الفصل الثامن والعشرون

صبراً طويلاً


طال الخصام بينهم وطالت لياليه، لكن أمره ساري على عنقها كحد السيف،

مع أنهم ومن أول يومهم يبقون بجانب بعضهم حيث انه ينتظرها في أول الطريق ويأخذها معه إلى العمل، حتى أن يفترقا كل منهم في شقته، بدون اي حديث جانبي او شخصي لأي أحد منهم.

واليوم هو يوم حفل افتتاح فرع شركة السيد براد الجديد، و لقد أصر الرجل على أن يحضر الحفل جميع موظفي الشركة،

وبالطبع سيحضر الجميع، إلا هي هذا الحديث سيسري على كل الناس لكن مريم لا! لماذا لأن صابر يريد ذلك.

-انا عايزة اروح الحفلة دي،

-لاء مفيش مرواح حفلات.

-اشمعنى أنا ما وحش ما كل الموظفين رايحين.

-كل الموظفين اسمهم مش مريم.

-طبعاً أنت مش عايز تخليني اروح عشان ماكتشفش خيانتك ليا، وتحضن وتمسك وسط الست ليلي براحتك.

-بالظبط، ضيفي بقى على دول كمان اني بمنعك عشان الباشا الأجنبي مايسبش الناس كلها ويجي يتغزل في جمالك.

ظلوا يتناورن هكذا إلى أن عادوا إلى المنزل

وداخل شقته كان قد اغتسل وبدأ في تحضير ملابسه وقبل أن يشلح تلك المنشفة من على خصره، استمع إلى رنة هاتفه تنظره بإرسال الرسائل.

الأولى صورة لها وقد ارتدت فستان سهرة محتشم ورقيق و زينته حجابها مكياجها البسيط.

أما الرسالة الثانية كانت رسالة صوتية لها بصوتها وقد ظهر عليها البكاء.

-أنا مكنتش بشتري الفستان وحضرت نفسي كده عشان في الأخر تقولي مش هتروحي، أنا بقالي كتير ماخرجتش خروجة حلوة سيبني اروح بموافقتك عشان ماتتفجئش بيا وانا هناك.

بدء الغضب يتملك منه بعث لها رسالة بصوته المفزع.

-يعني انتِ كده خلاص جهزتي نفسك، فاهمة إنك هتمشي كلامك عليا مش كده، طب يا ريت يا مريم تقلعي وتهدي كل اللي انتِ عاملاه في نفسك دا، عشان أنتِ مش هتنزلي ومش هتروحي حفلات ماشي.

جائه الرد على الفور حيث أنها صرخت ببكاء.

-وانت مالك ومالي هاروح يعني هاروح انت مش اخويا ولا أبويا عشان اسمع كلامك.

هذه ثاني مرة تقولها له، ولكنه هذه المرة لن
يصمت على ثرثرتها أكثر من نزع تلك المنشفة
من على خصره وبدء يرتدي ملابسه على عجالة.

فتح باب الشقة وجدها تستعد هي الأخرى للذهاب لكنها تتسحب مثل اللصوص وكأنها أفتعلت فاعلة مشينة وجدتها تحاول اللحاق بها تنهيها عن ما تفعله.

وعندما رأت هيئته سرحت فيه قليلاً، لكن عينه الوحشي جعلتها تتراجع خطوتان للخلف،

وحين تقدم منها جرت للداخل، تختفي خلف جدتها تحاول الاحتماء بها ليجهر هو بصوته فيها.

-دلوقتي بتجري بتستخبى ورا جدتك مش كده، كل ما تكلميني تقوليلي لا انت ابويا ولا انت اخويا طب انا بقى

هعرفك انا من هنا ورايح هبقى مين بالنسبة لك يا مريم، أما اشوف هتتعدلي زي الأول وترجعي تسمعي الكلام ولا لاء.

لتحاول جدتها ارجاعه عنها وتهدئته قليلاً.

-استهدي بالله بس يا صابر، يا بني ما تسيبها تروح وانت برضه هتكون هناك دي عمرها ما حضرت حفلة زي دي يا ولا.

-ما انشالله ماعنها راحت يا تيتا، يعني هي الحفلات دي فيها أيه غير بنات عريانة وشباب سكرانة وخمرة وارف، عايزة هي تروح ليه وهي انضف منكل الناس اللي هناك.

-طب يا حبيبي ما انت هتكون معاها واكيد هتخاف عليها وتخلي بالك منها.

ليفاجئها هو بخوفه عليها من الآن حيث قال.

-وابويا كمان هيكون هناك، وكفاية عليا الحرب اللي هتدور بيني وبينه، دا ممكن يطلع سلاحه وعادي يضربني بيه، يبقى ساعتها اخلي بالي منها ازاي.

وهنا ظهر عليها خوفها أكثر، وزاد بكائها لكنها تخلت عن وقفتها خلف جدتها و وقفت أمامه منحنية الرأس.

-خلاص مش هروح يا صابر وهسمع كلامك، بس انت كمان خليك معايا هنا عشان خاطري أنا خايفة عليك يا صابر.

هذه المرة تراجع هو عنها ومازل الغضب حليفه إذ قال.

-بطلي بقى تستفزيني بكلمتك دي عشان انا خلاص جبت اخرى من هب.. لك ده واعرفي اني لو رجعت النهاردة هكلم عمك عشان امشي كل حاجة رسمي واعرفك انا هبقالك ايه طول عمرك اللي جاي.

قال كلمته وهرب من أمامها لتجلس هى على أول أريكة تبكي من شدة خوفها عليه.

ها هو يظهر بالحفل بجانب السيد براد، يستقبل ضيوف الحفل يعرفه عليهم.

الي ان حضر والده وزوجته وأخيه إلى الحفل وراه وقف أمامه وهمس له.

واقف جانب الرجل الأجنبي وكأنك ولده هو، وسايبني وسايب شركتك ومالك بتشتغل عنده بالأجرة يابن ال...

بكل هدوء وبرود تام اجابه.

-اسمها بشتغل معاه مش عنده، وبعدين لما اخد اجرتي على مجهودي وتعبي أحسن من اني اشتغل واتعب وابني في مواقع وشركات من غير مقابل يا فرج بيه.

استشاط النغاس غيظاً وعلى صوته هاتفاً.

دانت بتتحداني بقى يا ابن عزيزة، فاكر انك بقعدتك في بيت البت السكرتيرة بتاعتك دي

ولا بشغلك مع الاراجوز الأجنبي ده أنا كده غافل عنك، انا سايبك بمزاجي يا صابر،

لكن مش هصبر عليك اكتر من كده، من بكرة الصبح ترجع على شغلك في الشركة وترجع على البيت وسيبك بقى من البنت دي خالص،

لو حصل بينكم حاجة ارميها قرشين وتعالى اجوزك احسن منها،

وقف أمامه متحدياً يصرخ في وجهه.

-مريم انضف من اي واحدة انت تعرفها يا ابويا، انضف من مراتك درية نفسها،

وانت ادرى واحد هي عملت ايه وحرضتك على قتلها إزاى عشان تتجوزها.

و فجائة أصبحت أصابع يده تقبض على فم صابر وكأنه يريد أن يقولها له، أيها الوغد الصغير،

كنت على دراية كاملة بكل ما حدث، رأيت كل شئ وخزنته في ذاكرتك إلى الأن، صبرت وتحملت طيلة هذه السنين حتى يحين لك الوقت و تقف أمامي تتحداني تناظرني به.

لاحظ حسن والسيد براد تشنج يد النغاس الكبير على وجه إبنه الكبير.

جرى حسن وحاول الوقوف بينهم، يحاول إنزال يد والده عنه، بينما حاول السيد براد سحب صابر للخلف وانتشاله من يد والده.

-مس معقول اللي بتعملي دا سيد فرك سيبي سابر هو عملك حاكة دلوكتي.

لم يهتم احد لما يقوله هذا الرجل، لكن حسن هتف بقوة.

-بابا نزل ايدك عن صابر، وكفاية بقى اخويا لو جراله حاجة انا نفسي مش هقعد فيها.

هاهو يحل وثاقه ويبتعد عنه رابتاً على كتف حسن مبتسماً له.

-عشان خاطرك انت بس يا حبيبي.

ثم ألتفت الي السيد براد وجده يحنو على صابر يضمه بين ذراعيها مطمئناً عليه.

-إنتِ كويس سابر حبيبي مس كده، طمنيني عليكِ سابر.

هدء صابر من غضبه وأعطى الجميع ظهره محاولاً إزاحة دمعة التصقت ان لقت على وجنته.

-انا كويس سيد براد كويس.

وهنا استمع إلى والده وهو يهتف.

-طب بالمناسبة الحلوة دي بقى، أنا مش بس جاي النهاردة عشان اهنيك على افتتاح فرع الشركة الجديد،

لكن كمان انا يسعدني ويشرفني اني اطلب منك خطبة بنتك ليلي لابني.

تفاجأ براد لحديثه، ظن انه يريد خطبتها لصابر وفرح جداً ثم هتف بترحيب للفكرة وقد أتت ليلي ووقفت بجانب صابر فرحة جداً، ثم هتف السيد براد.

-تبعاً يسعدني جداً أنا أحب سابر وكأنه ابني، موافك يا سابر.

لينظر حسن إلى والده، يريد أن ينفي هذا الحديث قائلاً.

-لاء صابر ايه، ما تتكلم يا بابا عرفه انك تقصدني انا.

وهنا تحدث النغاس الكبير وهتف موضحاً الأمر.

-فهمتني غلط سيد براد، أنا بقولك إني جاي اخطبها لابني الوحيد و وريثي حسن النغاس.

ضحك صابر ساخراً وابتعد عن تلك الدائرة، وقد شعر أنه غريب في وسطهم.

وقال السيد براد وهو ينظر إلى إبنته.

-لكن انا كنت اظن أنك تتحدث عن سابر فهو إبنك الكبير و أنتِ لازم تدبر أمره أولاً.

ليومأ هو له جاريه في الحديث وهتف.

-أنا أدبر أمر اللي يطيع أمري و يمشي تحت إدارتي إنما اللي يعديني ويقف قصادي مالوش عندي غير الطرد.

الأن ماذا يقول السيد براد، يجب عليه أن يوافق الرأي وإلا سيخسر كل شئ.

نظر إلى إبنته فأعطته الجواب بالموافقة لكن الحزن كان يغيم على وجهها فارتسم هو السعادة على وجهه قائلاً.

-ليلى موافكة إذاً أنا موافك.

جلسوا جميعا على طاولة يهنئون بعضهم، بينما جلس صابر وحده على طاولة فارغة ينظر إلى عائلته التي لم يشعر يوماً أنه ينتمي إليها.

لكنه تفاجأ بيد حنونه تربت على كتفه.

-قاعد لوحدك ليه.

وقف بأدب ومد يده لها بالسلام، وحين لمس يدها ورأى نظرت الحنان هذه في عينيها همس.

-أهلاً مدام نور ومبروك على خطوبة ليلي.

ظلت صامته ثابتة على نظرتها الحنونة له، نظرتها هذه جعلته يتمعن النظر في وجهها جيداً، تلك السيدة مريحة بالنسبة له، كل ما يرها تذكره بأحد ما لكن من هو لا يعلم.

سحبت مقعد للخلف وجست عليه بجانبه وأشارت له بمعنى اجلس وبعد أن أطاع أمرها قالت له.

-الله يبارك فيك يا سيدي، بس مش تطمني عليك انت كمان.

ضم حاجبه بعدم فهم، وسئل.

-مش فاهم قصد حضرتك ايه.

-اقصد اني اطمنت على ليلي بنتي، ومن يوم ما شوفتك وانا اعتبرتك أبني انت كمان، متسالنيش ليه بس بجد أنت بالنسبة لي ابني الكبير اللي بحبه وبخاف عليه جداً.

كانت نظرتها له حنونة جداً جعلته يبلل أطراف أهدابه بدمعه ملتصقة بهم.

-ياه لو تعرفي أنا مفتقد الشعور دا اد ايه، كلامك دا انتظرته كتير من واحدة طول عمري عارف انها مش هترجع تاني للدنيا عشان تاخدني في حضنها.

حديثه معها جعلها تدمع عيناها هي أيضا، وما كان منها إلا أنها تفتح له ذراعيها وتستقبل بينهم وهي تحاول تهدئته.

-للدرجة دي مفتقد مامتك، يا حبيبي اعتبرني هي وتعالى اشكيلي همك في أي وقت.

هذا المشهد لم يمر هكذا مرور الكرام، بالطبع لن تفوته تلك الحرباء المتلونة، إذ نغزات زوجها لتنبيهه قائلة.

-فرج بص المنظر دا.

ألتفت هو بدوره حيث أشارت وإذا بدرية تبخ السم في أذنه هاتفة.

-الولية عجبها الواد وبتسحبه على الناعم يا فرج، و هو شكله متقبل الحكاية اوي.

عاد فرج بنظره لها وزجرها قائلاً.

-لو كل الرجالة فيهم العيب دا، صابر مش هيكون زيهم،

ليه متقوليش ان الست دي قدرت خلال اليومين دول تعمل اللي انتي معرفتيش طول السنين اللي عدت دي إنك تنجحي فيه،

زمجرت درية بغضب وقالت.

-اللي هو ايه بقى إن شاء الله يا سي فرج.

-انك تحتويه وتكوني ام تانية ليه،

لتسخر هي منه ومن حديثه قائلة.

-أم تانية لمين يا فرج، عايزني انا اكون بديلة لعزيزة اللي انت قتلتها بأيدك عشان كانت خا..طية، ولا عايزه هو يعاملني كأمه ازاي وهو طول عمره بيكرهني،

سيبك مني انا دلوقتي وركز في اللي بقولك عليه، الست دي وراها سر وإلا ليه تسيب بنتها في فرحتها دي وتروح عشان تقعد جنب صابر تواسيه.

آه أيتها الحية اللعوب لقد نجحتي في إدخال الشك في رأسه، جعلته يرتاب فعلاً في أمر تلك المرأة.

-تصدقي معاكي حق يا درية، ازاي واحدة زي ماتفكرش حتى أنها تيجي وتسلم على ضيفوها، دي حتى ما حاولت تسئل ايه اللي بيحصل لابنتها.

لمحت درية زوجها براد وهو يذهب إليهم.

-بص اهو جوزها راح ليهم، إلحق يا فرج، دا هو كمان بياخد الواد في حضنه، الناس دي بتسحب ابنك من تحت جناحك يا فرج.

- وتفتكري ايه اللي ممكن اعمله دلوقتي مش ده اللي انتِ كنت عايزاه، ان صابر يبعد عني سبيه بقى اما نشوف هيقدر يبني نفسه لوحده ولا هيهدها.

- انا كل خوفي بس يحرضوه انه يعمل حاجه ضدك انت او ضد ابني حسن.

- هم يعملوا حاجه زي كده ليه دول ناس أجانب لا يعرفونا ولا نعرفهم، هما كل اللي ليهم عندنا شغل وبس

مشاريع ودخلنا معاهم فيها هنشتغلها وبعد كده خلاص، بنتهم هتبقى مرات ابنك وده كل اللي ليهم عندنا.

- مش عارفه احساسي مش مطمني وحاسه ان الناس دول وراهم حاجة.

-بكره مش بعيد ومسير الأيام تعرفنا المستخبي.

-يا خوفي المستخبي دا يكونوا بيقسوا عليك.

سخر فرج من كلمتها إذ قال.

-لاء وهو محتاج حد يقسية اوي يا اختي.

أما ليلي فكانت ترقص مع حسن وترسم السعادة على وجهها، لكن عيناها كانت عليه هو،

تريد أن تذهب أليه وترجوه مرة ثانية تقولها له أنا أحبك أنت، لكن ما فعلت
ذلك إلا بسبب ابتعادك أنت عني.

-ليلي!

كان هذا صوت حسن الذي كان يرقص بها وهي تتحرك بين يديه كعروسة من عرائس الماريونيت.

-ها بتقول حاجة يا حسن.

-بقول إني شايفك مش مبسوطة، مع اني فرحان جداً الخطوبة دي.

-حسن إنت لازم تصالح باباك على صابر مش معقول تفضل سايب أخوك زعلان كده.

توقف حسن عن الرقص، لكنه ظل ينظر لها بعدم فهم.

-صابر! انا بكلمك عن فرحنا وانتِ بتقولي لي صابر.

حديثه جعلها تدرك ما قالته، حاولت أن تبرر موقفها قائلة.

-يا حسن انت مش فاهم اخوك تعب معانا الفترة الذي فاتت دي اد ايه، وكمان بصراحة صعبان عليا أن هو يكون بيحاول يقنعني بجوازي منك وانت مابتفكرش فيه اصلاً
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي