الفصل الخامس

بداية اليوم التالي لهذه الليلة، والتى مرت عليه كظهر من الزمن، حيث قرر مع ذهاب أخر ضيف من ضيوف ذلك الحفل، أن يعتزل الجميع،

وبالأخص والده قرر أن لا يحتك به نهائياً وصعد إلى غرفته مغلقاً بابها عليه،

ومع بزوغ شمس اليوم الجديد كان هو قد إرتدى ملابسه على عجالة، وفي غضون لحظات كان داخل سيارته متجهاً إلى مقر عمله في شركة والده.

وبعد وقت وجيز كان جالساً خلف مكتبه، يسند جبينه براحتي يديه ويبدو على وجهه النعاس.

لتظهر من العدم تلك التي أعتادت على لقائه في باكرة كل صباح، إنها سكرتيرة مكتبه الخاصة، تلك الفتاة ذات الوجه الملائكي المزين بالحجاب والجسد الممشوق المغطى بالثوب الطويل

(مريم) هذا هو أسمها،

دلفت من باب المكتب بكل هدوء، وذهبت بإتجاه النافذة لتغلق ستارها حتى أظلمت الغرفة بالكامل، وكأنها مبرمجة على فعل هذا كل يوم، إلتفت خلفه تماماً بهدوء تام ربتت على كتفه مرتين وهمست.

-باشمهندس صابر أنا هنا.

بدوره إنتبه لصوتها الحنون، وقف متثائباً بنعاس وهو يخلع سترته ويعطيها لها.

-جيتي بدري أوي النهاردة يا مريم.

أخذت من يده چاكته وابتسمت وهي تعلقه على مشجبه، قائلة له وهي تراه يتمدد على الأريكة.

-مع أني عارفة إن حضرتك كنت سهران في الحفله امبارح بس محبتش أتأخر عليك، بصراحة خوفت تيجي بدري وتحتاجني ماتلاقنيش.

كانت كلماتها صادقة مغلفة بالعشق، لكنه قد غفي ولم يشعر بها، بل و ردد بكل برود.

-براڨو عليكي يا مريم، طبعاً انتي عارفة هتعملي ايه دلوقتي.

أومئت له برأسها و ترجلت من الغرفة موصدة عليه الباب بمفتاحه ثم جذبته من موضعه ودثرته داخل حقيبتها، وجلست خلف مكتبها تباشر عملها بهدوء تام،

وبعد مرور ساعتين أو أكثر كانت الحركة قد كثرت في المكان،

وحضر الأب او بمعنى أصح رئيس مجلس الأدارة إلى عمله، وكان الصغير المدلل بالطبع حليفه وبدء كل منهما يتجه إلى مكتبه،

وفي أثناء مروره في الرواق الطويل توقف لينظر في إتجاه غرفة مكتب ولده الكبير ليجده مازل موصوداً، فأشار لتلك الفتاة بأن تتبعه.

فهمست لنفسها دون أن يلاحظ أحد.

-سؤال كل يوم، قويني يا رب.

دقت دقة واحدة و دلفت إليه لتواجه الإعصار وحدها.

-هو فين؟

سؤال سهل وبسيط، لكن إجابته ليست هينة ومن يسأله أصعب.

-هو مين حضرتك؟

هكذا كان ردها لتقابل ما هو أصعب بكثير.

-انتي هتستعبطي يا بنت إنتِ، هو انا بسألك على حد غيرو كل يوم.

تظاهرت بعدم الفهم للحظة، ثم أجابته وهي تتصنع التذكر.

-أه حضرتك تقصد باشمهندس صابر، دا لسة مجاش يا فندم.

وهنا دق فرج النغاس يده بعنف على زجاج مكتبه، وكادت ألهبة النيران أن تخرج مع زفير أنفاسه وهو يصيح بغضب.

-يعني إيه! كل يوم بيخرج مع طلوع النهار، وأقول يمكن بيجي على هنا وأجي ملقهوش والشغل يتعطل بسببه،

بيروح فين اكيد انتي تعرفي كل حاجة دي كل أسراره معاكي إنتِ ومراد.

من كثرة ضغطه عليها وأرتفاع صوته، دمعت عيون الرقيقة و أحنت رأسها وهي تقول بصوتٍ خفيض.

-صدقني يا فندم أنا ماعرفش حاجة، وأنا أكون مين يعني عشان الباشمهندس يحكلي أسراره

-إنتِ كدابة

صاح بها فرج وهو يكاد رأسه ينفجر من الغضب ليكمل لها أمراً.

-عارفة لو كنتي تعرفي حاجه عنه ومدرياها عليا أنا مش هكتفي إني أخصم من مرتبك لاء دانا هرميكي برة الشركة بحالها، أتفضلي على مكتبك ولما البيه يظهر خليه يشرفني هنا.

بكلمة واحدة أجابته وهي تهرب سريعاً من أمامه.

-حاضر يا فندم.

أقتربت الساعة من الحادية عشر، وهو مازال غافياً بالداخل، أما بالخارج فقد أقترب البركان من فوهته

و أوشك إعصار النغاس على أن يأكل الأخضر واليابس،

هناك امرٍ غريب يحدث، تضارب أسهم مجموعة الشركات داخل البورصة العالمية في النازل، ولا أحد يقوى على فعل شئ،

وفي وسط كل هذا الصخب وهذه الهرجة، تسحبت هي بكل هدوء و دلفت إليه لتوقظه بوجهها الحزين.

-صابر بيه يا باشمهندس.

فتح عينه لتتقابل مع عيونها الباكية، وبدون أي نقاش او جدال او حتى إستفهام عن الأمر، أعتدل جالساً معتذراً لها.

-أنا آسف حقك عليا.

دارت عيناها منه ونفت أعتذاره بكذب.

-على إيه بس ماحصلش حاجة خالص.

هب واقفاً متجهاً نحو المرحاض الخاص بغرفة مكتبه ليغسل وجهه وهو يضحك على كذبتها الفاشلة.

-فعلاً بأمارة ما العياط معلم في خدودك أهو.

رغماً عنها أبتسمت وفرحت من داخلها على مزحته معها.

-طب والنبي استعجل شوية أحسن الدنيا والعة برة وأبوك حالف ليرميني برة الشركة لو عرف إني بداري عليك.

كانت قد أتت له بچاكته، و وقفت تنتظر خروجه وهي محتضناه بين يديها، لتسمعه من الداخل يتساءل.

-وليه دا كله يا ترى، أكيد ماوحشتش ابويا للدرجة دي.

تنهدت بحب وهي تستنشق عبير عطره العالق في ما بين يديها ثم قالت وهي مغمضة العينين.

-لا وانت الصادق متهيألي إنه يسامح في اي حاجة إلا اللي بيحصل دلوقتي، ابوك خسر في الساعتين دول ملايين الدولارات، بقولك الدنيا والعة برة.

فتحت عيناها وجدته يقف أمامها مباشرةً، يضع يدية في جيوب بنطاله ويراقب تعبيرات وجهها الجميل،

ليلتقط منها چاكته ويضعه على المشجب مرة أخرى، و بحركة سريعة من سبابته داعب وجنتها ضاحكاً.

-أنا اللي قايلها تولع يا بت.

ثم ولي مترجلاً للخارج تاركها تضع راحة يدها على وجنتها وتنظر إلى طيفه بكل حب.

بساعة واحدة خسر النغاس ملايين الدولارات، ليلتفت إلى صغيره المدلل ويهتف.

-شوفلك حل يا حسن، اخوك في المواقف دي بيعرف يتصرف، و كل مرة بسهولة ويطلعنا منها من غير خسارة وانت واقف خايب ليه.

شمل حسن جميع من بالغرفة بنظرة مرتجفة وإذا به يقول.

-اعمل ايه يا بابا انا اخاف اخد قرار ببيع الأسهم تيجي بعد كده تقولي خسرتنا.

-خايف تاخد قرار غلط يا إبن درية، يا خيبتك في ولادك يا فرج يا نغاس، مستنين إيه شوفولي صابر فين، هاتوهولى من تحت الارض.

-أنا هنا يا بابا.

وأخيراً تنفس الأب الصعداء برؤيته أمامه، لكن لا وقت الآن للعتاب واللوم ليهتف صائحاً.

-إنت شرفت تعالى يا بيه شوفلي المصيبة دي حالاً، وبعدها يبقى لينا كلام تاني.

لم يتحرك من مكانه خطوة واحدة وبكل هدوء جاوبه.

-مش شغلتي يا بابا أنا حيالا مهندس، دي شغلة مدير الشركة.

انفجر البركان الكامن الآن، اندفع نحوه أمام جميع من بالغرفة من محاسبين و رؤساء الشئون المالية وإذا به يرفع يده وينزلها بكل قوته على وجنته ويهتف فيه.

-بتمسكني من إيدي اللي بتوجعني يا صابر، فاكر هيبقى في شركة ولا مشاريع عشان تديرها بعد الخسارة دي يا ابن عزيزة،

يمين بالله لو ماخلصتنيش من الكارثة دي لكون مقطع من جسمك ورميك للكلاب تنهش فيك.

الجميع يعلم مدى قسوته على هذا الشاب، لكن أن يصل الحد إلى هذه الدرجة لا أحد كان يظن ذلك.

حتى هو خابت آماله، كان يظن أنه سيعامله بلطف حتى ينجيه من هذه المحنة، لكنه تفاجئ بالعكس تماماً، لذلك قرر أن يتراجع بجمود.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي