الفصل السادس والعشرون

_قبل أن أكلم وبعيداً عن القصة لم لا اكون سعيداً مثلا ؟

ربا: اعني انك لوحدك ولا يوجد من يعيش معك.

فأجبتها قائلاً: ولكن معي انت هل نسيتي نفسك!

ضحكت ربا وقالت: أنا أسوء معينة في الدنيا لقد كدت أتسبب بمقتلك.

فضحكت وقلت لها: صحيح أنت كذلك.

فتحت فمها وتوسعت حدقات عينيها وقالت مازحةً: يا للأسف، لقد ضاع طبق الفول هبائاً منثورا.

ثم تنبهت إلى أنني أضيع الوقت ققط فظهرت علامات الضجر على وجه ربا و قالت بتململ: عزام أرجوك كن جدياً معي ولو لمرة واحدة فقط من فضلك ارجووووك.

وأشارت بالإبهام و السبابة صانعةً مستطيلاً صغيراً.

فقلت لها: حسنا قولي ماذا تريدين!

ربا: اريد ان اعلم كل شيء عنك الن تخبرني بشيء يا عزام؟
لقد بت تعرف اغلب ما مررت به في حياتي وكيف قضيت أيامي في الدراسة وقبلها وعلى الرغم من ذلك فأنت لم تحدثني عن حياتك ابدا، او حتى عن الأيام التي كنت تقضيها قبل أن نلتقي.

"مع من تعيش؟"
"اين عائلتك؟"
"من اي حي انت؟
"مثلا هكذا أمور من الجميل ان نتشاركها أليس كذلك!"

_انتي محقة يا ربا ولكن لكل مقام مقال وسأخبرك بكل ما تريدين معرفته لا تقلقي، سأجلس يوماً على كرسي الاعتراف وستكونين انت المحقق وكل اسئلتك سيجاب عليها، اخبريني ما رأيك؟

ربا: ولكن لماذا ليس الآن!

فقلت: لاننا الان لدينا عمل شاق ويجب ان ننظف المنزل قليلاً ونرتب لك غرفتك.

صمتت ربا قليلاً وقالت: حسناً كما تريد ولكن على الأقل أخبرني ما هي هوايتك!

ضحكت لسؤالها حقاً من قلبي وقلت لها: الشعر، انا اهوى الشعر.

وانت: أخبريني ما هي هوايتك؟

ربا: انا بصراحة كنت احب الفن واريد ان اكون مغنية مشهورة مثلا او ما شابه ذلك.

دسست يدي في شعري أحاول تذكر بعض من حديثها وقلت: اجل اذكر انك قلت انك درستِ عاماً في معهد موسيقي أليس كذلك؟

ربا: اجل ومع الأسف لم اكمل.

_ولماذا كلمة الأسف؟ أتعلمين يا ربا احياناً يحدث ما نكره ونظنه شراً خالصاً إلا أن الله يجعل فيه كل الخير بدون ان نتدخل بالامر.

_وأنا أتمنى أن تسجلي بمعهد لتحفيظ القرآن ان شاء الله ولكن عندما تنتهين من هذه المعضلة الحقيقية وتعودين إلى حياتك المستقرة والامنة.

ربا: سأفعل إن شاء الله ولكن اتسائل اين ومتى سيكون هذا الاستقرار الغائب؟

_عندما يشاء الله ويحين الموعد سيصبح كل شيء على ما يرام حتى لو وقف العالم بأسره ضدك.

ربا: اتعلم يا عزام لقد كان لي طموح ذات يوم ولكن بزواجي هذا لم أعد أطمح إلى شيء أكثر من الطلاق والخلاص من هذه المصيبة التي حلت بي لقد تعبت حقاً ولم يعد بوسعي الاستمرار أكثر والمتابعة.


فقلت لها أحاول طرد البؤس قبل أن يخيم: حسنا دعينا من هذا الكلام ولنعد إلى قصتي ونسردها بسرعة فهي بسيطة جداً ولا تكاد تسمى قصة حتى.

قفزت ربا من مكانها متحمسة وقالت: وأخيراً ستتكلم! لحظة_ انتظر انتظر، اريد ان اجلس بالقرب منك،

قهقهت ضاحكا وقلت: ولماذا هذا الحماس كله وما قصة الجلوس بجانبي؟

سعرت ربا ببعض الخجل ثم قالت: لا شيء فقط لدي بعض التساؤلات عنك ولا بد أنني سأجد الإجابات، والان اخبرني هيا.

فقلت وأنا أحك ذقني: من اين تريدن ان ابدأ لك؟

فتحت ذراعيها ثم جعلت تضيق بينهما حتى كادت السبابتين تلتصقان وهي تقول مثل الاطفال:مننننن البداية اريد ان اسمع كل شيء، هيا إبدأ.

فقلت وأنا أسخر منها: تقصدين من ساعة دخول امي مستشفى التوليد أو ساعة خروجها منه؟

اغتاظت ربا وبدا احمرار وجهها ظاهراً، وكانت كطفلة صغيرة تنتظر بفارغ الصبر حكاية الجد العتيقة ولكن الجد قد غفى ناسياً أمر الحكاية.

صرخت وهي تغلق اضراسها على بعضهم بشدة وتكتم وقالت: عزااام هيااا ارجوووووك.

علت ضحكاتي وقلت: اهدئي اهدئي انا امزح فقط انا احب المزاح والمداعبة خصوصاً في مثل هذه الاوقات والان اعود للموضوع الرئيسي.

–بدأ الامر كله قبل ثلاثة اعوام تقريباً كنت في الجامعة طالب في السنة الأولى قسم ادبي فكما اخبرتك كنت مولعاً بأشعار الجاهلية من قبل ان اتخصص ولكنني مع دخولي الجامعة تحول شغفي إلى شعراء ما بعد قدوم الاسلام وبخاصة في عهد الدولتين العباسية والأموية.

ربا: جميل، إذا ستسمعني شيئاً من ما تحفظ اليس كذلك؟

قلت: لا تقاطعيني فأنا شديد النسيان أين كنا الآن؟

أجابت ربا على عجل: في الجامعة.

_نعم درست عاماً كاملاً في اختصاصي وكانت الحرب مشتعلة ومن ثم بدأت الأمور تتأزم شيئاً فشيئاً وأعلنت الحكومة حينها عن بدأ التعبئة العامة واستقبال المتطوعين وكنت أنا من الأوائل الذين تطوعوا للذهاب لخدمة العلم.

سجلت اسمي وتم اعطائي مهلة عشرة أيام كي اتجهز و احزم حقائبي وقضاء بعض الوقت قبل الانطلاق.

عدت إلى المنزل حينها ودخلت انادي على امي واتجول في منزلنا فوجدتها متكورة بإحدى زوايا الغرفة ولا زلت اتذكر وجه امي الخائف والمذعور ذاك.

كانت صفارات الانذار تصدح في سماء المدينة ولا أحد يدري ما الذي يحدث بعد، انكببت عليها احضنها والفها بذراعي كانت ترتجف خائفة من صوت الطائرات.

لم استطع رؤيتها على تلك الحال كاد قلبي يتقطع عليها
جعلت اهدأها واكلمها كي أخرجها من حالة الذعر التي هي فيها: امي امي ما بك كلميني؟

فردت عليّ بصوت مرتجف وخائف قائلة: عامر عامر_
اهذا انت!

–ازداد خوفي عليها اكثر إنها تناديني بعامر، لفت يديها حول عنقي وهي تردد كلمة واحدة "عامر عامر"

كانت تتوهم أن من يقف امامها هو ابنها البكر عامر المشكلة ان اخي عامر هذا قد توفي بحادث سير مروع وقاسٍ إلى أبعد الحدود أكثر مما يتخيله عقل ويصفه لسان.

قبل عدة سنوات اكان عامر عائد من السفر وانقلبت به السيارة في احد الوديان السحيقة وهوت السيارة إلى أسفل الوادي واحترقت و هو لا يزال عالقاً فيها.

كان حادثاً أليماً تطلب منا السفر بأمي خارج البلاد لتتلقى العلاج النفسي وتنسى ما رأئته من حال جثمان ولدها عامر من حرق وتهشم و تكسير وكل ما قد يخطر على بال الانسان من الوان العذاب.

بقيت امي في حينها قرابة الشهر لا تأكل ولا تشرب ولا تكلم أحداً تقضي نهارها في غرفتها و ليس على لسانها سوى عامر.

"عامر كان و عامر فعل ومتى سيعود"

_تقريبا اصابها الهذيان مع ضرب من الجنون.

كانت فترةً عصيبة علينا جميعاً انا وأمي وزوجة عامر الحامل
خاصةً انه قد كان عريساً جديداً ولم يمضي على زواجه سوى بضعة أشهر ولكن عاجلته المنية.

ولكن بحمد الله استطعنا إخراجها من الحالة التي كانت بها بشق الأنفس وخصوصاً بعدما أنجبت زوجته تسنيم ابنة عامر الوحيدة فقد أصبحت تأنس وحدتها.

وتحيي ذكر عامر في المنزل كأنه حي بيننا ولكنها لم تعد كما كانت فقد ظلت تحن لولدها وتخاف عليه وها قد عادت لها الحالة مجدداً.


أمسكتها من كتفيها اهزها برفق و اناديها "امي امي"

"انا عزام ألم تعرفيني"

لكنها لم تستجب ابدا لصوتي وظلت تهدس وتتمتم و عينيها المتسعتين بدهشة وشرود كأنها كانت تشاهد في تلك اللحظة ما شاهدته قبل عدة اعوام يوم اتينا بجثمان عامر إلى المقبرة وجلست هي تنظر له او لنقل تنظر لما تبقى منه.

احتضنتها بين ذراعي و احتملتها اريد ان ابتعد بها عن المكان فشعرت بأيدٍ صغيرةٍ تتعلق بثوبي.

نظرت إلى الخلف فكانت هي تسنيم ابنة عامر الصغيرة تشدني وتقول بكل براءة "عمي أين تأخذي جدتي"

لم ادري بماذا اجيبها واكتفيت بقولي: اتبعيني يا عمي هيا.

اخذت امي مسرعاً ووضعتها بالسيارة على الفور وخرجت بها من المدينة متوجهاً إلى منزلنا القديم في الريف استمرت قيادتي للسيارة إلى ما يقارب الساعة حتى وصلت إلى المنزل المقصود.

نزلنا من السيارة وحاولت ان اروح عن امي قليلاً لعلها تهدأ وناديت لتسنيم ذات الأعوام الخمسة تلعب بجانبها مع الدجاجات والفراخ كان الجو هادئاً ونسيم الريف العليل يلفح وجوهنا.

كانت الساعة ساعة المغيب والشمس بدأت تنزل مختبئة خلف التلة "كما كانت تسنيم تشير بأصبعها وتنادي"

احضرت الدواء الخاص بأمي المضاد للاكتئاب واخذت جرعتها اليومية وتركتها لوحدها قليلاً ريثما اجهز لها كأساً من الزهورات لكي تريح اعصابها.

انتظرت ساعةً تقريباً ثم عدت إليها فوجدتها جالسة على كرسيها ممسكة السبحة تذكر الله و تتأمل السماء في أول ساعات الليل وطلوع النجوم قدمت نحوها وانا احمل تسنيم بين يدي نائمة وممسكاً كرسياً لي وجلست بجانبها.

وحاولت ان افاتحها بالكلام فسبقتني هي وقالت: عزام بني يبدو ان النوبة العصبية قد عادت إلي أليس كذلك!؟

فأجبتها اجل يا امي ولذلك نحن هنا قلت لعلك تريحين اعصابك إن بقينا هنا قليلاً.

إجابتني أمي بصوت حزين بعد أن تنهدت: ااه يا بني لقد تعبت حقاً من هذه الحال كل ما شعرت بشيء ما اعود لما كنت عليه من حالتي النفسية.

فقلت لها وأنا أحاول موساساتها: لا تقلقي يا امي لكل شيء حل إن شاء الله.

امي: و ما هو الحل برأيك؟ هل سأموت وأنا على هذه الحال؟
ماذا لو لم تكن موجوداً ما الذي سيحدث لي.

أمسكت بكفها و حضنته بين يداي وقلت: لن يحدث إلا ما كتب الله ولم لو لم أكن حاضرا انا لهدأتِ انت لوحدك.

امي: أهدأ هل نسيت اخر مرة ما الذي حدث؟ لقد كدت ان اتسبب للطفلة بالاذى.

قلت لها أحاول إبعاد الحزن عنها: لقد سمعت من احد اصدقائي انه يوجد طبيب نفسي ماهر في أوروبا وانوي إرسالك إلى هناك.

امي: بني انت تعلم انني لا اريد الذهاب ولا العلاج خارج البلاد إن كان ولابد فسوف اموت هنا وأدفن هنا.

فقلت: ولكن يا امي_

قاطعت امي الكلام وقالت: بدون لكن يا عزام هيا قم واعدنا إلى المنزل لقد تأخر الوقت لابد أن المدينة قد هدأت الأن.

لم استطع يومها إلا ان اساير امي قليلاً ريثما استطيع ان اخرجها من البلاد،عدنا إلى المنزل في تلك الليلة وبتناها بهدوء حذر ومريب كما يقولون هدوء ما قبل العاصفة.

وفي صباح اليوم التالي استيقظت باكراً.

جهزت الفطور واحضرته إلى غرفة امي وايقظتها
فجلست في فراشها ونظرت إلي بتعجب وقالت: عزام! ما الذي تفعله هنا لماذا لست في الجامعة!

فقلت: لقد تركت الجامعة يا امي.

امي: هل ترى أن هذا وقت مزاحك برأيك، دعني اغسل وجهي وبعدها سنتكلم.

ذهبت إلى الحمام قضت بضعة دقائق وعادت، جلست انا وهي على مائدة الإفطار وملأت لها كوباً من الشاي قدمته لها وقلت: أمي لقد سجلت اسمي في صفوف المقاومة.

امسكت امي الكأس وتجمدت عن الحركة وظلت صامتة تحدق بي

_كما سمعتي يا امي العدو يتقدم وقد وصلت قواته زاحفة لحدود المدينة وهذا ما اشعل صفارات الانذار البارحة وهذا ما يدفعني ان ارسلك للخارج كي اطمأن عليكِ.

فمن يدري ما الذي سيحدث في مدينتنا لقد رأينا المدن الاخرى لقد محيت عن بكرة ابيها واصبحت اثرا بعد عين وامتلأت بأشلاء الضحايا وتحول أهلها الهائمين على وجوههم لا يهتدون سبيلاً.

فما الذي سيجعلني ابقيكي في هذه البلاد بعد أكثر من هذا؟

سأرسلك إلى البلاد الاوربية هناك حيث تسكن ام تسنيم وهي على استعداد لاستقبالك لتعيشين معها بأمان واطمئنان.

عبست امي واحتدت تعابير وجهها قائلة: لن ترغمني على فعل شيء ابداً وأن كنت تخاف على تسنيم فيمكنك ارسالها لأمها اما انا فسوف ابقى هنا هذا نهائي ولا رجعة عنه.

وأما موضوعك انت فلن اسمح لك ان تفعل ما تفكر فيه يكفيني انني خسرت واحداً ولن اتحمل ان يصيبك اذى يا عزام.

_ولكن يا امي من الذي سيدافع إن أنا لم افعل وذاك خاف على زوجته وتلك خافت على ولدها؟ أسف يا أمي لكنني خارج وانت ان اردتِ البقاء هنا فلن أتركك في المدينة سأخذك لبيت الريف.

فأجابت أمي بصوت حزين منكسر: وأنت ألا يعني لك قلبي شيئاً ألم ترى ما حل بي بعد فقدان عامر أتظن أنني سأتحمل رؤيتك مدداً امامي؟!

منذ متى و قلبك قاسٍ إلى هذه الدرجة يا عزام!

شعرت حينها بالضيق و استأذنت من امي وخرجت من المنزل متوجهاً نحو منزل صديقي صقر.


عودة:

يكفي هذا القدر يا ربا غداً سأكمل لك ان شاء الله.

ربا: و لكنك يا عزام انت لم تخبرني أين هي والدتك الآن وتسنيم ما الذي حدث لها اخبرني.

_غدا ستعرفين كل شيء والآن هيا بنا ننظف المنزل قليلاً.

ربا: صحيح قم ساعدني فقط بترتيب الأشياء الصغيرة أنا سأتولى الاشياء الكبيرة.

فقلت وأنا اتلفت حولي: هل تجدين علبة سجائري لقد أضعتها منذ الصباح.

أجابت ربا وهي تشير بيدها: اجل انها على الطاولة مع الهاتف بالمناسبة لازالت شريحة الاتصال معي فأنا أخرجها من الهاتف دائماً خشية ان يضيع الهاتف او يسرقه احد ما.

_جميل إذا حاولي الاتصال بريم علها تكون قريبة من المكان.

ربا: كما تريد سأتصل بها خذ أنت هذه علبة السجائر وهيا بنا ننظف غرفتي قليلاً.

يتبع.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي