الفصل الرابع

حينها علمت أنها على الاغلب قد تعرضت لصدمة ما أو حادث عنيف، أو لربما هي خرقاء فعلا فاقدة لعقلها لا أدري.

قررت التعامل معها كإنسان بدائي كي تهدأ قليلا، تراجعت بضعة خطوات أضافية إلى الخلف ورفعت يداي إلى محاذاة رأسي وادرت ظهري لها لكي تشعر بالامان أكثر.

وقلت لها ببطئ وصوت هادئ: اهدأي لا تصرخي، ليس عليك ذلك، أنت هناالأن بأمان، هل هذا يريحك الآن!

تلفتت حولها ثم قالت بعد أن هدأت قليلاً وهي تتنفس بسرعة وتزفر: أين أنا! من انت! ما هذا المكان!

ابتلعت ريقي بضجر وقلت: اسمعيني يا فتاة أنا اسمي عزام و هذا منزلي الذي تحطمينه برميك هذه الأشياء عليّ هل فهمت! ولن نبقى هنا طويلا إن استمر صراخك هذا فقد سمعك حتى من سكان العاصمة.


شعرت تلك الفتاة ببعض الغرابة وقالت: عزام! من عزام وما هذا المكان؟ أنا لم أسمع باسمك قبل اليوم.

ثم توسعت مقلتاها وقالت باستنكار: أيها الحقير لابد وأنك منهم، انت تكذب أنا لا أصدقك.

وعادت للصراخ والغضب كالمجانين مرة أخرى وهي تقول: أقول لك أخبرني أين أنا، وما الذي أتى بي إلى هنا، هيا تكلم.

شعرت بالضجر من كثرة صراخها وقلت وأنا أصك أضراسي على بعضها: اسمعيني يا فتاة وكفي عن الصراخ قبل أن أتي وأجعل فمك من قطعتين، أنا لست مربية أطفال إن صرختي مرة أخرى سوف أقوم برميكي خارجاً هل تفهمين هذا!

توقفت لبعض الوقت عن الصراخ، فأخذت نفساً عميقاً بعد أن صمتت وقلت: والأن أخبريني من أنت! ومن أي مدينة أيضا؟ فأنا لم أراكي قبل هذا اليوم في الجوار.


أجابت وقد ضيقت أجفانها وزمت شفتيها كأنها قد اكتشفت سراً ما وقالت: تسألني من أنا؟ هل تتظاهر بأنك لا تعرفني ومن أين أنا! اسمع أنت فاشل جداً في دور الممثل لذلك دع هذا الدور عنك لإنه لا يناسبك وتكلم بصراحة هيا، هيا أنا أعرف ألاعيبكم هذه كلها، لست بلهاء حتى تخدعني بكلماتك هذه.


رفعت حاجباي وارتسمت على شفتاي ابتسامة ساخرة وأنا أقول: ومن أنت حتى أعرفك ملكة بريطانيا مثلا؟ ثم من الذي يجب أن يعرف عن نفسه أولاً الغريب أم صاحب البيت!

أخرجت زفيراً طويلاً وقلت متضجراً: اسمعي أنا لم أراكي قبل اليوم وكل ما في الأمر هو أنني رأيتك الليلة الماضية تركضين في الشارع حافية القدمين فانزلقتي ووقعتي أرضا وقد أغمي عليكي فقمت بحملك إلى هنا كي لا تأكلك الكلاب وأنت في الخارج، فإن كنت لا تصدقينني فبإمكانك الخروج حالاً، أنا لا أرغمك على البقاء.

أشرت بيدي إلى الجدار القريب من المدفئة وقلت: ذاك هو معطفك قد جففته لك وهذا وشاح مني لك غطي رأسك به فأنا أريد أن التفت مللت وانا انظر للجدار كالمجانين هذا يكفي.

أجابت غير مستوعبة لما قلت لها: وشاح؟ ما الذي تعنيه؟

ثم عادت وقالت مستدركة على نفسها: انتظر لحظة، ابقى كما أنت ريثما اضعه.

أجبتها ببعض المزاح: هيااا هل ستمضين النهار بطوله تضعين قطعة قماشية؟

فأجابت بصوت هادئ: حسناً يمكنك أن تلتفت، لقد انتهيت.

ظننت أنها بدأت تهدئ شيئاً ما فالتفتُ متفائلاً ولكن سرعان ما زال ذلك التفاؤل وتحول إلى صدمة، رأيت ما لم أكن أحسب حسابه وكانت قد وقفت ممسكةً بسلاحي موجهة إياه نحوي.


أشرت بيداي كي تتمهل ولا تتسرع وقلت:مااا، ما الذي تظنين انك تفعلينه يا فتاة؟

أجابتني ويداها ترتجفان وهي تمسك بالمسدس وتضع أصبعها على الزناد: افعل الصواب طبعا أيها الأحمق، أنا أعلم أنكم كلكم حمقى مثل سيدكم ولكن لم اكن أعلم أن بينكم رجلاً غبيا إلى حد أن يترك سلاحه مرميا على الارض!

حاولت التحرك ببطء كي أخذ منها المسدس وقلت: لم اكن اعلم انني إذا انقذت فتاة في الليل فسوف تقتلني هي في صباح اليوم التالي!

جعلت أشير لها ناحية باب المنزل وأنا أقول: اسمعيني تريدين الذهاب؟ هيا اذهبي انا ليس لدي مانع، ولكنك ستكونين أنت المسؤولة انا لا علاقة لي بما سوف يحدث خارج باب منزلي.

أجابت بابتسمة الانصار كالخرقاء وقالت: هكذا إذا لقد بدأت في تمثيل دور الضحية.

علت ضحكتها المستفزة وهي تقول: كم انتم وضعيون ايها الذكور بطرفة عين تتحولون من ذئب متوحش إلى حمل وديع.

شعرت بالضيق من كلامها ولم أعد أستطيع الإحتمال أكثر، حاولت الاقتراب منها خطوة فلقمت هي المسدس واستعدت للإطلاق فصرخت عليها غاضباً: اهدأي ايتها الحمقاء واخرجي من منزلي حالاً انظري حولك هل هذا المنزل المهترئ يشبه مقرات العصابات!

أكملت ملامي وأنا أشعر بغضب عارم في داخلي: لو كنت أريد اذيتك لم غطيتك و دفأتك وسقيتك الماء!

أشرت بيدي على سريرها وقلت: هل من المفترض أن يكون سرير كهذا من اجل رهينة! لو كنت أريد شراً لكنت قيدتك على الاقل ولما تركت سلاحي أمامك.

خفضت يدي مستائاً من أفعالها وقلت:هل هذا هو جزاء الاحسان لديك! اخرجي من منزلي ليتني تركتك لكي تأكلك الذئاب البارحة، لقد أخطأت خطأ فادحاً حين أتيت بك إلى منزلي من الأساس.

رأيتها حينها تتراخى عزيمتها وعلامات الغضب تزول عن وجهها وجعلت تخفض المسدس ببطء نحو الأرض فتقدمت خطوة أخرى ليفاجئني صوت رصاصة تطلق.

مرت الرصاصة من فوق رأسي وكان الفارق فقط بضعة ملليمترات لتصيب تلك المرأة خلفي لتجعلني أقف في مكاني بدون أي حراك.

فكرت في نفسي وقلت: يا إلهي تبدو هذه الفتاة جادة بما تقول ولولا أنها اخطأت التصويب لكانت فجرت رأسي كحبة طماطم.

وقفت في مكاني انظر إليها وهي تنزاح جهة اليمين لتمسك ذلك المعطف الخاص بها والسلاح بيدها مصوب على رأسي فعلمت انني ادخلت إلى بيتي لصة لا اكثر أو ربما بائعة هوى حتى.

هذا ما ظننته في البداية عن تلك الفتاة ولكن ظني كان خاطئاً.

واصلت تقدمها ناحية الباب ببطء وهي تقول محذرةً إياي: إياك أن تتحرك سأخرج من هذا المنزل وألقي بمسدسك خارجاً يمكنك أخذه عندما ابتعد.

أما أنا فقد كانت النيران تشتعل بي غضبا أكاد انفجر من هذه الغلطة التي ارتكبتها وجعلتني أقع في هذه الورطة.

إنها المرة الأولى التي أقرر أن أنقذ أحدا وانظر إلى ما حل بي؛ مهدد في وسط منزلي من فتاة خرقاء لم تبلغ العشرين من عمرها بعد.

واصلت تهدأتها وسامحاً لها بالخروج من دون أن أتحرك قيد شعرة واحدة خرجت هي من الغرفة وهي تمشي للوراء مبقية المسدس مصوباً نحو رأسي.

ومن ثم أغلقت باب الغرفة عليّ ثم سمعته تغلق باب الشقة أيضاً فهرعت نحو النافذة انظر إليها وهي تحاول فتح باب السور لكنها خرقاء كما توقعت.

وضعت يدها على السور المكهرب فتلقت صعقة كهربائيةً كادت أن تقتلها لولا انها ارتمت على الأرض.

شعرت بفرصة تلوح أمامي فاغتنمت تلك الفرصة وألقيت بنفسي من النافذة إلى خارج الشقة حيث وقعت هي على الأرض. لكي انتزع مسدسي من يدها وأنهي هذه المهزلة.

وقفت عند رأسها ونظرت إليها من الأعلى أفكر في نفسي هل أقتلها أم أدع المدينة هي من تتولى ذلك بدلا عني أمسكت المسدس.

ثم وجهته نحو رأسها ونظرت إليها بنوع من السخرية وأنا أخاطبها بينما كانت لا تزال مرميةً على الأرض وقلت وأنا أضحك: هيا أيتها اللصة الصغيرة قومي لتموتي وأنت واقفة لا أريد أن أنحني إليك.

لم أرى منها رداً او أي حركة يوحي بأنها لا تزال على قيد الحياة وكزتها بقدمي بخفة على كتفها فلم تتحرك فعلمت حينها أنها اغمي عليها من جديد.

لكنها يبدو عليها أنها حية كان صدرها يصعد و ينزل إلا أنها غائبة عن الوعي تراجعت خطوتين إلى الوراء كي لا يصيبني شيئ من دمائها التي سوف تتناثر بعد لحظات ووجهت المسدس نحو رأسها.

وضغطت على الزناد فسمعت صوت من المسدس اشبه بصوت فتح قفل بمفتاح "تك "
استغربت من الصوت فأعدت الاطلاق مرة بعد مرة و لم تخرج أي رصاصة ناحيتها.

نظرت إلى زر الأمان لأتأكد منه فكان مفتوحاً! وكان كل شيء على ما يرام، أخرجت المخزن وعدت وأدخلته كان مملوئاً بالرصاص وليس هناك شيء يوحي بأن المسدس تعطل.

فكرت في نفسي وأنا أنظر إليها تارة وإلى المسدس تارة أخرى وأقول: لا ادري ما الذي يجري ربما هو حظها الجيد.

دسست يدي في شعري متعجباً وقلت مستهزئاً: منذ متى وأنا أؤمن بالحظ! لابد وأن أحدهم غشني بهذه الرصاصات الصدئة، هذا كل مافي الأمر.

انحيت إليها ونظرت لوجهها عن قرب أحسست بقائل في داخل وهو يقول ادخلها مجددا ربما ستنفعك في الأوقات القادمة.

لم أستطع مقاومة تلك الرغبة الجامحة في معرفة من هي هذه الفتاة ومن أين أتت، لكن شيئاً ما كان في داخلي ويخبرني أن أتركها في حال سبيلها حتى لا تسبب المزيد من المشاكل.

فكرت لبضع لحظات ثم قررت وانحنيت مجدداً إليها وأمسكت يدها أحاول إيقاظها لكنها لم تستجب لذلك فعدت وأمسكت كلتا يديها ووضعتها على كتفاي وحملتها على ظهري عائداً بها إلى المنزل ألقيتها على السرير.

وتأكدت أن لا سلاح هذه المرة سيكون قريباً منها أو بمتناول يدها.

تركتها ممددة على الفراش لعلها تصحو وأرى ماذا سوف أفعل بها بعد ذلك، توجهت إلى المطبخ أبحث عن أي شيء يؤكل لم أجد سوى بعضا من البيض وحبة بصل حملت ما أستطيع من البهارات وعدت إلى الغرفة أحاول طهي شيء ما أسد به جوعي.

أشعلت المدفأة ووضعت بداخلها معطف الفتاة المتسخ وبعض الأخشاب وجهزت إبريقاً من الشاي وصحناً من البيض المقلي وضعتهم على الطاولة لكي أباشر في الأكل.

لكنني لم استطع وضع لقمة واحدة في فمي لم استطع ذلك لا أدري ما السبب أو ما الدافع كان كل شيء يسير عكس العادة مع تلك الفتاة.

أمسكت قطعة من البصل وقربتها من أنفها أحاول إيقاظه ورششت بعض الماء على وجهها، كان انفها صغيراً جداً يشبه أنف القطط فجعلني هذا اضحك، رأيتها تفتح عينيها ببطء شديد.

فعدت إلى مكاني وأدرت ظهري لها كي تعود وتعدل ملابسها قليلاً.

فسمعتها تتأوه والسرير يهتز من أسفل منها فعلمت أنها جلست وعدلت وضعها فأشرت لها بيدي دون أن التفت وناديتها: أنت أيتها الفتاة تعالي وتناولي الطعام.

لم أسمع منها جواباً بالرفض او الموافقة فكررت ندائي فلم ترد هي علي.

فالتفت ناحيتها وقلت لها: ألا تريد تناول شيء ما؟ أنت هنا منذ الليلة الماضية ولم تأكلي شيئاً هيا تعالي.

رأيت على وجهها علامات القبول ولكن الخجل كان طاغياً على ذلك.

كان الجوع بادياً على وجهها النحيل الشاحب و لكنها لن تأكل معي طبعا فقبل عشر دقائق كادت أن تودي بحياتي.

وضعت اللقمة من يدي واعدتها إلى الطبق وتنهدت بقوة وأنا أنظر إليها وقلت: ألا تريدين تناول الطعام معي؟

ظلت صامتىً ولم تتكلم بشيء فقلت:حسنا لا تجيبي على سؤالي لك ذلك.

حملت الطاولة واقتربت بها من تلك الفتاة ووضعتها أمامها ونظرت بعينها فرأيت شيئاً من البراءة فيهما فقررت اعطائها فرصة ثانية.

عدت ادراجي لأجلس أمام المدفئة وقلت لها: كلي بالهناء والشفاء الطعام ساخن ولذيذ.

وقبل أن أجلس نادت هي عليّ قائلة: تعال وكل معي.

فالتفت إليها متعجباً مما قالت ورددت عليها: كلي أنت أنا لست جائعاً.

فردت هي بصوت ظاهره التمثيل واختلاق الأعذار: لن أكل وحدي ربما وضعت لي سماً في الطعام.

فقلت لها مستهزئاً: أجل ربما كنت على حق لربما البيض مسموم من يدري لربما الدجاجة تناولت قمحاً ملوثاٍ بالإشعاعات النووية.

عدت ادراجي وجلست أمامها على كرسي خشبي صغير اشاطرها الطعام نظرت إلي وقالت بهدوء تام: تستطيع أن تحضر البيض المقلي افضل مني.

أحسست بأنني يجب أن أرد بأي شيء عليها بما أنها تكلمت فلم أعرف ماذا أقول فقررت قول أي شيء يخرج على لساني وقلت لها : ولماذا لم تتعلمي الطبخ يا؟

نظرت إلى وجهها وقلت: أنا حتى الأن لا أعرف ما هو اسمك.

أجابتني بعد أن ابتلعت الطعام: ربا، اسمي ربا

ابتسمت قليلا بوجهها وقلت لها: أظن ان علينا أن نبدأ من جديد اسمي عزام.

فقالت متعجبةً: اسمك غريب، وقديم نوعاً ما أيضاً.

أجبتها قائلاً: عزام هو اسم والدي وأنا أحمل اسمه.

ردت هي بكل برودة أعصاب كأنها الثلج: لم أسألك عن اسمك أو اسم أبيك.

أكملت طعامي وأنا أقول: هل أخبرك احدهم انك فظة جداً؟

ابتسمت ابتسامة صغيرة تكاد لا ترى وقالت: أجل اخبرني أحدهم بذلك وأنا أصدقه.

انتهى صحن البيض وانتهى معه سبب جلوسي أمامها فنهضت من مكاني وجلست على الأريكة متكئاً ونظرت إليها وقلت لها: إذا يا ربا هل سوف تخبرينني من أنت ومن أين اتيتِ أم لا؟

ربا: وهل يهمك ذلك؟

أمسكت سيجارتي وانا أشعلها وقلت: طبعا يهمني الا تريدين العودة لمنزلك أو أهلك؟ ربما كنت على معرفة بهم وأستطيع أن أساعدك.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي