الفصل الثالث والثلاثون

نهض همام وتوجه إلى سريره لكي يحظى ببعض الساعات من النوم بعد أن جافاه منذ لحظة هروب ربا من المنزل وجعل أحلامه كلها تصبح في خطر بسبب فعلتها تلك.


مشى متمايلا يرتدي قميصه وقد حل ربطة عنقه وأمسك بمعطف البذلة الرسمية يجره خلفه ولحقت به ملك التي أعدت نفسها أيما إعداد لكي تخفف من حدة وغضب وعدوانية همام لهذه الليلة زعما منها أنه بحاجة للمساعدة والرعاية.


ارتمى على فراشه منتعلا حذائه ورمى المعطف على الأرض وجعل يحدق بالسقف يحاول إيجاد حل لتلك المصيبة التي حلت به


في ذات المدينة وعلى بعد بضعة شوارع  يكمن بيت فخم جداً يوحي للناظر أن مالك المنزل ربما رئيس جمهورية أو ما شابه.


بداخل البيت زوج وزوجة بدون أولادهما الذين أصبحوا بين ميت وهارب ومفقود، يخيم الحزن والبؤس على جو المنزل بعد أن ماتت الحياة فيه ولم يعد هناك ما يمكن أن يجعل أهله يعيشون كما يعيش الناس أبداً.




فتحت باب غرفتها ودخلت ثم أغلقت الباب واتكأت على لبضعة لحظات رافعة رأسها نحو السماء وكأن على كاهليها جبل من الهم والتعب.


تنهدت بحزن ثم استجمعت شتات ما تبقى لديها من روحها المبعثرة وأكملت مسيرها نحو سريرها.


تناولت من على الطاولة تلك الصورة التي أصبحت كالدواء بالنسبة لها، لا يمر صباح ولا مساء بدون أن تحملها وتتأملها وتتمعن في النظر إليها.


جلست على السرير ممسكةً تلك الصورة الفوتغرافية تتأمل ابنتيها ريم وربا وهما في سن العاشرة  تقريبا.


صورة جمعتهما عندما كانتا لا تزالان طفلتين وهما تلعبان في حديقة المنزل الخلفية بمرشات المياه قام بتصوريهما اخوهما الكبير المسمى سعد.


تلك الصور الصغيرة أصبحت إحدى النعم الحديثة على الناس أمثال هذه المرأة المكلومة، فمن كان يظن ان مخترع الكاميرا قد اعطانا طريقة لتجفيف اللحظة، تماماً كالورد في كتب العشاق.


التين المجفف في برطمانات الجدة والشاي في سلال العطارة، هذه المستطيلات الورقية هي شكل قلوبنا وهي مجففة.


هي سخرية القدر منا عندما أصبحت اجمل لحظات حياتنا لحظة مجففة في إطار.


قاطع شرودها وتأملها صوت طرق زوجها الباب ثم دخل ليرى زوجته جالسةً على السرير ممسكة بتلك الصورة كالعادة، هي تحدق بها و تتأملها وقد فاضت عيناها بالدموع المترقرقة تنتظر تنهيدة واحدة لتنسكب على خديها.


وقف قليلا عند الباب يهز رأسه يمنة ويسرة معبرا عن يأسه من محاولاته لجعل زوجته تتخطى شيئاً من هذا الحزن كله ولو بالتدريج.


 مسح بكفيه على وجهه وأخذ نفساً عميقاً تقدم نحوها وامسك الصورة من يدها قائلاً: أما اكتفيتي يا شيماء مما تفعلينه في نفسك!



شيماء إمرأة في الأربعينيات من عمرها لا يبدو عليها التقدم في السن أبداً بل كل من كان يراها قبل هذه الفترة كان يظنها أنها ابنة ثلاثين سنة.


يظهر عليها التنعم والرفاهية في العيش فهي زوجة أحد أغنى الرجال في البلاد إن لم يكن على مستوى المنطقة بأكملها.


ولكن كان هذا الكلام قديم ولى زمنه فقد تعبت في القترة السابقة أيما تعب وتحول كل شيء فيها إلى الأسوء فانهارت صحتها وشحب جلدها وظهرت الترهلات والتجاعيد والهالات السوداء أسفل عينيها لكثرة البكاء على ما أصابها.


كانت قبل ذلك لا ترى في ذات الثوب مرتين أبداً والأن لم تعد ترى من الأساس، اعتزلت الناس كلهم واستوطنت غرفة نومها بثوبها القطني الطويل ومعطفها المصنوع من الصوف الخفيف بعض الشيء وصار أكبر همها أن تمضي بها الأيام بدون مصائب جديدة.


لطالما كانت تهتم بمظهرها حتى في داخل المنزل ولا تكاد ترى إلا ذاهبة أو عائدة إلى مراكز العناية والتجميل بشعرها الطويل الناعم المصبوغ إلى الأحمر الذي صار مؤخراً يغزوه الشيب ويتساقط كالمطر.



أعاد الزوج كلامه مشفقاً على زوجته قائلا: الا زلتي تعذبين روحك وتجبرينها على العيش في الماضي وعدم تقبل الواقع! إلى متى ستظلين على هذه الحال اخبريني يا شيماء!



نظرت إلى زوجها بوجه حزين منكسر بائس وكأن هموم الدنيا كلها قد تجمعت على عاتقيها وقالت: أتلومني على حزني على بنت هاربة المنزل!


ام على ابني البكر الذي قتل في ريعان شبابه ولم تسمح لي الفرصة حتى بتوديعه!


ام تلومني على ابنتي الصغرة التي غدت كسجينة فارّة والكل يكرهها ولا يريد عودتها يا عادل!



عادل رجل دخل في العقد الخامس من عمره بملامحه الجادة وشعره المخضب بالبياض المتناثر وجسمه الرياضي الذي يناسب رجلا في الثلاثينيات  من عمره طويل القامة أسمر البشرة عريض المنكبين عالي الجبين واسع الجبهة ذو لحية خفيفة تمثلت بكتلة أسفل فمه متصلة بشاربيه وشعر قصير لا يكاد يرى.



أجاب عادل: لا الومك على شيء إلا على شيء واحد فقط وهو أنك تحملينني مسؤولية ما يجري كله.


أجابت شيماء بنبرة لوم وعتاب: ماذا يحب أفعل إذا! أخبرني من سألوم غيرك؟ الست انت من قبل تزويج ربا بذلك الشاب الضائع السافل!


الم نقبل اقدامك على أن تعيد التفكير وتتمهل ولم تقبل!


هل نسيت عبارتك الشهيرة "همام تربى في ارقى البلاد الأوروبية ولن نجد من هو افضل منه"

لا تلمني يا عادل فلست ارى مخطئاً غيرك في هذا المنزل.


أجاب عادل وقد ضاق صدره من ذلك الحوار الذي يكاد لا يخلو يوم واحد منه: انا من فعل هذا أم ابنتك التي كادت ان تجعل سمعة عائلتنا في الحضيض بعد فعلتها الشنيعة مع ذلك الشاب الأرعن!


_انا من تركت ريم تذهب لتمثل دور البطل وتنقذ اختها من زوجها! أم أنت يا سيدة.


_كفي عن حزنك هذا فهو لن يفيد وفكري بطريقة تعيدين فيها ابنتيكي وتجمعي ما تبقى من هذه العائلة المشتتة قبل أن تندثر للأبد.


شيماء: لست انا من عليه فعل ذلك بل انت يا عادل انت من لازلت مصراً حتى اللحظة على ابقاء ربا زوجة لذلك الحقير النذل الذي تسميه صهرنا.



انا لا استطيع ان استوعب انك انت من تفعل هذا ببنتك! لم اتخيل في حياتي ان زوجي عادل سيكون أكبر عدو لبناتي انا.


عادل: و ماذا تريدين مني! هل تريدين ان اجعل همام يطلقها لترمى ابنتك في وجهك حتى آخر الدهر!


_اسمعي يا شيماء؛ لن تعود ربا إلا إلى بيت زوجها مهما حصل اما ريم تلك فعقابها سيكون عسيرا وحسابها كبير جدا عندما تعود.


شيماء: لم اكن اعلم ان قلبك بهذه القساوة يا عادل ما كنت اتخيل انك سترمي ابنتك للغريب بهذا الشكل.


عادل: ليس غريبا انه زوجها وابنتك هي الطائشة المتهورة فلتتحمل نتائج أفعالها انا لا علاقة لي بها.


شيماء: أنا لم أعد أفهم تصرفاتك أبداً إذا كنت تكرهها إلى هذا الحد لماذا وضعت لها منجما الذهب باسمها! انت لم تفعل هذا لريم ولم تقسم حتى بالعدل بل جعلت مصدر رزقنا الوحيد باسمها وبيد زوجها.


عادل: دعك من هذا الكلام الفارغ واخلدي إلى النوم فلن يفيدنا هذا الجدال في شيء.


شيماء: انت دائما هكذا يا عادل تتهرب ولا تجيب على اسئلتي.


عادل: إن كان هناك شيء يفيدنا فهو أن تتصلي ببناتك تحاولي معرفة مكانهن.


شيماء: لماذا ! لكي يذهب همام ويأخذ بناتي كالسجينات! لم لتعود ربا لذلك السجن الذي تسمونه منزلاً!


عادل: هل تريدين أن يبقين مشردات في الشوارع!

هل وجود فتاتين في أول الشباب بلا مأوى خير!

ام عودتهما إلى هنا هو الخير ! من يدري عند من يجلسن ومن وجدهن او ماذا فُعل بهن؟


سكتت شيماء ولم تعقب فاكمل عادل صراخه بعد أن اشتد غضبه وضاق صدره وهو يقول: لن تجيبي طبعا هذا هو المتوقع منك ومن بناتك تفكرون في اللحظة التي تعشن بها أما المستقبل فلا اهمية له بالنسبة لكن.


شيماء: انا ادري كيف قبلت أن أنفذ أمرك يوم اتصلت بهمام ليأتي ويسحب ابنتي من بيتي وامام ناظري، يا إلهي كم ان ربا الان تكرهني بعد الذي فعلته بها.


_لم يكن عليّ ان استمع لكلامك حينها كنا سنكون بخير وبناتنا معنا الأن ولا ينغص علينا عيشنا شيء.


_كل هذا يحدث بسبب طمعك بالمناصب هو الشيء الوحيد الذي قد غيرك وجعلك تقسو على بناتك بهذا الشكل الجنوني.


قال عادل مستنكرا ما سمعه: هل تظنين حقاً أن هذا ما يجعلني افعل هذا!


فأجابت شيماء بكل يقين: طبعا هذا هو السبب وإلا لماذا إذا إن لم يكن هذا هو السبب!


عادل: قلت لك اخلدي إلى النوم يكفي هذا القدر ليوم واحد يكفي، انا خارج لأستنشق بعض الهواء النقي.


 التف عادل نحو باب الغرفة وفتح الباب ثم خرج وصفع الباب خلفه بقوة وتوجه  إلى باحة المنزل الخلفية مغضباً، توجه ذات المكان الذي كانت قد التقطت به الصورة ثم جلس وراح يتأمل المكان ويتذكر أولاده الثلاثة كيف كانوا يملأون المنزل فرحا وسرورا.


عاد يقلب ناظريه في المكان ويتجول في تلك الحديقة الصغيرة يتذكر كيف كان يلاعب فتاتيه الصغيرتين هنا ويطعمهما هناك، لقد تحول كل شيء إلى ذكريات قاتمة اللون بعد أن التقى بالمدعو همام اللعين ذاك.


نظر إلى السماء ورفع كفيه متضرعا وقال بصوت حزين منكسر بعد تبدل حاله وذهب كل ذلك الحزم الذي كان يتظاهر به أمام زوجتهة وظهر مافي قلبه حقيقة وجرى على لسانه وهو يقول "إلهي اجمعني بولدي و ابنتيّ و احفظهم جميعا من كل سوء"


قاطع دعائه صوت هاتفه و هو يرن، أخرج الهاتف  ونظر إليه فكان همام هو فقال عادل في نفسه مستغربا من اتصاله "ما الذي يريده هذا في هذه الساعة المتأخرة من الليل"


فتح الخط ووضع الهاتف على أذنه وقال:

عادل: نعم!


همام: أنا همام 


أجاب عادل بانزعاج: اعلم ماذا تريد؟


همام: اردت ان اعلم إن كنت قد علمت أي شيء عن مكان ربا.


عادل: لا لم اعلم الم تجد الفتاتين حتى الآن.


همام: لا لكنني سأفعل قريبا.


عادل: كما اتفقنا زوجتك لك وابنتي لي.


أجاب همام بفوقية واستخفاف؛  يمكنك أخذهما كليهما إن أردت.


بدأ عادل يشعر بالغضب والضيق من طريقة كلام همام معه و لكنه استمر بكتم غضبه وتحمل نزاقته، رد عادل عليه قائلاً: نحن لا زلنا على اتفاقنا القديم.


أجاب همام بمكر وخبث: بالنسبة لربا أجل اما البقية فلا.


فأجابه عادل باستنكار: ماذا تعني بكلامك هذا؟


همام: اعني انني لا أضمن لك حياة ريم فلربما تتأذى عن طريق الخطأ أو لربما تقتل ايضا من يدري يا (عماه)


توسعت حدقات عينيه من شدة الغضب وصرخ: هل جننت يا همام! اتفقنا على إبقاء ربا زوجتك لك مقابل ان تسلمني الأمانة التي عندك.


اغلق هاتفه بوجه همام غاضباً وهو يشتمه ويشتم الساعة التي رأه فيها ثم نهض من مكانه وعاد إلى داخل الشقة وتوجه نحو غرفته يحاول استجماع ذهنه المشتت.


اضطجع في فراشه وبدأ يفكر متأملا حال عائلته الذي اضحى يرثى له، لم يكن يستطيع البوح بكل ما يجري حفاظا على اتفاقه مع همام.


كان عليه أن يتحمل واجباته كأب وان يبقى هو الجسر الذي سيعبر عليه ابنائه مهما كلف الأمر.


إنها فائدة  وجود الأب في العائلة  سيكون عليه أن يكون هو السبب في كل شيء سواءً كان  سيئاً أم جيداً، لا بد له من التضحية في نفسه عند في كل مرة.


مضت تلك الليلة و أشرقت شمس الصباح بعد ليلة كئيبة مقيتة، أما في منزل همام كان قد استيقظ يجهز نفسه للذهاب إلى المدينة المهجورة حيث لا تزال الأمور هناك غير مستقرة بعد ولا تزال ممتلئة بالثائرين ضده ويحاول جاهداً لبسط نفوذه وسيطرته عليها.


ارتدى ملابسه و تجهز ثم نزل ليستقل السيارة الخاصة به ويمشي خلفه  الخاص به لحمايته قاصدا مبنى البلدية هناك ليقوم بافتتاح أول مشروع له في المدينة وهو سجن المقاطعة.


زاعما أن السجن سيكون من شأنه أنه سيضبط الأمن ويساعد الناس على العودة إلى ديارهم ومنازلهم  في أمن وسلام.


أما مالك فقد استيقظ باكراً بنوي الذهاب لكي يطمئن على فريسته متذرعا بذريعة أنه يريد السلام لا اكثر، استقل سيارته وتوجه إلى مبتغاه


استيقظت ربا باكرا من اجل ان تختفي عن الانظار كما طلبتُ منها ورتبت فراشها وازالت كل شيء يدل على ان هناك شخص ثانٍ يعيش في المنزل.


حملت بيدها أحد الكتب الروائية وصعدت إلى السقيفة تنتظر قدوم مالك إلى المنزل 


لم يطل انتظارها كثيرا فقد وصل مالك إلى المنزل ووقف خارجاً يطرق باب المنزل فنهضت على صوت طرق الباب ونهضت من فراشي توجهت إلى الباب لأرى من الطارق.


فتحت الباب فدخل مالك مباشرة بدون استئذان، كأنه يبحث عن شيء ما.


نظر إلى داخل المنزل ثم عاد ليرتب نفسه قائلا:

السلام عليكم كيف حالك يا صديقي.


فعلمت من تلك اللحظة ان في رأسه شيئاً ما ينوي فعله.


أفسحت له المجال كي يدخل مرحبا به، وقلت: اهلا مالك اهلا بصديقي نورت المنزل.


دخل مالك وعينيه لا تكادان تستقران على ناحية واحدة من المنزل وهو ينظر يمنة وشمالا.

 

قال مالك على عجل: كيف حالك يا عزام و كيف حال جرحك!


 اجبته بكل ثقة: الحمد لله كل شيء على ما يرام يا مالك.


مالك: هل تشعر بألم ما أو ما شابه ذلك!


بدى لي انه يحاول ان يغتنم اي فرصة ليعود من أجل معالجتي و ليجعل لزيارته سببا وجيها منطيقا فكررت نفس الاجابة  قلت: لا لا ليس هناك أي ألم لقد شفيت تماماً.


أشرت له بيدي إلى إحدى الارائك وقلت: تفضل تفضل بالدخول يا مالك، اهلا وسهلا.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي