك: كعادتك تنسى كل شيء كأنك عجوز خرف شارف على المئة من عمره وهو يتأرجح على حافة القبر، والآن أخبرني كيف تشعر بالنسبة للجراح؟

_تقريبا لا أشعر بشيء أظنها شفيت.

مالك: في الطب لا يوجد اظنها اما انها شفيت او ان الدود يلتهمك والان دعنا نتفقد جراحك هيا يا صديقي.

تمددت على السرير واخرج مالك بعض معداته المتواضعة والبدائية وبدأ يتفحص القطب واخبرني ان كل شيء على ما يرام ويجب فك القطب ويحتاج لمياه ساخنة.

ذهب ليحضر الماء من المطبخ فرأى ما جعل شكوكه تحوم حولي إلا أنه لم يتكلم بشيء.

"رأى كوبين من الشاي موضوعين على الطاولة وكرّة من الخيوط وابرة"

كان ظاهراً على هذا المنظر أنه ليس من صنعي ولا من ذوقي ولكنه أسرها في نفسه ولم يوحي لي بشيء ابداً وتظاهر بعدم الاكتراث.

عاد مالك وهو يحمل اناء الماء بيده ويقول ضاحكاً: لم اعهدك تحب النظافة إلى هذا الحد يا عزام متى استطعت تنظيف هذا كله لوحدك؟

اصطنعت ابتسامة زوراً وقلت له ط: قلت في نفسي لربما اموت ولا يوجد من يدفنني فل أمت في بيت نظيف على الأقل لأستمتع بوفاتي.

مالك: واستطعت تنظيف هذا كله وحدك شيء غريب حقاً.

_اجل لقد مضى عليّ عدة ايام هنا وانا لا عمل لي سوى الانتظار فقلت لنفسي لما لا انظف المنزل قليلاً فلربما يأتي نصر ويسكن معي هنا.

شعر مالك انني مرتبك واحاول إخفاء أمر ما لكنه لم يقل شيئاً وتظاهر بأنه يصدق كلامي وهمهم لي كأنه يقول "اجل اجل طبعا انت صادق "

مالك: اممم لا بأس إذاً النظافة جميلة في كل حال والآن هيا لنرى ماذا حل بك ايها المحارب القديم.

جلس مالك بجانبي يفك القطب ويعاين الجرح فسكت هنيهة ثم قال: يا عزام قدمك لم تغلق إلى الان جرحها وهذا يتطلب حلا عاجلاً ونهائياً

تكلم يا مالك ماذا يجب أن نفعل برأيك؟

مالك؛ الكي_ آخر الطب الكي

فقلت له مسلما للقدر: حسنا افعل ما تراه مناسباً يا مالك لا مشكلة لدي، ستجد ما تريد في المطبخ على الأغلب.

مالك: سأذهب لأحمي سكيناً لكي نبدأ يمكنك الجلوس بعض الوقت.

_لا لا بأس سأنتظر بعض الشيء.

مالك: أخبرني هل من اخبار عن مهمتك ؟

_لقد اقترب ان شاء الله وبقي القليل نعرفه عن همام حاكم المقاطعة وبعدها سترى النتائج بأم عينيك.

مالك: اتعني انك قد عثرت على المكان الذي يتواجد فيه؟

_قلت لك لا تقلق ستسمع اخباراً مفرحة في الايام القادمة ان شاء الله.

مالك: عن اذنك سأحضر السكين يبدو أنها قد جهزت.

غاب مالك بضعة دقائق فكأنني لمحت ظل ربا في الرواق يتحرك حاولت النظر جيداً لكنني لم ارى ذلك الظل مجدداً.

جلس مالك بجانبي وبدأ يمسح الجرح وويسحب بعض الخيوط المتهالكة من الجرح ومن ثم بدأ بالعمل الجدي وأراد أن يكوي الجرح فتجهزت و استعددت وانا ممسك بخرقة اعض عليها بين فكيّ من الألم كي لا اصرخ.

لمحت طرف ردائها خلف الباب تسترق النظر! كانت ربا تطمئن على ما يجري مطلة بعين واحدة وقابضة بيدها على الجدار واليد الأخرى قد تكورت تسد بها فمها خشية ان تصدر صوتا فينتبه مالك لها.

كلما كان يسحب خيطا احس بأنه ينسل نصل سيف من جسدي فأشد باضراسي على الخرقة بصمت إلى أن وصل إلى الكيّ.

قام من مكانه واحضر السكينة التي كان قد أشعل النار لاجلها ووضعها على الجمر لتصبح اسخن.

كنت أعلم أنه سيضعها في اللحظة القادمة وقلبي يطرق بكل قوة ولكنني مع ذلك احاول ان اتماسك لأن ربا تراني اشرت لها بيدي لتذهب لكنها كانت شاردة الذهن تراقب مالك ماذا يفعل.


جلس على قدمي ليثبتني جيدا وبدأت تقترب السكين الملتهبة من جلدي فأحسست بلهيبها يلفحني ويصل فحيحها إلى نقي عظامي اغمضت عيناي وأمسكت بيدي طرف السرير وأنا ممدد على بطني.

وضربت على كتف مالك بيدي كإشارة ليفعل وفي لحظة بغمضة عين فقط احسست ان النار اشتعلت في كل سُلامة من جسمي والتصقت تلك السكين على الجرح فلم أسمع سوى صوت صراخ مالك يقول: "اصبر" بالاضافة إلى صوت السكين وكأنها ألقيت على ماء بارد "شششش"

كدت اقتلع السرير من تحتي واضراسي اطبقت حتى كادت تتكسر على بعضها، احمر وجهي ونفرت عروقي وصرخت بأعلى صوتي ولكن في داخلي وصرخ معي قلب ربا الواقفة خلف الباب تسترق النظر.

لما رأتني على تلك الحال خافت واغمضت عينيها بيديها إلا ان تأوهي قد جعلها تفزع أكثر وتنظر.

ازاح مالك السكين عن قدمي وابتعد عني والعرق يتصبب من جبيني وتركني منهكاً وقد خارت قواي ولم اعد استطيع حتى رفع رأسي.

رأيته يمشي نحو المطبخ وبيده تلك السكين اللعينة المدببة الرأس ولونها الأحمر القاني من شدة حرارتها قد اختلط بلون دمي.

القى مالك السكين بقدر من الماء لتبرد قليلا وعاد نحوي اعطاني كأساً من الماء واعاد لف الضماد وقال: سابقى معك الليلة ربما يحدث معك شيء وتكون بحاجة للمساعدة.

فرفضت ذلك على الفور متحججاً انني بخير وأريد أن أنام بضع ساعات فقط.

مالك: كما تريد يا عزان ولكن لو احتجت لأي شيء فتواصل معي وسأحضر على الفور اتفقنا!

_لا تقلق ليس لي غيرك سأتصل بك عندما احتاجك.

وقف مريداً الرحيل والتفت أليّ قبل أن يخرج وقال : سأعود بعد يومين لكي ارى أن كان قد التئم جرحك أم لا.

هززت برأسي مجيباً بالقبول وقلت بصوت منهك: اغلق الباب خلفك يامالك ارجوك.

هز رأسه موافقاً و خرج.

وما إن سمعت ربا صوت الباب يغلق حتى سمعت خطواتها راكضة اقبلت نحوي فزعةً، حاملة منديلاً بيدها وجثت بالقرب مني ودموعها منهمرة على خديها وهي تنادي: عزام! عزام، ما الذي فعله بك ذلك الرجل يا ألهي! عزام_ رد عليّ!

رأيتها وقد كانت منفعلةً جداً وأقرب إلى اللاوعي فتظاهرت بالإعياء الزائد وبالغت في ردة فعلي ونحيت وجهي إلى الناحية الاخرى مشيحاً بناظري عنها كأنني لا أريد رؤيتها.

فقامت ربا و تحولت إلى الطرف الاخر تتبعني و تهزني من كتفيّ وهي تنادي "عزام عزام" مابك رد عليّ!

فابتلعت ريقي على مضض وقلت بصوت حزين
"فقدت قدمي يا ربا"

سمعت هذا ربا فشهقت شهقة غريبة كادت يغمى عليها على اثرها
وبدأت تصرخ "يا ويلي كل هذا بسببي"
"اسفة يا عزام اسفة حقاَ"


يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي