الفصل السابع والعشرون

ما لبثت أن عادت إلي بعد عدة دقائق بوجه عابس وقالت: أحاول طلب الرقم الذي كانت تستخدمه ريم لكنه مغلق، لا أدري لماذ لا يرن هاتفها.

أجبتها محاولا طرد الشكوك عنها: لا عليكي ربما هاتفها مغلق او ما شابه ذلك لا تقلقي.

ربا: اتمنى ان تكون بخير اخشى ان يصيبها مكروه ويكون بسببي يا عزام.

أمسكت بالهاتف من بين يديها وقلت: لا تخشي شيئاً لن يحدث إلا ما اراده الله في عليائه، ما هذا الجو الكئيب انا لا احبه اسمعي ما رأيك ان احكي لك شيئاً من خطبة كنت قد اعددتها ليوم تخرجي الذي لم يأتي.

اشرأبت ربا بحماس وقالت: حقاً، هذا من دواعي سروري، هيا اسمعني هكذا سيمضي الوقت سريعاً دون ان نشعر بالملل ونحن ننظف البيت.

ناولتها الممسحة وانا أقول: حسنا امسكي بالممسحة وانا ارش لك المياه واستمعي لي من دون مقاطعة.

حركت ربا رأسها تومئ بالقبول وقالت: اتفقنا، هيا نبدأ.

بدأت رشق المياه يمنة ويسرة وصوت الماء يعشعش في قلبي وأقول:

انا من جيل المشي الى المدرسة ذهابا وإيابا طوال أيام السنة الدراسية.

انا من جيل امتحان بالمنهج كاملاً لا ملازم ولا مدرس خصوصي ولا خيارات بالتنقيط.

جيل " اكتب الدرس ١٠مرات كعقوبة لك لأنك مضغت العلكة في الصف"

وحل المسائل على السبورة أمام الطلبة.

من جيل النشرات الحائطية والنشاط الإذاعي والمسرحيات السخيفة الجميلة في آن واحد.

ولا ننسى الرياضات المتعبة والمسابقات الثقافية المملة ولكن المفيدة.

نحن جيل لم ينهار نفسياً من عصا المعلم وصراخ المعلمات. لم يتأزم عاطفياً من ظروف العائلة المادية الصعبة وشجار الوالدين المستمر.

لم تتعلق قلوبنا بغير أمهاتنا وبعض قنوات التلفاز،ولم نبكي خلف المربيات عند السفر أو موت قطة العائلة.

نحن جيل لم ندخل مدارسنا بهواتفنا النقالة والازياء المدنية، ولم نشكو من كثافة المناهج الدراسية، ولا حجم الحقائب المدرسية وثقلها ولا من كثرة الواجبات المنزلية.

نحن لم يستذكر لنا أولياء أمورنا دروسنا ولم يعلمنا أب أو أم أو أخ، ولم يكتبوا لنا واجباتنا المدرسية كل ما كان لدينا هو أنفسنا فقط ولا شيء غير ذلك.

وكنا ننجح بلا دروس تقوية ومعاهد خصوصية ولا حتى رشوة المدرسين والمدرسات وحتى بلا وعود دافعة للتفوق والنجاح.

نحن جيل لم نرقص على أغاني السخف والتفاهة كالبلهاء.

وكنا نٌقبل المصحف عند فتحه وعند غلقه قبل كل امتحان أو مذاكرة.

نحن جيل كنا نلاحق بعضنا في الطرقات القديمة بأمان والشقي فينا من رن جرس جاره وهرب.

ولم نخشى مفاجآت الطريق، ولم يعترض طريقنا لص ولا مجرم ولا خائن وطن.

لم نكن نؤذي امرأة او فتاة فقد كان الطفل منا يملك في أظفاره الرجولة أكثر من شباب اليوم مع الأسف.

كنا إذا جرح صديق صديقه يتعرض للضرب من أهله ولا يخبرهم بالفاعل حبا به.

نحن جيل كنا ننام عند انطفاء الكهرباء في فناء المنازل ونشعل شمعة واحدة تسهر العائلة بأكملها من حولها.

كانت لعبتنا المفضلة هي تكوين خيال اليدين بأشكال الحيوانات على الجدار في ضوء الشمعة.

نسهر بأدب ونحلم كثيراً، ونتحدث كثيراً، ونتسامر كثيراً،ونضحك كثيراً، وننظر إلى السماء بفرح. ونعد النجوم نجمة نجمة حتى نغفو ونحن نظن اننا في الصباح ستتحقق إحدى الامنيات لأن احدنا لمح شهاباً أو نيزكاً وظنه علامة قبول الدعاء من الله.

نحن جيل كنا نحرك كفوفنا للطائرة بفرح ونٌحيي الشرطي بهيبة ونظن انهم هم من يحمون البلاد والعباد، على عكس ما ظهر لنا واكتشفناه حيث أن ذئب المعز صار راعيها.

نحن جيل تربينا على المحبة والتسامح والصفح والكرم والبذل والعطاء نبيت فننسى من فورناً زلات وهفوات بعض الاصدقاء
ونصحوا ندق على أبوابهم لنلعب الغميضة.

نحن جيل كان للوالدين في داخلنا هيبة وللمعلم احترام وللعِشرة حقوق وكنا نحترم سابع الف الف جار ونتقاسم مع الصديق المصروف والأسرار واللقمة بكل حب وفخار.

فأخبريني ما الذي غير اطباعنا في هذه الأيام.

ثم أنهيت أقلد ما يفعله الفنانون في نهاية المسرحيات وقلت: النهاية، شكرا لاستماعكم.

صفقت ربا بحرارة وقالت مندهشة: واااو يا لك من مفوه مُدرب يا عزام.

ضحكت لأنني أعلم أنها كانت تجاملني وقلت: لا تبالغي لقد كنت احب ان القي الندوات والأشعار في قاعة الجامعة ولم ارى احد يصفق بحرارة كما فعلتي.

أجابت ربا بحماس واستنكار: لأنهم حمقى بكل بساطة.

نظرت إلى وجهها الجاد المضحك وقلت: هيا هيا امسحي هنا بسرعة قبل ان يجف الماء، واتركينا من دعمك المعنوي.

هتفت ربا بتململ وازدراء: حاااضر يا زوجة ابي ها قد صار لي خالة دون ان اعلم.

فضحكت انا وضحكت هي حتى كدنا نقع على الارض واكملت ارش الماء بعضه على الأرض والبعض الآخر على قدميها متظاهراً بعدم الانتباه.

فعملت انني اتظاهر بالتغافل فرفعت الممسحة فجأة و ضبت بها على ركبتي وقالت: ااااه اسفة اسفة لا تأخذني لم ارك.

تجاهلتها وأكملت رش المياه حتى اصطدم رأسي بصندوق كرتوني قديم فتطاير الغبار ينتفض عنه وانتثر في كل مكان.

ربا: يا إلهي كن حذرا لقد اضعت تعب ساعة من العمل الشاق.

أجبتها وأنا أنفض الغبار عن رأسي: سف ولكنني لم ارى هذا الصندوق هنا من قبل.

ربا: اجل انا وضعته هنا يوم رتبت المطبخ.

نظرت إلى الصندوق وقلت: هل نظرت لما بداخله!

رفعت ربا يديها وأشارت بالنفي وهي تقول: لا لم أنظر لقد خفت أن يكون فيه اشياء خاصة بك.

فأجبتها على عجل وأنا أحاول معرفة ما في داخل الصندوق: يس في هذا المنزل اشياء خاصة ابداً.

ربا: اذا ما رأيك ان نفتحه ونرى ما بداخله.

وضعت الممسحة على جانب وقلت: لا مشكلة لدي هيا تعالي لنرى ما فيه.

امسكتُ الصندوق وانزلته من على الرف ووضعته على الطاولة نفضت الغبار عنن قليلا، وقطعت الشريط اللاصق ومن ثم فتحته إذا به قد غلفت الاشياء التي بداخله بكيس بلاستيكي أسود اللون.

وكان معقوداً الف عقدة فتخليت عن فكرة فتحه لمجرد ما رأيت من عدد العقد التي عقدت على فم الكيس.


ضحكت ربا وتقدمت امسكت الكيس بيديها الصغيرتين وبدأت تفك عقده شيئاً فشيئاً حتى فتح.


ويا للمفاجأة لقد كان بداخله اثمن ما كنت امتلك أيام الماضي
إنها كتبي الأدبية ورواياتي ودواوين الشعر التي كنت أجمعها.

امسكت ربا اول كتابٍ فكان كتاباً يحمل اسم "مختارات من ديوان المتنبي.

نظرت ربا إلي مستغربة وقالت: ما هذا يا عزام؟

تناولته من يدها ومسحت عنه الغبار ثم نظرت إليه فعرفته وقلت: اتعلمين يا ربا هذه كتبي ورواياتي واشعاري وكل ما كنت احب من المختارات الادبية.

ربا: حقاً إذا هذا الصندوق لي من الان فصاعداً فأنا اكتشفته.

ضحكت وتبسمت وناولتها الكتاب وقلت: جربي ان تقرأي لنا بيتاً من الشعر.


امسكت ربا الكتاب و تمعنت به جيداً ثم قالت:

مَغاني الشَعبِ طيباً في المَغاني
بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمانِ
وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها
غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها
سُلَيمانٌ لَسارَ بِتَرجُمانِ.

كان صوتها عذباً ذو نبرة رخيمة وبحة خفيفة مناسبٌ جداً قراءة الاشعار.

توقفت عن القراءة ونظرت إليّ وقالت: ما بك يا عزام لماذا تحدق بي هكذا!

نفضت رأسي وهززته محاولاً تمرير الموقف وقلت: لا شيء و لكن صوتك فاجئني انه رائعٌ جدا ومناسب ايضاً.

ربا: أحقا ما تقول يا عزام!

فقلت ببعض الخجل: اجل اقولها صادقاً من قلب.

ربا: ياااه لقد اخجلتني شكرا لك يا رجل.

ربا: اتعلم قبل قليل وجدت لعبة ملقاةً في الأرض ولقد تذكرت تلك الفتاة الصغيرة ما اسمها ابنة اخوك رحمه الله.

_اجل و ماذا هناك؟

ربا: اين هي الان كم عمرها أنت لم تخبرني بشيء عنها او عن والدتها ماذا حل بهن.

_سأخبرك:

كانت وفاء تحب زوجها عامر جدًا وكانت دائمًا تقول له: لا أستطيع العيش من دونك فلا تفارقني.

وعندما تعرض زوجها لحادث سير أليم أودى بحياته، حزنت عليه كثيرًا وساءت حالتها فاقترح عليها والدها أن يسافرا معًا إلى مكة ليُخرجها من بؤسها وتعود لها الحياة فوافقت وسافرت بعد انتهاء عدتها مع والدها إلى أداء العمرة.

اخبرني والدها أنها عندما رأت الكعبة من بعيد بدأت الدموع تذرف من عينيها فذهبت إليها وتعلقت بأستارها وهي تردد وتدعو: اللهم قد وعدناك إننا سنأتي إلى بيتك معًا، فسبقني هو إليك ولبى النداء فجئتك وحيدة وضعيفة فتقبلني يا الله وتقبله عندك من الصالحين.

وذهبت لتصلي ووالدها بجوارها وفي اثناء سجودها ظلت تبكي وتقول: اللهم لا تجعلني لأحد غيره، اللهم الجنة مع من أحببت.

فعلم والدها منها الصدق والنية على البقاء على عهدها مع عامر زوجها على الأقل للفترة القادمة.

انقضت العمرة وعادوا إلى البلاد وعادت"وفاء" زوجة عامر للعيش مع امي ومرت بضعة شهور على عودتها من العمرة ومن ثم ولدت لنا بنتاً كأنها الدر في السماء.

تشبه في نقائها و صفاء وجهها الجمان والزمرد.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي