الفصل التاسع عشر

ديشا


تفاجأ بما اردف به ذلك الطفل، ثم تبادل النظرات بينه وبين طفله الصغير، ليتخلى عن وقفته ويذهب نحو هذا الرجل الذي يجلس على مقعده ويضع قدماً فوق الأخرى يدخن الارجيلة.

-السلام عليكم يا حاج.

كانت عين الرجل تتبعه من وقت ترجله من السيارة الى ان توقف أمامه.

لينظر اليه من الأعلى إلى الأسفل مقيماً هيئته المنمقة جيدا

-يا مرحب يا استاذ خير حضرتك بتسال عليا .

تعجب من طريقته معه كان يظن أنه سيرحب به لكنه فاجئه بجفائه معه.

-هو حضرتك ماعندكش فكرة اني جاي أجر الشقة الي عندكم في البيت ولا ايه

انا صابر زميل الانسة مريم في الشركة.

تبدل حال الرجل من النقيض إلى نقيض آخر حيث ابتسم له ووقف تاركا لي الارجيلة من يده.

-يا اهلا وسهلا يا استاذ صابر لا مؤاخذة يا أبنى اللي ما يعرفك يجهلك اصل يعني شكلك والعربية مايقولوش انك واحد مش عارف يلاقي سكن غير هنا في حتتنا دى.

بالفعل هذا الرجل ليس بهين وعليه ان يتوخى الحذر ويركز فى الحديث معه جيدا.

-ماله شكلي بس يا حاج عامر انا مهندس في شركة كبيرة ولازم اهتم بمظهرى كويس اوى عشان اقدر احافظ على شغلى اما بقى العربية فانا جايبها بالقسط عشان اشتغل عليها و اقدر ازود دخلي وهي حاجة تساعد في المعيشة.

حديثة المرتب اقنع الرجل ولذلك ربت كتفه مرحبا به.

-ونعم الشباب يا بني اتفضل يا حبيبي احنا مش هنتكلم فى الشارع كده .

ثم أمر ولده الصغير هاتفا.

-ولا يا مصطفى خلي بالك من عربية عمك صابر ياض اوعي حد من العيال يجي جانبها ولا يجرحها.

هتف الصغير من خلفه وهو يركل الكرة.

-حاضر يا بابا.

ابتسم صابر له ثم لحق بوالده.

-مشاء الله عليه ابنك

ليهتف الرجل متفاخراً بنفسه.

-اه الحيلة جاي على تلات بنات بعد شوقة والله يا استاذ، سميته على اسم المرحوم اخويا الكبير ابو مريم، بس مايغركش ان عمك رجل عجوز، لاء دا دا الدهن في العتاقي برضه.

ضحك صابر رغماً عنه واكمل صعوده معه وهو يشاهد هيئة البيت من الداخل.

-ربنا يديك الصحة يا عم الحاج.

توقف عند أول شقة قابلته بعد صعود الدرج، ثم زج الباب الذي كان شبه مفتوح قليلاً بيده وهو يحمحم بحنجرته.

-يا ساتر.

بت يا مريم، انتِ فين يا اما.

ظهرت في الأجواء إمراءة عجوز مسنة بدينة بعض الشئ لكن ووجهها ابيض بشوش، لكنها تشبه مريم كثيراً.

-تعالي يا عامر ادخل انت وضيفك مافيش حد هنا غير مريم.

ولجو إليها وجلس عامر على الاريكة، بينما وقف هو أمامها صامتاً.

-أنت صابر؟

كان هذا أول حديثها معه، ولا يعلم لماذا ارتاح معها في الحديث

-تعالى يا ولا بوس أيدي وسلم عليا.

أطاع أمرها، وانحنى على يدها يقبلها

لتربت هي على رأسه بحنان هامسة له.

-نورت بيتك يا ابني.

رفع رأسه وضم حاجبيه لها، فبادلته بإبتسامة

قائلة بصوت مرتفع يصل إلى إذن ولدها.

-خد بإيدي يا ولا يا صابر وتعالى اقعد هنا جانبي.

من المؤهلة الأولى له، شعر بالانتماء لتلك السيدة، لكم أحبها وأحب الجلوس بجانبها.

-نتكلم بقى في الجد يا باشمهندس.

انتبه إلى حديث الحاج عامر وقد وجده قد وجد نبرة صوته قد تغيرت للجدية فأردف له.

-اه طبعاً اتفضل يا حاج انا معاك في اي حاجة.

-دا ايه يا خواتي الأدب دا كله، طب اقوله ايه انا دلوقتي يا اما.

وجد السيدة العجوز تبتسم له وتربت على يده قائلة.

-والنبي انا لو منك ما انطق بكلمة واحدة، واطلع مفتاح الشقة و اديهوله كمان.

ليضحك عامر بصوت عالي ويصرح له بما في داخله.

-والله ان كان عليا انا مش ممانع، بس متاخدنيش يا بني أحنا ساكنين في حتة شعبية، والبيت في حريم و اربع بنات أكبر واحدة فيهم مريم،

وانت يعني اعذرني يا بني راجل غريب وجاي تسكن بطولك.

-هي مريم مش قالتلك على ظروفي يا عم الحاج.

أكد له الرجل وقال مبرراً.

-ايوة قالتلى بس انا عايز اسمعها منك انت لمؤاخذة عشان يبقى كلام رجالة، ولو أهلك ماجوش بعد شهرين من دلوقتي ماتزعلش مني بقى لما اسحب كلمتي معاك.

أومأ له بالموافقة هاتفاً.

-ايوة طبعاً معاك حق في كل كلامك وإنشاء الله أكون عند حُسن ظن حضرتك فيا.

-تمام و التلات آلاف جنيه اللي بعتهم مع مريم اعتبرهم تأمين للعفش اللى جوه الشقة

وكده يبقى في ألف تاني إيجار الشهر الأول.

تفاجأ بما يقوله هذا الرجل، وعقد حاجبيه هو لم يعطيها اي مال فمن أين دفعته لعمها،

ولماذا لم تقل له شئ عن هذا التأمين، كان متفق معها بأنها ستدفع مبلغ الأيجار لنفسها والأن يتفاجئ بأن عمها يأخذ الأموال لنفسه.

-لاء هو انا في الحقيقة....

قطعت حديثه عندما سقطت من يدها صينية تحمل عليها أكواب الشاي الزجاجية الساخنة.

صرخت وتأوهت من شدة السخونة التي سقطت على عبائتها السوداء لتحرق جلدها الرقيق.

-حاسبي يا مريم.

قالها منفزعاً من جلسته ثم انحني بجزعه نحوها يلملم بقايا الزجاج خوفاً عليها.

-جرالك حاجة قومي سيبي الازاز دا من إيدك.

جحظت عيناها و انتفضت للخلف عندما استمعت الى صياح عمها يأتي من الخلف.

-قومي يا بت ادخلي جوه.

اطاعت امر عمها وقررت النهوض بينما هزت له راسها يمينا ويسارا بالنفي حتى لا يتحدث معه بشئ.

فهم هو إشارتها له وانحنى أكثر على الزجاج ليجمعه وهو يستمع لصراخه عليها.

-ايه حتة صينية مش عارفه تدخلي بيها دول حيالا كوبيتين شاى هو انتي شايلة خروف.

بعين دامعة جاوبته

-محصلش حاجة ياعمى انا اتكعبلت في السجادة بس وهادخل اعمل ليكم غيره حالا اهو.

-لا متعمليش حاجة وانت سيب اللى فى ايدك ده قوم يلا عشان افرجك على الشقة علله ماتعجبكش ونخلص.

تعجب من تقلب مزاج هذا الرجل لابد أنه يخلف وراءه سر ما والا لماذا تخشاه لهذه الدرجة.

اعطاها تلك الصينية في يدها ورمق هذا الرجل بنظرة غاضبة ثم أتبعه مستأذنا منها هي وجدتها.

فتح الحاج عامر باب الشقة المقابلة لهم ودلف قبله هاتفا.

-تعالى يا باشمهندس ادخل برجلك اليمين واتفرجى براحتك شقة حلوة ونضيفة ومفروشة كمان عفش مية مية والله مش عارف انا وافقت البت مريم واجرتها لك بباكو واحد ازاي بس يلا زي بعضه نراف بظروفك.

بعلامة السخرية ارتفع جانب شفاه العلوي واردف له بسخط.

-كتر خيرك يا عم الحاج.

-كتر خيرى ماشي ادخل تعالى.

ها هو يغلق هذا الباب اخيرا عليه ويتنهد بارتياح دلف للداخل وقد قرر أن يستقر داخل غرفتها الصغيره

يستمع إلى حديثها مع جدتها القادم إليه من غرفة الطهي.

-بس بقى يا تيتا بطلي تقوليلى معلش دي يعني يرضيكي كل شوية يهين فيا كده.

-اه يرضينى يا عين امك مش انت اللي رميتي الصينية من ايدك عشان تنبهي المحروس بتاعك.

اندهش على سخرية تلك العجوز التي كانت تتحدث وهي تضحك هي إذا تعلم ما بينهم بل و ترحب به ليبتسم هو ايضا وينصت إلى باقي حديثهم.

-يا لهوي منك يا تيتا هو انا معرفش اتكلم معاكي كلمتين جد ابدا وبعدين تعالي هنا هو ايه اللي تعالي يا ولا بوس ايدي انتي فاكره مصطفى وها تديله عسلية ولا ايه.

ضحكت العجوز على صخبها منها واذا بها تضربها علي مؤخرتها.

-عارفة يا بت انه مهندس اد الدنيا وحليوة كمان وعايق فى نفسه بس على مين احنا لوزتنا كان مقشرة وريني جمالك وجمال شعرك يا روح ستك.

-طريقتها في الحديث عن جمالها جعلته يقترب أكثر من تلك النافذة ليسرق نظرة عليها.

ويلا جمال تلك النظرة اخيرا ما رآها بكامل هيئتها المنزلية الخاصة

ردائها الواسع الفضفاض كان يخفي عن عينه جمال قوامها الممشوق وحجابها الذى كان يزين وجهها

قد اخفى ذيل الحصان الكثيف الاسود كا اليل والذى يتخطى جزعها العلوى جعله يقف كالمسحور أمامها وهي تطهو الطعام وتناقش جدتها بضجر.

-والنبي بطلي هزار بقى يا تيتا انا بجد تعبت من طريقته دي مش كفاية اني بديله فلوس الايجار اللي المفروض انا اخدهم ليا.

-طب معلش حقك عليا انا اسكتي بقي يا مريم، احسن مراته الارشانة دى تسمعك وتروح تقوله، يلا خلصي الاكل عشان تغدي صابر تلاقيه يا روحي جعان دلوقتي.

نظرت اليها بغضب وصاحت.

-روح مين يا ستوتة دا روحي انا.

لتشهق منفزعة وتسقط أرضا حين التفت و رأته يقف في مقابلها يهمس لها بعشق.

-انتِ اللي روحي وقلبي كمان.

لتندهش جدتها من سقوطها الغير مبرر هذه المرة.

-بت يا مريم انتِ ايه اللي جرالك يا بت، كل شوية توقعي كده يا مخبلة انتِ.

تصنعت هي الخوف وقالت.

موقعتش يا تيتا دا انا زي اللي شوفت حاجة بتجري تحت الترابيزة.

-حاجة ايه اوعي يكون فار اضربيه بالش... يا بت.

-طب اقفلي الشباك الاول.

-اقفله ليه سيبيه مفتوح يمكن يمشي.

-مش هيمشي دا متحرش ومتلصص، اسمعي مني انا عارفاه كويس.

ليسقط هو أيضاً في الأرض، يحاول ان يكتم ضحكاته على خجل حبيبته منه وما تفوهت وتشينه به.

ظل يحبو على ركبتيه الي ان ترجل من غرفة الطهي ومنها إلى باب الشقة.


ترجل هو إلى سيارته حتى يجلب حقيبة ملابسه منها تفاجئ بهول المنظر.

ذلك الجرو الصغير ماذا فعل بها. هل هذا ما وصاه به والده، لقد قال له ان يحافظ عليها ويبعد عنها الأطفال،

الأن هو من يخرب عجلاتها ويفرغ منها الهواء.

سحقاً لك أيها الشقى، لقد بدئت اتوجس الخيفة من عقلك الصغير.

كان الصغير منهم جداً في تفريغ الهواء، ويتلفت سارقاً النظرات من بين الحين والأخر،

إلى أن وجد ظلاً يحجب عنه الضوء ويغطي جسده بالكامل.

ليرفع رأسه مستدير قليلاً ليراه ينحني عليه كليث جائع وعندها هتف صابر.

-فضيت العجلة انا بقى هانفخك.

-زعر الصغير واستند بظهره على عجلة السيارة ثم افتعل معه مكيدة اخرى،

حيث نظر خلفه واذا به يهمس.

-بص يا بابا.

أعتدل صابر سريعاً ليشكيه لوالده، فجرى الصغير داخل البيت وهو يصرخ.

-يا مريييييم الحقيني يا مريم.

من لهفتها وخوفها عليه جرت سريعاً وهي تقول.

-مالك يا ديشا في ايه يا حبيبي.

-حوشيه عني يا مريم دا هينفوخني بدل العجلة.

تعجبت مما قاله الصغير الذي تملص من بين يدها وجرى للداخل ثم تسائلت.

-ينفخك! هو مين دا يا يواد وانا ازل أفرج عليه الدنيا قال ينفخك قال ليه هي سايبة.

-اه سايبة وأنا بقي اللي هانفخك انتي وهو يا مريم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي