37

بقي محمد في غرفته لا يرد على احد فقط كل ما كان يشغل تفكيره كان هو اسماعيل رحمه الله و هو يتفكر في هذه الحياة التي تكون اقصر مما يتصور الانسان ففي البارحة كان اسماعيل يمشي معه إلى المسجد و يطرق عليه الباب ليشرب لديه القهوة..
من يصدق ان اسماعيل قد مات و هو بالامس كان يقول لمحمد سأزوجك هذا العام و لن اموت قبل ان ارى احفادي منك يا بني...
اجل فقد كانت العلاقة بين محمد و اسماعيل علاقة وطيدة اشبه بعلاقة الاب و الابن

إلا ان للقدر رأي اخر و للعمر نهاية مهما طالت و بعدت لكنها ستأتي...

لم يستطع البكاء على اسماعيل فقد جفت مقلتا عيناه و تحجرت و الغصة تملئ حلقه تمنعه حتى من التنفس ..

شعر محمد بالوحدة الموحشة لأول مرة في هذه المدينة الواسعة ..

لم يكن اسماعيل يترك محمد يشعر بشيء كهذا و قد حرص على ان يملأ على محمد حياته و يعوضه عن الابتعاد عن اهله و انقطاع اخبارهم ..

كأن المصائب التي برأس محمد تضرب فيه كل ساعة لا تكفي حتى يزيدها الزمن مصيبة جديدة بموو اسماعيل!!

لم يكن محمد قد اقتنع و تصالح مع ذاته على ان عائلته على الاغلب قد توفوا بالقصف الذي كان يصيب المدينة اثناء محاولات اقتحامها من المحتلين ؛ حتى اتت فاجعة فقد اسماعيل الاب الروحي لحمد هكذا كما يسميه الناس في ايامنا هذه و من يدري ماذا يخبئ الزمن في جعبته من حوادث و الام.


كان يتذكر كل لحظة قضاها مع اسماعيل منذ ان تعرف عليه و إلى البارحة
تذكر عندما وصل إلى المدينة لا يعرف بها احدا
حين قرر المبيت في حديقة المسجد في تلك الليلة الصيفية المقمرة و كان قد اضطجع على شقه الايمن على احد كراسي المسجد ليسمع في تلك اللحظة وقع تلك الخطوات تقترب نحوه...

كان هو اسماعيل قد شده قلبه الطيب ليأتي و يرى حال ذلك الشاب المدد على الكرسي مفترشا الحديد اسفله و ملتحفا السماء غطاء له يفطي وجهه بقطعة من الكرتون...

جعل اسماعيل حينها يصدر اصواتا ليرى إن كان لا يزال مستيقظا...
فتحرك محمد حركة خفيفة فعلم اسماعيل انه مستيقظ فقال: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
فنهض محمد حين سمع صوت ذلك العجوز يسلم و رد قائلا بعد ان اعتدل في جلسته: و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
اسماعيل: لم انت نائم هنا يا بني! الوقت متأخر
فرد محمد بصوت خافت يشعر بالخجل: ليس لدي مكان أوي إليه يا عم
اسماعيل: عجبا لما اسمع هل انت جاد يا بني!!
محمد:مع الاسف اجل و لكن هذا لأنني لست من سكان هذه المدينة
اسماعيل :ظننت هذا من لهجتك لا يبدو عليك انك من هنا
محمد: لقد وصلت قبل بضعة ساعات و ليس لي معارف اذهب إليهم فصليت العشاء في المسجد و قلت في نفسي فلأنام هنا الليلة فعلى كل حال فالجو جميل اليوم


جلس اسماعيل بجانب محمد و بدأوا بالتعرف على بعضهما البعض حتى مضت ساعة كاملة ثم نهض اسماعيل و اشار لمحمد بأن يقف قائلا: هيا لنذهب
محمد: نذهب! إلى اين يا عم!؟
رد اسماعيل بكل ثقة : إلى منزلي طبعا انت ضيفي من الان فصاعدا
محمد: و لكنني لا اريد ان اثقل عليك يا عم
اسماعيل: لا عليك يا بني فأنا اسكن لوحدي
تعال سأحكي لك كل شيء و نحن في طريقنا إلى المنزل


نهض محمد و سار بجاني اسماعيل فكانت تلك اول مرة يلتقيان بها ليبدأ بعدها عهد جديد لكليهما..

فحكى محمد للعم اسماعيل عن سبب قدومه و انه فقد عائلته قبل فترة في اثناء الحرب و وجد نفسه مجبرا على الخروج من المدينة بحثا عن اهله لعله يلتقي بهم او يعرف عن اخبارهم اي شيء
و بالمقابل حكى اسماعيل لمحمد عن حياته و هو يعيش وحيدا بعد ان قضت اسرته كاملةً قبل بضعة اعوامو استشهدوا جميعا و لم يبقى سوى اسماعيل من تلك الاسرة..

لم تكن محظ مصادفة ان يلتقي محمد با اسماعيل فكلاهما قد واجها احداث متشابها و كلاهما فاقد لمن يؤنس وحدته في هذه الحياة..

فكانت رحمة الله ان جعل بينهما حبا متبادلا و وفاء

فقام اسماعيل باستقباله افضل استقبال و اسكنه في شقته الاخرى و نده بالمال و ساعده على ايجاد فرصة عمل ممتازة ليتقوى قليلا و يتعلم فنون التجارة
و قام باعطائه المنزل الخاص به ليسكن به و لأجل مفتوح غير مسمى
و من ثم اقرضه مبلغا من المال لكي يستطيع ان يبني نفسه و يؤسس لعمل حر مستقل و يبدأ شيئا فشيئا بالعمل على افتتاح مشروعه الخاص..
و ها هو قد فعل ذلك...

اصبح لدى محمد محل كبير ذاع سيطه بين الناس و صار الزبائن يقصدونه من بين كل المحلات المشابهة له
بل و كان اسماعيل هو الذي كان ينصح محمد بالالتزام في دينه و عباداته و قد كان سوره الحامي من ان يضل او يسلك طرقا غير محمودة كحال كثير من الشباب الذين هم في سن محمد...

مرت تلك الذكريات الحزينة كأنها حلم في ذاكرة محمد، كيف كان اسماعيل يصطحبه معه إلى المسجد و إلى دورس تحفيظ القرأن بل حتى ان اسماعيل كان قد وعد محمد بأن يسافرا هذا العام سويةً إلى الحج و زيارة الكعبة المشرفة إلا ان المنية قد داهمت اسماعيل قبل ان يفي بوعده ...
...

انقطعت سلسلة الذكريات من مخيلة محمد عندما بدأ هاتفه يرتج مستقبلا رسالة و رسالتين و عشرة...
و بدأ الناس من اصحاب اسماعيل و محمد يرسلون التعازي على الهاتف بسبب ان محمد قد نفذ وصية اسماعيل بأن لا يقيم له عزائا و ينفذ كل ما كتبه له في الوصية التي وضعها لدى ايهاب قبل عدة ايام من مرضه

اما محمد فقد كان غارقاً في صمته الكئيب لا يجيب احداً بالكاد يبقى متماسكا..

...

في تلك الاثناء كانت دينا في منزلها تفكر في كل ما قالته لها جدتها عن الخطبة و عن الخاطب
إلا انها لم تبدِ رفضا و لا ايجابا حتى تعلم على الاقل و تتأكد من هوية الخاطب
امسكت هاتفها لترى إن كان قد وصلها شيء من رسائل محمد الغزلية المعتادة و المزاح و تفقد الاحوال


لكن ظنها قد خاب فلا جديد في المحادثة بعد الرسائل التي كان يتكلم فيها محمد عن مرض اسماعيل المفاجئ فلاحت في بالها فكرة ان ربما محمد عند اسماعيل في المستشفى لذلك هو لا يرد..

قررت ان تكون هي من تبادر مع صعوبة الامر بالنسبة لها أو لأي فتاة اخرى فهي لا تحب ان تكون كمثل من يعرض نفسه لأمر ما و خشيت ان يفهم محمد ذلك من كلامها فلعل اسماعيل لم يخبره بأن طلب يدها من خالها لأجل محمد مثلا...

كتب دينا رسالة فيها" السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
مرحبا محمد كيف حالك!
اراك غائبا اليوم و لم ترد عبليّ فاحببت ان اطمأن عليك و ايضا كنت اريد ان اسألك عن وضع العم اسماعيل هل تحسنت صحته" !



انتظر دينا لبضعة دقائق لكن محمد لم يرد عليها
فبدأت الشكوك تساورها حول إذا ما كان محمد بخير فليس من عادته ان يتأخر عن الرد على رسائل دينا ابدا مهما كان ظرفه...

كررت دينا ارسال الرسائل النصية و كتبت له" محمد هل انت بخير اخبرني هل هناك شيء ما!
هل حصل اي مكروه للعم اسماعيل!
إن كنت قد استلمت رسائلي فأرجو ان ترد علي يا محمد "

اطالت دينا الانتظار لكن ردا من محمد لم يصلها مما جعلها كئيبة و هي محتارة إذا ماكان محمد يتجاهلها ام فقط هو مشغول مثلا او لربما حصل مكروه ما للعم اسماعيل...
فهي تعلم وضعه الصحي الحرج جدا...

طُرق باب غرفة دينا برفق عدة طرقات على لحن اغنية الزفاف و
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي