الفصل الحادي عشر

تدبير الخطة وإحكامها

كتمثال من خشب تحول جسدها، وجهها الأحمر فجاءة أصبح بلون الثلج، التصقت بمقعد السيارة ولم يحيد نظرها عن الزجاج الأمامي تعبيراً عن شدة خجلها.

-صابر كده على طول، عشان قعدنا اكلنا مع بعض شيلتي الألقاب بينا يا مريم.

لم يكن يقصد إزعاجها أكثر من أن يرى خجلها المحبب اليه.

-أنا اسفة خرجت مني كده غصب عني، أنا طول عمري كده مدب وبقول الكلام من غير ما افكر فيه.

كان يريد أن يفرحها الأن، لا يعرف لماذا لا يقول ما يكمنه بداخله لها.

-انتِ الوحيدة التي تملكين قلبي ولكي ان تتحدثي كما تشائي.

لكنه ابتسم على خجلها وادار محرك السيارة في صمت، كأنه يؤكد لنفسه أنه لم يحين الوقت للإفصاح عن ما بداخله.

وبعد مدة ليست قصيرة من الوقت، وصل إلى الحي الذي تسكن فيه وقبل أن يسلك طريقه بين الشوارع هتفت.

-بس أقف هنا لو سمحت.

اندهش من خوفها وتلفت حوله قائلاً.

-هنا فين انتي ساكنه هنا على الطريق.

-لاء طبعاً انا ساكنه بعيد عن هنا جوه الحي نفسه، بس بالله عليك ما تتحرك خطوة كمان انا مش عايزة فضايح ليا انا وجدتي.

امسك هاتفه وفتحه وهو يحثها على التحدث.

- انا مش فاهم انتِ خايفة كده ليه، طب هاتي رقم باباكي وانا اكلمه أعتذر له على تأخيرك ده واخليه يجي ياخدك من هنا.

-انا بابايا ومامتي مايتين يا باشمهندس.

تفاجأ بردها وصوتها الحزين، هي والداها متوفيين، ليس عندها أخوة وتعيش مع جدتها فقط،

إذاً لها كل الحق أن تخشى من كلام الناس.

ليربت على كتفها الرقيق برفق.

-انا ماكنتش اعرف كده، اسف اني فكرتك بحاجة زي دي.

سحبت يدها من أسفل راحته برفق وابتسمت له موضحة.

-لاء عادي ولا يهمك الحكاية دي قديمة قوي، المهم قولي انت هتعمل ايه دلوقتي.

تنهد بصبر متذكراً حاله.

-مش عارف والله يا مريم بفكر ارجع الشركة تانى، وبقول لازم ارجع البيت عشان اغير هدومى دى .

أومأت له بهدوء، التفتت لتفتح باب السيارة، ثم عادت بوجهها إليه وكأنها تذكرت شيئاً ما.

-تجي تسكن عندنا.

-أنتِ عبيطة يا بت.

كان هذا رده بكل بساطة عليها ليكمل ثائراً.

-منين خايفة أوصلك لحد البيت، ومنين عايزانى اسكن عندكم.

ضحكت رغم عنها بصوت مرتفع، لتظهر له جمال وجهها الملائكي وهي تضحك لتصمته قائلة.

-استنى بس أنا مش قصدي كده خالص، بص أنا وجدتي عايشين في شقة واحدة، وشقة ابويا قصاد شقتنا ،

وعمى ساكن فوقينا في الدور التاني بيأجر لي شقتنا كل فترة وانا اللي باخد الإيجار دا وهي دلوقتي فاضية فانت ممكن تيجي بقى تأجرها منه.

فكر قليلاً ثم قال بخزي.

-يا سلام يا فالحة طب ومقدم الإيجار بقى هجيبه منين.

كادت ان تولل وتفتعل الحركات، بحركة سريعة من يدها.

-لاء اطمن المشكلة مش في كده، المشكلة إن عمي ممكن يرفض أساساً لأنه مش بيسكن غير عائلات، أقوم انا بقى ادخل عليه بحضرتك وأقوله سكن المدير بتاعي في شقتي.

فكر قليلاً ثم قال.

-انا لو مكانه طبعاً هرفض، طب إيه رأيك لو قولتي ليه مثلاً إني زميل جديد ليكِ في الشركة، ومنقول من اسكندرية وبدور على سكن.

وضعت راحتها أسفل ذقنها واستندت
برسغها على نافذة السيارة المفتوحة بتفكير.

-هي فكرة حلوة بس تفتكر هيرضى بيها برضه.

هذه المرة هتف بجديه وبوجه محتد، وجدته يقترب منها وإذا به يفتح بابها ويزجها خارج السيارة.

-برضه لاء يا مريم وهيبقى معاه حق لو طردني من بيتكم اصلاً يلا بقى اتفضلي روحي مع السلامة.

ضحكت على حدته وغضبه ترجلت خارج السيارة وهي تمزح معه.

-طب خلاص ما تزقش كده، انا غلطانه اصلاً اني بفكرلك خليك بقى بايت في عربيتك دي،

بس اوعي تصحي من النوم تلاقي نفسك نايم على الرصيف والعربية مش موجودة يا باشمهندس سلاااام.

ابتسم لها على مزحتها وبعد أن ابتعدت قليلا صرح بها.

-سلام يا قلب الباشمهندس.

ظل متوقفاً ينظر إليها حتى ابتعدت عنه، فترجل من سيارته واغلقها، ثم مد الخطى يتتبع أثرها حتى يطمئن قلبه عليها.

كان معها كل الحق من أن تحذره وتخشى الولوج معه إلى ذلك الحي،

فهو حي شعبي بسيط، ممتلئ المقاهي والمتاجر صياح الشباب وصوت الأطفال يعج في كل مكان فيه،

كانت هي تسير على مرمى بصره منحنية الرأس وكل الأعين مسلطة عليها بإندهاش، وكأنها عارية الجسد.

وحين لمحها تتوقف أمام بيت عتيق، شاهد رجلاً خمسيني في العمر، يسد عليها الطريق ويقف يعنفها.

بدء يشعر بالغيظ منه، بل كاد ان تقوده قدميه سريعاً ليقف يتصدى له، لكنها جرت
للداخل فأضطر أن يعود إلى سيارته بحزن.

-شكلك بتعاني من نفس القسوة ومخبيه عليا يا مريم.

جلس على مقعد السائق داخل سيارته وأغلقها عليه مستعداً للرحيل، ليصدح هاتفه رنيناً عالياً معلناً عن إتصال غير مرحب به الآن.

-ألو

-انا قولت انت هربت ومش هترد على تليفوني.

-عايز ايه مني تاني يا بابا.

-عايز اعرف ابني الكبير فين لحد دلوقتي، ايه مش من حقي أسألك أنت فين يا ح....

ابتلع غصته في قلبه واستقبل إهانته بحزن، ليلقي عليه بسؤاله المعهود.

-ويا ترى بقى إبنك الصغير رجع البيت يا بابا، ولا حتى فكرت تتصل بيه وتسمعه الكلمتين دول.

-ابني الصغير مابيفكرش يخرج عن طوعي، ولما بيتاخر ببقي عارف انه سهران سهرة حلوة لكن انت بقى زي أمك،

كل تفكيرك ازاي تهرب مني وتسيبني وبس، قدامك نص ساعة والاقيك قصاد عيني هنا في البيت.

اغلق الهاتف بعنف دون أن يجيبه، ليهتف مصرحاً بضجر.

-أمك أمك أمك، يا أخي ارحم امي بقى، دا انا لو بنت مكنتش هتسمعني الكلمتين دول كل شوية اوف.


في أقل من نصف الساعة كان يقف أمامه داخل البيت يسمع كل توبيخاته بوجه بارد ولا يجيب بكلمة واحدة، حتى اشتد غضب فرج وهتف منزعجاً فيه.

-مالك ياض واقف زي الصنم كده، بقالي ساعة بكلمك وانت ما بتردش ليه.

-عايزني اعمل ايه يا بابا، حرام عليك بقى سيبني في حالي، انا تعبان طول النهار ما قعدتش لحظة، وانت عمال تزعق فيا على ايه مش عارف

قولتلي تيجي على البيت واديني قدامك اهو واقف في جحيمي اللي كرهته من كتر اللي بشوفه فيه، اعمل ايه تاني يا بابا.

بضربة يده الغليظة ظل يدق على جانب رأسه بعنف معلقاً على كلامه.

-تقولي دماغك دي فيها ايه يا صابر، بتدبر ايه من ورايا عارف لو عملتها أنا مش هرحمك فاهم مش هرحمك.

ابعد رأسه عنه أعطاه ظهره ليصعد إلى غرفته وهو يصيح وإنت يعني كده راحمني، تصدق من كتر تفكيرك من أني امشي َاسيب البيت ده هتخليني اعملها بجد.

صعد من أمامه إلى غرفته ليتقابل على الدرج مع أكثر إنسانه ينبذها في هذه الحياة.


-الله انت طالع على اوضتك من دلوقتي ليه يا صابر مش هتتعشى معانا.

اعتلى جانب شفاه العلوية بعلامة السخرية ورمق ابيه والده بنظرة صاخبة ثم اكمل صعوده.

-وفري حنيتك دي لأبنك يا درية، واتصلي بيه هاتيه يتعشى معاكي، اصل ابويا مش فاضي يهتم بحد غير بيا أنا بس.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي