الفصل الثالث

قتلت والدته


وكأنه كان يعلم بما سايقوله أبيه، بل إنه بكلماته البسيطة هذه أكد له جميع ظنونه ليبتسم ساخراً من حديثه قائلاً له.

-يعني بعد كل تعبي ده عايز تخرجني برة الليلة كلها يا فرج بيه، طب بلاش عشان أنا إبنك الكبير،

بس حتى كنت راعي اني مهندس معماري وإن أنا صاحب الفكرة من الأساس،

طب بلاش دي كمان كنت راعي حتى تعبي وسفري في كل بلد شوية عشان أتفق مع كل المستثمرين دول،

وإن أنا اللي تفاوضت مع شركة مستر براد وجيبتو ليك لحد هنا يا بابا.

كلماته حقاً كانت مؤلمة لكنها صحيحة، فأبيه برغم كل ما يفعله له دائماً ما ينكر مجهوده ويفضل عليه أخيه،

ولا يسهو ابداً عن تذكيره بما يعكر صفو حياته بالكامل،

ليتوجه أبيه نحوه ويضغط على كتفه هامساً في أذنه مذكراً له بما لا يسهو عنه أبداً.

-و ماتنساش انت كمان إنك إبنها! فاكرها طبعاً وفاكر خاينتها ليا، أنا لولا أني متأكد إنك من صلبي كنت قتلتك زي ما قتلتها،

أوعي تاني مرة تسألني بفضل أخوك عليك ليه، أصل أمه مش....زي أمك فاهم كلامي طبعاً، ولا لسة عايزني أفكرك بالماضي.

-إنسى بقى يا بابا.

قالها صابر بصوتٍ جاهور يعبأ بكم رهيب من الألم ليكمل صارخاً.

-انت بتعاقبني على ايه، بتشيلني خطيئة غيري ليه، ما انت لسه بتقول اهو انا ابنك من صلبك وانت متأكد من ده، يبقى تكرهني ليه يا بابا؟

أمسكه من ذراعيه ضاغطاً بأصابعه على عظامهم بقوة وإذا به يزجره ويصرخ في وجه هاتفاً.

-بص لنفسك في المرايا وانت تعرف أنا كرهي ليك بيزيد يوم عن يوم ليه يا صابر،
لأنك كل ما بتكبر يوم ملامحها بتتحفر على وشك أكتر من اللي قبله،

أنا بقيت بشوف صورتها كل ما بشوفك قصادي، وفي كل مرة بمنع نفسي من أني أقتلك في آخر لحظة، امشي من قدامي مش عايز اشوفك دلوقتي.

نفض يده من على ذراعيه و زجه بعيداً عنه، ليعطي له ظهره و يتراجع صابر خطوة للخلف والدموع تتساقط من عينه،

ويا ليته لم يأتي للدنيا حتى لا يعيش طيلة حياته على ذكرى خيانة والدته، ويجني هو من العذاب ما لا يتحمله بشر.

جرى نحو الباب وإذا به يفتح عنوه حتى يهرب من عين أبيه الباغضة له،

ليتفاجأ مع من تحث أبيه دائماً بل وأكثر من تذكيره بكرهه له، ومن تكون سواها (درية) زوجة أبية

التي تصنعت عدم فهمها لأمرهم، وهتفت
بمكر.

-الله أنتو هتفضلوا قاعدين لوحدكم هنا ولا ايه،

ايه ده مالك يا فرج؟

ثم رمقت صابر بعين غاضبة وهتفت بصخب.

-عملت ايه تاني نكدت علي ابوك بيه يا سي صابر.

ابتسم ساخراً على كلماتها ثم ترجل للخارج وهو يهتف.

-أهو عندك تقدري تفرحيه زي ما انتِ عايزة.

صعد إلى غرفته مغلقاً عليه بابها، و جلس على فراشه يحل رباط عنقه قليلاً، حتى يريح أنفاسه من هذا الأختناق اللعين.

و مع أنهيار هذا السيل من عينيه، بدئت الذكريات المؤلمة تداهمه،

يضغط عليهم براحتيه مغلقهما وكأنه يمنع رؤية الماضي لكن دون فائدة،

تذكر زات يوماً عندما كان طفلاً ذو سبعة أعوام إنفزع من نومه على صوت صراخ والدته يعلو صوت تلك الطلقات النارية، التي أطلقها والده من سلاحه،

وفجأة صمت كل شئ حتى صوت أنفاسه، ليحاول التوجه نحو الباب وفتحه ليشاهدها ملقية ارضاً غارقة في دمائها وأبيه ينظر اليه بغضب وإذا به يهتف.

-قتلت أمك عارف ليه عشان خا... طية.

دق الباب أخرجه من شروده، صوت أخيه المرح دائماً دفعه بأن يهرب سريعاً إلى المرحاض الخاص به حتى يمحي أثار حزنه تحت المياه

قبل أن يدلف اخيه عنوه كما أعتاد، يستمع إلى صوته وهو منحنى أمام صنبور المياه

-بقى انت سايب الحفلة اللي لسة بادئة، والناس اللي عمالة تسأل عليك وطالع تقعد هنا، الله دا انت قلعت بدلتك كمان!

خرج من المرحاض وهو يجفف وجهه بمنشفة صغيرة وإذا به يلقيها في وجه أخيه ساخراً.

-مش خلاص مهمتي خلصت ومضيت العقود، عايزين ايه تاني مني.

عقد أخيه حاجبيه بعدم فهم متسائلاً.

-هو ايه اللي عايزين منك إيه تاني، إنت ناسي إنك المدير التنفيذي وإنك المهندس القائم بأعمال المشروع ده، يعني إنت اول
واحد لازم تكون ظاهر في الصورة يا صابر.

بإبتسامة ساخرة أعتلت جانب شفاه لكن دون أن يلاحظها أخيه الصغير، قائلاً له.

-لاء على فكرة مش لازم، انا المرة دي
هسيب الإدارة ليك انت يا حسن ولا انت ناوي تفضل عايشلي في دور الصغير كده كتير، وفرحانلي بإدارة الدعاية والتسويق.

إنزعج حسن من حديث أخيه الجاد وإذا به ينفي بتراجع.

-لا لا ماليش انا في التقايل دي، عشان خاطري يا صابر اوعى تجيب لابوك سيرة بالكلام ده،

و يلا قوم بقى إلبس الچاكت بتاعك، دا الناس كلهم عمالين يسألو عليك تحت.

إلتقط منه چاكته وبدء ي تديه على مضض، يتفاجئ به وهو يعطيه رابطة عنقه، امسكها منه ألقاها على الفراش وحل اول زرارين من قميصه وهو يهتف.

-مش هلبسها أنا أصلاً مخنوق خلقة.

تعجب حسن من هيئة أخية الغير منمقة، لكنه هتف بتباهي.

-وانت يعني كده وحشت نفسك، دا انت كده بقيت احلى من الأول.

ضربة خفيفة تلقاها من يد صابر على كتفه، ثم زجه أمامه مستهزئاً.

-طب يلا يا اخويا أتحرك قدامي.

ترجل للخارج سريعاً أثر تلك الدفعة التي تلقاها من أخيه، ثم لحق به وتوجه سوياً إلى هذا الحفل المهيب،

وقفو سوياً ينظرون إلى أبيهم، لكن كل واحد يعبر عن ما بداخله بنظرته،

حسن بنظرة ضاحكة، وكأنه يؤكد له أن كل شئ يسير على ما يرام.

وصابر بنظرة حزينة متحدية، وكأنه يقول له رغم كرهك لي وما تنتويه من إبعادي، إلا إني باقي رغماً عن أنفك.

وبعين ماكرة أومئ لهم، بأن يديرو الحفل وكأن شئ لم يكن.

ليجد صابر من تقترب منه، فاتحة معه الحديث وكأنهم أصحاب منذ زمن بعيد.

-أختفيت فجاءة كدة ليه يا صابر، روحت فين وسيبت ضيوفك والحفلة.

ضم صابر حاجبيه، ثم ألتفت لأخيه مستفهماً.

-هي البت دي عندها إنفصام ولا إيه، دا أحنا تقريباً كان ناقص نضرب بعض في الأجتماع.

ضحك حسن وتحدث عنها إعجاب قائلاً.

-على فكرة لي لي روحها حلوه اوى بتاخد على الناس بسرعة و..

قاطعه صابر ساخراً.

-يا حنين وإيه كمان يا حسن باشا اشجيني.

ليجدها تتمسك بيده بجرأة وتهتف بدلال.

-انا رقصت مع حسن، و استنيت عشان ترقص معايا بس إنت أختفيت، ممكن بقى أرقص معك على الموسيقى الهادية دي.

رفع صابر إحدى حاجبيه تعبيراً عن تعجبه ثم انحنى قليلاً بجانب اذنها هامساً وهو يتقدم معها إلى ساحة الرقص.

-طول عمري أعرف إن الراجل لما بتعجبه واحده هو اللي بيروح يطلبها للرقص لكن إن بنت تيجي وتقولي تعالى ارقص معايا دي بقى إسمها عندنا بجا.. حه.

كان يظنها ستغضب من نعته لها بهذه الطريقة، لكنها وعلى ما يبدو له أن ما يجري في شريناها ليس إلا دماء باردة، لتفاجئه بردها الجرئ.

-بس عندنا لما بنت بتعجب بشاب بتسيب بيت أهلها و تروح تعيش معاه، هي و هو بس لوحدهم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي