الفصل الثالث

قمت بالقاء المزيد من الأخشاب في المدفئة وأنا أنظر إلى السنة اللهب المتصاعدة منها تنير لي الغرفة دون أن تحدث أي إزاعاج بل إنني أعتبرها راحة لعيناي وصوت الأخشاب وهي تفرقع عندما تشتعل أجمل عندي من الموسيقى التي أسرت قلوب الملايين.

أما رائحة خشب الصنوبر الجميلة والصفاف عندما تحترق فلا تقاوم ولا يعلى عليها وهي عندي أجمل من أجمل العطور بالفرنسية، "على الاقل بالنسبة لي" أحس بأنها تبعث في النفس راحة وطمأنينة غير طبيعيين

بدأ النعاس يتسلل إلى عيناي والتعب يجعل جسمي ثقيلا فأنا لم أنم منذ يومين.

لم أستطع مواصلة السهر أكثر فقمت بتغطية الفتاة جيدا وتمنيت أن لا تقتلني وأنا نائم وسلمت أمري إلى الله واغمضت عيناي لأغط بعدها في نوم عميق.


لم استيقظ إلا على صوت قذيفة سقطت بالقرب من منزلي كانت تبعد مئة متر في اكثر تقدير.

تلفت حولي نظرت إلى الهاتف كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا والضوء بدأ يطلع شيئاً فشيئاً ويلوح في الافق، لم يمضي على نومي سوى ساعتين فقط.

أخذت نفساً عميقاً محاولاً الإستيقاظ لكنني لم أستطع أن أخرج النفس الذي استنشقته إلا بكحة كادت أن تقتلع معها رئتاي من مكانهما.

استغربت من هذه الرائحة العفنة نهضت من مكاني لأبحث عن سبب تلك الرائحة لم أجد شيئا جديداً أو شيئاً ما يوحي بأنه قذر إلى هذا الحد.

صحيح أن المنزل في حالة سيئة ولكن ليس إلى هذا الحد، فتحت النوافذ لعل نسيم الصباح العليل يدخل منها.

آهٍ من أخدع لا هواء نظيف في هذه المدينة المهجورة لا شيء سوى دخان الحروب ورائحة الدماء والبارود في كل مكان.

لا بأس لقد اعتدت هذه الرائحة نوعاً ما وأصبحت أشعر بالنقص في يوم لا أسمع فيه صوت القصف من بعيد أو الاشتباكات المتقطعة.

تذكرت تلك الفتاةالتي كانت قد غابت عن ذهني تماماً بينما كنت أحدق في السماء فجأة فالتفت ناحيتها لأجدها لا تزال نائمة لم تتحرك قيد أنملة عن مكانها منذ الليلة الماضية.

حتى تلك المشفة لا تزال تلف رأسها و لم تسقط اقتربت منها ووضعت يدي على جبينها ببطء وحذر فأحسست بها تكاد تتجمد من البرد، أشعلت المصباح ونظرت إليها كان وجهها قد تحول إلى اللون الأزرق أو الليلكي من شدة البرد.

قلت في نفسي مندهشاً "يا ألهي ما بها هذه الفتاة! سوف تموت إن بقيت على هذه الحال" أحضرت كل ما كان لدي من بطانيات ووسائد ولففتها بها جيداً

عدت وأغلقت النوافذ كلها وأشعلت المدفئة فشعرت بالرائحة تنبعث من جديد نظرت إلى المدفئة فرأيت أسوء مخاوفي وكان الوضع أسوء مما كنت أتوقع.

وقلت وأنا أصفع جبهتي بضجر: "يا الهي إن المدخنة مسدودة والدخان يتسرب منها" كان الدخان يملأ داخل الغرفة بل المنزل بأكمله.

مسحت بيدي على وجهي وأنا أقول: "جميل، جميل جدا ومبهر ايضا"

كنت أقول ذلك وأنا أشتم وأسب هذا المنزل المتهالك العفن.

خرجت من المنزل وصعدت إلى السطح زحفاً على يداي، نظرت إلى المدفئة من بعيد، فرأيت كتلة سوداء قابعة فوقها، اقتربت أكثر لأرى قطة ميتة وقد وقعت على فتحة المدخنة.

كانت القطة تسدها تماماً وتمنع الدخان من الخروج، حاولت سحبها برفق ظناً مني أنها ربما تكون حية نظرت إليها وإذا هي ميتة، بل ومنذ زمان أيضاً كانت قد بدأت تتحلل بالفعلويبدو أنها مصدر الرائحة الكريهة.


استطعت إبعادها عن المدخة بعصا طويلة فنظرت إليها وكانت قد تلقت رصاصة أودت بحياتها وهشمت رأسها بالكامل.

تلفت حولي فلم أرى سوى مبنى البلدية ذلك المبنى المرتفع بل قل الشاهق الارتفاع المميز عن باقي مباني المدينة.

قلت في نفسي وأنا أحدق في القطة الميتة: " لابد وأن قناصاً عاد وتمركز هناك وهو من قتل القطة ليتسلى على الأغلب"

لم أستطع أن أكمل كلامي إلا وقد سمعت طنين الرصاصة وهي تمر بجانبي أسرع من الصوت انبطحت بسرعة وعدت ازحف إلى الخلف قبل أن أكون هدفه الثاني بعد هذه القطة المسكينة.

نزلت إلى الأسفل لأرى حال المدفئة، فشعرت بالارتياح عندما رأيتها وقلت: "جميل جداً لقد عادت إلى العمل بشكل جيد.

كانت الغرفة قد بدأت تصبح أكثر دفئاً واعتدلت الحرارة فيها.

توجهت إلى الحمام وأخذت دشاً سريعا وبدلت ملابسي ثم توجهت إلى المطبخ لكي أحضرت البن والفناجين وباقي اشيائي اللازمة ومن ثم عدت إلى الغرفة كي اجهز قهوتي الصباحية.

فتحت المذياع وبدأت أقلب بين المحطات علني أجد واحدة من بينها لا تزال تعمل.

شعرت بحركة خفيفة من أسفل البطانيات فنظرت إليها لأجد الفتاة قد بدأت تتحرك.

قلت وأنا أشعر بالسعادة: " رائع يبدو انها قد استفاقت أخيراً وسوف أتخلص منها عما قريب" قلت ذلك أانا أحرك القهوة لتذوب ببطئ والابتسامة الخبيثة ترافقني.


نهضت من مكاني ونظرت إليها فإذا وجهها قد أصبح أحمر اللون و هي تتمتم بشيء ما لم أفهمه أنتظرت للحظات وأنا وأقفٌ بجانبها فسمعتها تقول على صوت خافت: ماء، أريد ماء.

علمت أنها تشعر بالعطش هرعت إلى المطبخ وأحضرت لها كوباً من الماء و وقفت بجانبها أنظر لها والكوب قريب من و جهها.

قلت محدثا نفسي ببلاهةٍ زائدة: حسناً وكيف سوف أسقيها الأن؟

فكرت قليلاً ثم اقتربت منها وقلت: يا أنسة، انهضي من فضلك، هل أنت بخير؟

رايتها تحرك رأسها وتحاول النهوض بصعوبة فأمسكت وسادتين ووضعتهما خلف رأسها وقربت كأس الماء من فمها لكي تشرب.

كانت قد بدأت تفتح عيناها لتظهر تلك المقلتين الرماديتين اللون وتنظر حولها قبل أن تنظر إليَّ حتى.

شربت رشفة من الماء وكأنما جرت بعروقها مجرى الحياة من أغصان الشجرة عندما تسقى بعضاً من الماء، أمسكت الكوب من يدي، وأخرته بكلتا يظيها وقامت بقلبه كاملاً دفعة واحدةً على وجهها وشربته في غمضة عين فهدأ قليلا أنينها.

حاولت الجلوس مستوعبة ما يجري حولها وهي حتى اللحظة لم تراني بعد، غطت عينيها بيديها لتفركهما قليلاً فسقطت المنشفة من على رأسها وهي لا تدري ظهرت تلك الخصل الذهبية اللون من شعرها الناعم وغطت و جهها وتناثرت على كتفيها في مشهد لا مثيل له.

لا أنكر أنني شدني ذلك المنظر الذي لم أعتد أن أراه بل قد نسيت كيف يكون بعد أن أمضيت قرابة العام في هذه المدينة المهجورة لم أرى فيها إنساً و لا جِنّا، باستثناء قطاع الطرق، بالإضافة لتلك الأيام التي قضيتها في السجن الإنفرادي.

كل ذلك جعلني غير معتاد على التعامل مع الفتيات، إقتربت منها أمسكت وشاحاً أسوداً والقيته عليها لتغطي نفسها به وعدت لمكاني مبتعدا عنها بضعة خطوات إلى الخلف.

انتظرت لوهلة ثم ناديتها: يا أنسة هل أنت بخير؟

حينما سمعت صوتي أحسست بها كأنما صعقت بماس كهربائي أو ما شابه ذلك
التفتت ناحية الصوت لتراني جالساً على الأريكة ممسكاً بفنجان القهوة.

فجأة وبدون سابق إنذار صرخت في أعلى صوتها: ياااااه، أيها الحقير! من أنت! ماذا تريد مني! أيها النذل الوضيع.

وقفت من مكاني مشيراً لها بيدي وأقول: إهدئي قليلاً أنا هنا للمساعدة فقط.

كررت صراخها و هي تقول: لا تقترب مني أحذرك يا هذا، وإلا سوف أقتلك.

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي