4

إذ ان والده كان أول من  أساء فهمه ، فمرّة عندما كان شمس ذو الأحد عشر عاماً ، في العمل مع والده النحّات ، أخبر شمس والده أنّه يرى ملاكاً في منامه ؛

ظناً منه أنّه شيء عادي يراه الجميع ، فردّ عليه والده بجفاف ،

" سعة خيالك زادت عن حدّها يا ولد ، حتى أنّ بعض القرووين أخبروني أنّك تخيف أولادهم بكلماتك أحياناً ، و تبدر منك تصرفات غريبة أيضاً ، توقف عن إثارة الجلبة حولك إينما كنت ، فأنت تسبب لنا المتاعب ... "

لكن هذا لم يكن بيده ، فعلى الرغم من أنّه كان يريد لتلك الرؤى أن تتوقف ، إلّا أنّها استمرت و ازدادت ، و أصبح شمس يرى نفسه مختلفاً عن الآخرين ، لكن أحداً لم يدرك هذا الاختلاف ، بل كانوا يريدون منه أن يحذو حذو أبيه ليصبح نحاتاً ماهراً .

كان شمس يقول :
" أنا لست طيراً داجناً كُتب له العيش في خُم الدجاج ، لست أخاف من البحر الذي تخشون أمواجه العاتية ، لأني أُجيد السباحة بامتياز ، لذا سأغوص إلى موطني ، من أراد القدوم معي فليأتِ ، و من لم يُرد فلا يعترضنَّ أحد طريقي و يتدخل في حياتي ... "
كلمات شمس هذه ، كانت تُحزن والديه كثيراً ، فكان يشعر بالذنب ، فهو لم يرد هذا أبداً ، و مع ولعه الشديد بوالديه و حبّه لهما ، إلّا أنّه كان يشعر أنّه غريب عنهما ،

لذا لم تمضِ مدة طويلة جداً ، حتى غادر المنزل من غير رجعة ....

بعدها أضحت كلمة تبريز بالنسبة له ، شيئاً حلواً رقيقاً يذوب في فمه ، و يرتبط في ذهنه مع رائحة الخشب المنحوت ، و الخبز المصنوع في المنزل ، و كرات الثلج الناعم ناصع البياض ....

و بذلك أصبح شمس درويشاً جوالاً ، يجوب الأرض شرقها و غربها ، باحثاً عن كلّ ما يقربه و يعرفه على الله أكثر ، و لما لم يكن له جذور في أي مكان ؛ أصبح يرى وجوهاً جديدة كل يوم تقريباً ، و لا ينام في نفس المكان مرتين ،

كسب قوته - الذي كان شبه معدوم - من بعض الأعمال البسيطة أثناء ترحاله ، و كان يبحث دوماً عن معلومات جديدة جديرة بالمعرفة ، و قد سلك كثيراً من الطرق المختلفة ؛ من طرق تجارية إلى طرق منسيّة ، و سواحل و وديان ، إلى كثبان الصحراء الرملية ، و غابات كثيفة ،

و قد التقى برجال علم و ناقشهم في مكاتب عامة قديمة ، و علماء تفسير و منطق و حاورهم ، و زار مناطق لم يزرها أحدٌ إلّا ما ندر ،

و قد رأى معجزات لم تُرى من قبل ، و كان يلوذ بالصمت عندما يكون في مجلس لعقلاء ؛

هو قد رأى أسوأ و أفضل ما في هذه الحياة ، ألوان من الاضطهاد ، و الظلم ، و الجور ، قرى أحاط بها فقر مدقع ، و مدن سُلبت و نُهبت ،

رأى ما لا يعدُّ و ما لا يُحصى ، لدرجة أن لا شيء أضحى يفاجئة بعد الآن ...

و خلال تجاربه و رحلاته من مكان لآخر ، هو قد جمع قائمة لم تُكتب على ورق ، بل دونّها في روحه ، تلك القائمة كانت بمثابة قواعد ، لا يمكن تحقيقها إلّا من خلال العشق ، و بالعشق وحده ....

" إن أنت أردت الطريق إلى الحقيقة فاعبر إليها من خلال قلبك ، لا من رأسك ؛

اجعل قلبك ، لا عقلك دليلك الأساسيّ ، ثمّ تحكم و تغلّب على نفسك بقلبك ..

إنَّ الطريق الذي ستعرف به نفسك حق المعرفة ، هو الطريق الذي سيقودك إلى الله . "

هذه واحدة من قواعد شمس الأربعين ، التي فرغ من كتابتها بعد زمن طويل من التجوال و المعرفة التي اكتسبها .

" و الآن بتُّ على يقين أنّ أيامي في هذا الكون أوشكت على النفاد ، و لكن ما يملأ قلبي هو الشوق و ليس الخوف ، لأنّها ليست النهاية على أية حال ،

إذ إني لست أخاف الموت ، بل ما أخشاه أن أختفي دون أن أُكرّس إرثاً ، و أنقل حكمة الله التي أكرمني بها لأحد من عباده .

يا الله ، و أنا أسعى في أرضك تبعت صراطك ما استطعت ،
ياربي .... ، يا من تسمع و ترى ، و تعلم السرّ و أخفى ، أتمم عليّ فضلك برفيق أُفضي إليه ما أكننت من معارف و أسرار ، و قصص و حكايات كثيرة أنتظر أن أحكيها ..

ياربي ، أنت حسبي و أنت عوني .... " .

للحظة شعرت إيلا بفيض عارم من المشاعر الغريبة ، حزن و ألم ، حنين و شوق و حب ...
هل هي تشتاق لشمس ؟

أم أنّها تأثرت بكلماته ، التي أحسّتها كالوداع ؟

لا ، هي حتماً تريد أن تكون مع شمس ، و يكون معها في هذه اللحظة .

بدأت دموعها تنهال بحرارة ، دون توقف ، هي لم ترد التوقف أصلاً ، فقد شعرت براحة عجيبة ، على الرغم من الألم الذي يعتصر قلبها ...

ثم تابعت القراءة على حالها هذا .



أسند شمس ظهره على الحائط ، بظلام الليل الحالك ، متوجّهاً بقلبه إلى ربه ، بعد أن نام كل من في الخان الذي توقف به ،

و قد كان الجو هادئاً هدوءً خانقاً ، إلّا أنّ شمس كان يتنفس ذلك الهدوء بوحدة .

هبّت نسمات حملت معها رائحة عبير الزنبق و الياسمين من مكان بعيد جداً ،

لم يعلم شمس ما كان ذلك بالضبط ، عندما سمع صوتاً يطلب منه الذهاب إلى بغداد ...
" إن كنت تريد رفيقاً ، فسوف تجده هناك ، سيكون رفيقك في طريقك إلى الله "

و عندها تذكّر شمش ذلك الرجل الذي كان يراه في رؤياه ،
" هل كنت رفيق روحي ؟ !
إنّي لأتوق للقائك ، و عندها سأسألك لما كانت عيونك البنيّة الفاتحة في كل مرة أراك فيها ، تغرق بحزن شديد ؟ ! " .

و عند هذا الحد ، وضعت إيلا إشارة على الصفحة التي وصلت إليها ، لتتابع لاحقاً ....

و في الصباح عادت إيلا تفكّر بروز ، و ما الذي عليها فعله ، و وجدت أن الاعتذار قد يكون أفضل حل ،

في حين كانت ليزلي تسرّح خصلات شعرها الشبيهة بقصاصات الذهب ، و هي تراقب بعينيها الفاتنتين تقاسيم وجه والدتها ،
و علمت بذلك في الحال أنّها تنوي الاتصال بروز ،

و عندما همّت إيلا بإمساك سماعة الهاتف ، تدخّلت ليزلي بقولها :

" ماما ، أعلم أنّك قلقة لأمر روز ، و أنّك لا تطيقين بعدها بهذا الشكل ، لكن من الأفضل أن تدعيها و شأنها الآن حتى تهدأ ، و أنا واثقة من أنّ الأمور ستتحسّن بوقت لاحق ، لذا لا تحزني حبيبتي . "

و عندها اقترب آندر من ليزلي مُتقصّداً إزعاجها ،

" حمقاء ، لقد سرقتي كلماتي التي أردت قولها ،
أجل أمي لا تحزني ، و انتظري فقط لحين عودة روز أنا سأنتقم منها لأنها أزعجتكِ "

" أيها الغبي ، لماذا نزعت ربطة شعري ، لقد ربطتها بعناية ، و تتكلّم عن الإزعاج إذاً !
أنت أكبر مصدر للإزعاج في كل حياتي " .

فردّ عليها آندر مفتخراً :
" يسعدني سماع هذا منكِ ، و بالمناسبة عليكِ أن تكوني ممتنة ، فأنا أشغل دوراً مهماً في حياتك "

ابتسمت إيلا ابتسامة مُشرقة ، و قامت بضمّ كل من ليزلي و آندر إلى صدرها ،

" يا إلهي ، متى كَبر ملاكيّ الصغيران ، و أصبحا يواسيان ماما بهذا الشكل .. "

" ماما أنا سأبلغ السابعة عشر قريباً ، أي أنّي لست ملاكاً صغيراً ، بل أنا شيطان فاتن وسيم ،

أنظري إلي جيداً ، ثم إنّني أطول منكِ أمي . "

فردت ليزلي على كلام آندر هذا :

" أنا أتفق معه أمي ، فهو شيطان فظيع حقاً ، لا يصلح أن يكون ملاكاً "
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي