الفصل السابع والثلاثون

وصلنا إلى المنزل مسرعين وكان كل شيء كما تركناه.

دخلنا إلى المنزل وربا تمشي خلفي فتوجهت بسرعة إلى غرفتها لتبدل الثياب الرجالية التي ترتديها.

ودخلت انا اتفقد الهاتف الذي وجدته حاملا بيدي الجريدة وستر النجاة التي كانت في السيارة المحطمة.

قفزت تلك الهرة في حضني فاحتملتها وتوجهت إلى الغرفة رميت السلاح جانباً وجلست اتصفح الجريدة لم يكن هناك شيء جديد باستثناء خبرين اثنين.

الأول أن حاكم المقاطعة قادم إلى المدينة كزيارة رسمية لبناء البلدية، والخبر الثاني هو الاغرب والاكثر غرابة.

تمت مضاعفة المكافأة المرصودة للذي يقبض على ربا أو يدلي بأي معلومات جديدة تفيد بإلقاء القبض عليها.

ناديت على ربا لتأتي وترى ما أرى، فردت علي من داخل غرفتها: قادمة.

اتت ربا وجلست بجانبي ممسكة هاتفها تعبث به وقالت: ماذا هناك يا عزام؟

فقلت مندهشاً: أنظري إلى هذه الأخبار وستعلمين بنفسك.

قرأت ربا الاخبار فتوسعت حدقات عينيها مندهشة مما ترى وقالت فاتحة فاها: مئة الف!

_أجل مئة الف.

ربا: هذا يعني أن البحث سيكون مكثفا واي احد سيلاحظ وجودي لن يتوانى عن الامساك بي!

_ليس هذا فقط بل لو فقط اخبرعن مكانك سيحصل على نصف المكافأة، وبالمناسبة زوجك قادم إلى هنا غدا او بعد غد.

جنى: ترى ما الذي جعله يرفع قدر المكافأة إلى هذا الرقم الجنوني!

_لا أدري لعله يخاف أن يقتلك أحدهم وهو لا يعلم انه يوجد جائزة لإحضارك.

ربا: ويبدو انه يعلم انني في هذه المدينة ولهذا هو قادم إلى هنا.

_هذا ما يبدو عليه الامر حتى الان، اخبريني الم تتصل بك اختك ريم ونحن في الخارج!

ربا: لا لم تفعل يبدو ان ريم قد فقدت هاتفها على الأرجح.

_ااه لقد تذكرت أمرا مهما ناوليني المعطف من فضلك.

ربا: ما الذي تريده منه؟

فقلت مكررا الطلب: ناوليني إياه وستعلمين.

ربا: حسنا، خذ هذا معطفك، ولكن ماذا تريد منه!

_ونحن نبحث عن ريم وجدت هاتفاً مرميا على الارض ويبدو بحالة سيئة.

ربا: وهل تظن انه هاتف ريم! انه ليس هو ان اعرف شكل هاتف ريم وهذا غيره.

_لا بأس جربي أن تقومي بشحنه لربما يفيدنا او استعمله انا فليس لدي هاتف لأطمئن عليكي حينما اكون خارج المنزل.

ربا: لكنك لا تخرج كثيرا.

_سيتوجب عليّ أن أفعل غدا إذا حضر همام إلى هنا.

ربا: هل تعني أنك ستحاول قتله!

_لا ادري لكنني سأكون مشغولا قليلاً.

ربا: حسنا سأرى إن كان بمقدوري ان اجعله يعمل.

_بالمناسبة غدا سوف يأتي مالك إلى هنا ارجوك ابقي في غرفتك ولا تخرجي مهما حدث.

ربا: لماذا انت قلق هكذا!

فقلت مشدداً عليها الأمر: افعلي ما أقوله فقط وكل شيء سيكون بخير.

ربا: ولكنك يا عزام بهذه الطريقة تشعرني انني عار أو خطيئة.

_لا يا ربا ليس الأمر كذلك لو لم تكوني ملاحقة لكنت جاهرت بك، ولو لم تكوني متزوجة_

توقفت عن الكلام فجأة فقالت ربا: اكمل لماذا توقفت!

_لا شيء لا تشغلي بالك بي فقط كوني حذرة فأنا اخاف عليكِ ولا اريد ان تعودي لقبضة ذلك الرجل لأنني اعلم انه لن يرحمك ابدا.

ربا: أحقاً تخاف عليّ ام انك تشعري بالخجل بسببي من اصحابك!

أظن أن هذا الجواب سيظهر لك جليا في المستقبل.

ربا: حسنا يا عزام لك ما تريد ساختبئ غدا في السقيفة وانت ادخل مع رفيقك للداخل هكذا لن يشك بوجودي إن رأى غرفة مقفلة.

_شكرا لك يا ربا ممتن لك حقاً.

بد على وجه ربا الحزن وقالت بصوت خافت: هل سيعود ليكشف على جروحك مرة اخرى يا عزام!

فأجبتها واثقا لأزيح عنها الخوف: لا لن يفعل لقد انتهينا من هذا الأمر لكنه يريد الاطمئنان فقط على حد قوله.

ابتسمت ربا وقالت بشغف: حسنا لقد طمأنتني قليلا، اسمع هل انت جائع!

فأجبتها قائلا: لا لست كذلك لماذا تسألين؟

ظهرت على وجه ربا علامات الخيبة وقالت: ظننت انك جائع فقلت لعلي احضر لك الطعام.

فقلت لها: هل أنت جائعة؟ لقد رأيتك لا تأكلين الشوربة صباح اليوم لابد من انك جائعة الآن.

ربا: لااا لست كذلك و في الاساس انا لا اكل كثيرا كي لا اصبح بدينة.

شبكت يديها ببعضهما وخفضت رأسها وقالت: كل ما في الامر انني وجدت كيسا صغيرا من حبات الذرة فقلت في نفسي لماذا لا اخذها و نحضر طبقا من الفشار من اجل عزام.

ارتسمت على شفتاي تلك الابتسامة الخفيفة بسبب ما شعرت به في قلبي من ان احداً يهتم لأمري ويود اسعادي فقلت لها: اتعلمين انا احب الفشار كثيرا هل تحضرين لنا طبقا من فضلك.

شعرت ربا بالحماس ونهضت مسرعة والسعادة تغمرها وقالت: سأحضره في دقائق لن اتأخر.

مضت مسرعة إلى غرفتها وهي تشعر بسعادة غامرة لأنها ستتمكن من اسعاد عزام مجدداً و ستسمع منه كلمات المديح والثناء على جمال عملها.

كان جل ما يهمها ان تسعد عزام و ان تسمع الثناء على عملها و يطيب خاطرها ببضع كلمات.

انه الاهتمام والتقدير أحد أهم قواعد الحياة السعيدة وأساس عظيم لذلك فأي رجل مهما كان جافاً يحب أن يشعر بأن هناك فتاة في العالم تهتم له وتريد ابهاره.

كما ان اي انثى تحب ان تري الاخر انها انثى لا يشبهها أحد مختلفة في كل شيء وماهرة بكل شيء ويكفيها من الدنيا كلها بضع كلمات امتنان وعرفان وشكر.

ستكون لديها أفضل من ذهب الدنيا بأسرها وحليها
تلك الكلمات أهم من الملابس بالنسبة لها ومن المال ومن أي شيء تحبه المرأة.

وللأسف كانت ربا قد فقدت هذا كله وإن صح التعبير و اردنا ان نكون ادق "فهي لم تحصل عليه يوماً ولم تجرب ذلك الشعور من قبل ان تعرف هذا المنزل"

عادت ربا حاملةً بيدها كيساً أسود اللون وبه حبات الذرة.

وضعت القدر على النار واشعلت المدفأة ووضعت الزيت وانتظرت ليسخن قليلا، ثم وضعت حبات الذرة وغطتها وجلست بجانب المدفئة تحرك القدر لتستمر حبات الذرة بالفرقعة.

كان الجو معتماً والشمس قد مالت إلى الغروب والسماء تلبدت بالسحاب المحمل بالأمطار الغزيرة.

ولا ضوء في الغرفة سوى انعكاس السنة النيران على الحائط فتعطي مشهداً انطباعياً طاغياً في جماله و صفائه والهدوء يعم المكان.

لا صوت يعلو على فرقعة الفشار و صوت الأخشاب وهي تشتعل.

فاحت رائحة الفوشار في المكان وملأت الغرفة كلها فأحضرت ربا طبقاً كبيرا افرغت فيه ما كان في القدر ووضعتهم امامي وذهبت لغرفتها مسرعة وعادت تحمل كتابا في يدها.

جلست بجواري واضعة الكتاب على قدمي وقالت: تفضل.

_ولكن ما هذا؟

ربا: انها رواية لمحمود درويش.

_اجل وماذا به؟

ربا: أليست هذه الرواية المفضلة لديك؟

_ااه لقد كنت تقرأين بها؟!

ربا: أجل لقد حاولت تنظيف الكتب وترتيبها فلفت نظري هذا الكتاب الصغير بعنوان "فتاة المطر " تصفحت بعض الصفحات فعلمت إنها رواية مفضلة لديك قمت باقتنائها في الماضي.

_اجل هذا صحيح عندما كنت في الجامعة كنت أجمع الروايات كبيرة والتي تتألف من جزئين، وهذه إحداهن.

ربا: انا لم اكن اعلم انك كنت تحب أن تقرأ الروايات من قبل.

_لقد فعلت ذلك في الماضي عندما كنت احب مثل هذه الأشياء.

ربا: جائتني فكرة انتظرني لحظة.

هبت مسرعةّ من مكانها وانطلقت نحو غرفتها وعادت وبيدها كتاب آخر.

ربا: خذه هذا هو كتاب الجزء الثاني لهذه الرواية، اريد منك ان تقرأ لي بعضا من صفحاته هيا.

_لا لا اعفيني من هذا ارجوكِ واقرأي انتِ ان شئتِ انا سوف اكل الفوشار واستمع لك.

ربا: لا لن افعل هيا اقرأ لي ارجوك .

بعد جدال طويل استسلمت لها وقلت: حسنا كما تريدين ولكن احضري شمعة لكي اتمكن من الرؤية جيداً.

ربا: أمهلني لحظات إذا وسوف أعود إليك.

عادت ربا وقد أحضرت معها شمعة مشتعلة وضعتها بجانب النافذة وجلسنا نتأمل المطر المنهمر من النافذة ونتناول الفشار.

وفتحت ذلك الكتاب القديم وبدأت اقرأ لها.

"جلست دينا على كرسيها الخشبي وامامها تلك الطاولة الخشبية الصغيرة وقد وضعت عليها اقلامها ودفاترها ثم فتحت النافذة قليلاً فتراقصت الستائر بعد أن تسللت تلك النسمات الربيعية المنعشة للروح.

تداعب خصلات شعرها الذهبي المموج وانبعث في الغرفة جواً من الروعة والسمر
إنه شهر نيسان واشجار الحي تكللت بالزهر يفوح منها عبق من الروائح العطرة كانت ليلة قمرية.

والنسيم العليل يحاكي اوراق الشجر فتخرج معزوفة بهية الجمال أخاذة في الحسن تسلب الالباب وأما ضوء القمر فقد كان ساطعا يملأ الأرض نوراً وبهائاً.

حدقت في السماء فإذا بالنجوم تبعثرت في ارجائها ورائحة الياسمين تخللت جو الغرفة ذات الإضاءة الخافتة تنهدت قليلاً ثم أمسكت قلمها وفتحت ذلك الدفتر الوردي ذو القفل الذهبي الصغير


كانت قد اشترته البارحة وهمت في كتابة أول قصة لها إنها المرة الأولى التي تكتب فيها قصة وقد اختارت موضوعاً جميلاً يحكي عن حياتها وعن الصعاب التي مرت بها وما إن همت بالكتابة حتى سمعت طرقاً خفيفاً على باب الغرفة!

إنها مدينة الياسمين حيث كنت اسكن في بقعة كأنها هبطت من الجنة دونما استأذان.

وأكملت تملئ الأسطر بكلمات تصف بها كيف كانت الحياة جميلة هادئة و دفئ العائلة يملئ عليها الدنيا رغداً و طمأنينةً وسعادة لم تحس بالوقت وهي منهمكة في الكتابة دق جرس الساعة المعلقة على الجدار إنها الواحدة ليلاً.


أغلقت الدفتر وأعادت ترتيب الطاولة ثم استدارت واتجهت لسريرها لتخلد إلى النوم اطفأت المصباح واغمضت تلك الجفون المتعبة من كثرة السهر والأرق ،
وفي غمضة عين وانتباهتها إذا بالصباح يطلع وكأنما الليل ولى هارباً خلسة دونما انذار والضوء بدأ ينبلج مزاحماً ظلمة الليل فتحت عينيها تدافع النعاس لتبدأ يوماً جديداً متفائلة بأن القادم اجمل.


دينا هي تلك الفتاة ذات الخمسة والعشرين ربيعاً بل قل خريفاً و طرغم كل شيء إلا أنها لا تزال تؤمن أن لكل عسر يسر وأن الحياة لا تدوم على حال واحد وأن الجميع في هذه الدنيا إلى زوال.

شعرت ربا بالفرح والسعادة الغامرة وقالت: ياااه يا عزام تبدو رواية جميلة جدا.

_اجل انها رائعة وهي لا تزال رائعة بالنسبة لي كأنني أقرأها لأول مرة.

ربا: حقا لقد شعرت بأنني سأخدل إلى داخل الرواية.

ربا: سأقرهما تبدوان جميلتين حقا.

_انا سوف انام اكملي انت القراءة.

ربا: لكن الوقت لا يزال باكرا.

فقلت وأنا أمازحها: انا عجوز والعجائز ينامون باكرا.

ضحكت ربا وقالت: كما تريد يا جدي انا ذاهبة لغرفتي، تصبح على خير.


ذهبت ربا إلى غرفتها لكي تقرأ الرواية حيث كانت الرواية تتكلم عن جو العائلة وجمال الأهل
فسافرت بها الذاكرة لمنزل والديها ولأمها التي كان آخر ما رأت منها تلك الخيبة المؤلمة.

ووالدها الذي حتى اللحظة لا أحد يعرف لماذا قبل بتزويجها لهمام بل لماذا يبقيها تحت كنفه وعلى عصمته بدل ان يحررها من ذلك السجن.

إلى ريم المفقودة التي لا يعلم تحت أي سماء هي الآن وهل هي حية او ميتة، فالحظ قد حالف ربا لتلقي بشخص طيب كما تسميه ربا، ولكن ماذا لو كان حظ ريم ان تلتقي بشخص مثل همام؟

بدأت الأسئلة ترد إلى ذهنها تباعا وتتكاثر علامات الاستفهام حول مصير العائلة المشتتة.

لكنها لم تجد اي حل يغلق تلك الشكوك والتساؤلات فقررت ان تكمل قرائة الرواية امنية ميت ريثما يداهمها النعاس الذي لا يبدو أنه قادم للزيارة اليوم.

ظلت تقرأ حتى تثاقلت جفناها وبدأت عينيها بالاحمرار
فاستسلمت للنوم وغطت في نوم عميق بعد أن كاد الفجر يبزغ وتأخر الوقت.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي