24

...............

" فتاة العيون اللوزيّة "

بعد أن رحل ذلك الدرويش ، بدَت سيدتي مُنشغلة البال ، فانتهزت الفرصة ، لكي أطلب منها الذهاب إلى السوق ،

فأفضل فرصة للخروج و عدم التعرّض لأسئلتها التي لا تنتهي ، هي عندما تكون مشغولة البال بشيء ما ،

ثمّ سألتها الإذن للذهاب لكي أشتري بعض الحاجيات ، و في الحقيقة لم أكن أبغي الذهاب إلى السوق كما قلتُ لها ، بل كان لديّ هدف آخر ،

لكنّها صدّقتني ، و كيف لا تفعل ذلك ، و قد كنت كلبتها المطيعة لسنوات ،

و سمحت لي بالذهاب شريطة أن يذهب معي مرافق ،

و لحسن حظي كان ذلك المرافق هو سمسم ،
البدين الوديع و الساذج ،

تجهزت ثمَّ انطلقت برفقته ، و بعد ان ابتعدنا عن المنزل ، و وصلنا إلى أزقّة خالية من الناس تقريباً ، طلبتُ من سمسم أن ينتظرني عند الزاوية ،

و دخلتُ إلى الزقاق الفارغ ، و لبست ملابس للرجال ، و قد كان من الصعب عليّ ارتدائها ، و إخفاء معالم جسدي تماماً ،

ثم لبستُ عباءة خضراء طويلة و عريضة ، و وضعتُ لثاماً على وجهي ، و غطيتُ شيئاً من عينيّ ، كما يفعل المسافرون العرب ،

و عدتُ إلى سمسم و قلت له :
" هيا بنا لنذهب " .

فتح سمسم فمه و توسّعت عيناه ، و لم يفهم شيئاً ، فنزعتُ اللثام من على وجهي ، و قلت له : " ما بالك ألم تعرفني " .

ثم صاح بأعلى صوته ، " ورد ، هل هذه أنتِ ؟ "

طلبتُ منه أن يُخفض صوته و يتبعني ، فنحن ذاهبون الآن إلى المسجد لسماع خطبة الروميّ .

حتى سمسم الساذج ، الذي لم يكن يفهم كثيراً مما نتحدّث به ، ذُهل من قولي هذا له ،
و قد كنت أتعجب دائماً ،
كيف لشخص مثله أن يعيش في هذا العالم المتوحّش المفترس ،

سمسم : " لمَ قد تذهبين للمسجد يا ورد ، و هو مكان لتجمّع المسلمين ؟ ! " .

ورد : أرجوكَ أن تتبعني بهدوء ، فهذا مهم جداً بالنسبة لي ، و إياكَ أن تخبر سيدتي بذلك ، و إلّا فلن أنجو .

سمسم : و لكننا ذاهبون إلى السوق ! .

ورد : لا عليك ، لن يطول الأمر ، ثم سنذهب إلى السوق ،
و إذا لم تخبر أحداً ، أعدكَ أنني سوف أشتري لكَ قطعة كبيرة من كعك السمسم الذي تُحبّه .

فهزَّ سمسم رأسه موافقاً بسرور ، قائلاً ، " نحن ذاهبون إلى السوق فقط ، و ليس لمكان غيره . "

بعد أن وصلنا إلى المسجد ، دخلت و تمنيتُ لو أجد مكاناً شاغراً في آخر المسجد ،
لكنّي لم أجد ، و بعد لحظات ، شخص ترك مكانه الذي يكون وسط المسجد ،

فتوجهت إلى ذلك المكان ، و جلست فيه ، متناسية مخاوفي ، أنني إذا تمّ الإمساك بي في وسط مسجد الرجال ، فلا أعلم ما سوف يحلّ بي ،
خصوصاً و أنا على دين المسيح ، و أنا بالنسبة لهم حيوانة كافرة .

بدأ الروميّ بإلقاء خطبته التي كانت كالجواهر حقاً ، من أجمل ، و أثمن ما سمعتُ بكلّ حياتي ،

كلماته قد جعلتني أشعر أن كلَّ البؤس الذي مررتُ به في حياتي ، بالتأكيد له معنى ، و هو مُقدّمة لشيء عظيم ،

كنتُ أعيش في قرية صغيرة ، و بعيدة عن قونية ، و كان والديّ يشتريان الخضار من الفلاحين ، ثم يبيعونها في السوق ،

لم تكن حياتنا بذلك الترف ، لكنّي كنتُ ممتنّة لله أنني لم أكن واحدة من أؤلئك الفقراء المتشرّدين ، اللذين كانوا يأتون ، و يتسوّلون عندنا أحياناً ،

كنتُ في السادسة من عُمري آنذاك ، عندما حملت والدتي ، و تعبت بشدّة من حملها ، الذي تبيّن فيما بعد أنّة كان حملاً لطفلين ،

عانت أمي الأمرّين في مخاطها ، و توفيت أثناء الولادة ،
و بصعوبة بالغة ، تمكّنت القابلة من إنقاذ طفل واحد من التوأمين .

بعد ذلك تغيّرت أحوالنا ، فقد كان والدي شديد الحزن وفاة أمي ، و شديد الغضب من أخي الصغير المسكين ، الذي لم يكن له أي ذنب ، لكنّ والدي كان يحمّله كامل البؤس الذي بدانا نعاني منه ،

و لم يعد عمله كما في السابق فتركه ، و توجه لعمل آخر ، لم أكن أعرفه ، أو أنني لم أعد أتذكّره ،

و كنتُ أشعر بالمتنان أحياناً أنني لم أكن محطّ غضب والدي ، لكنّي كنتُ أتمنى أن أستطيع إذقاذه من كلّ هذا حقاً .

و بعد فترة تزوّج والدي ثانية ، لكنَّ سيئاً لم يتغيّر على أخي المسكين ، سوى أنّه أصبح يتعرّض لإساءة أبي و زوجته مجتمعَين ،

فأصبح يمضي أغلب وقته في خارج المنزل ، و لا نعلم أينَ يكون ،
و ذات مرّة أنكبَّ عليه والدي بالضرب كالمجنون ، حتى كاد يقتله .

و في أحد الأيام استيقظت صباحاً فوجدتُ أبي و زوجته ميتين ،
فقمت بمناداة أحد القرويين ، الذي استدعى طبيباً ،
فتبيّن أنهما قد قتلا بسُمِّ الجرذان المميت ، و المعدي ،

فكانت جنازتهما الأسوء في القرية ، لأن القرويين قد خافوا من العودى .

و لم يكن أحد مشتبه به غير أخي ، فبدأت الشرطة بالبحث عنه ، لكنّه قد ذهب من غير عودة ، و لم يجد له أحد أيُّ أثر ،

و هكذا أصبحتُ وحيدة ، و بائسة ، و أصبح منزلي الذي في كل ركن منه يذكرني بأمي ،
أصبح كالجحيم بالنسبة لي ،

فقررت الذهاب إلى القسطنطينية ، حيث تسكن خالتي ، و عمي هناك ، و كنتُ في السادسة عشر آنذاك .

فركبت في عربة للمسافرين ، و كنت أصغرهم ، و الوحيدة التي تسافر بمفردها ،

و في طريقنا ، هاجمنا قطاع طرق ، و بدوا كالمغول الذين سمعنا عنهم الكثير من الفضائع ،

و بعد أن سلبوا كلّ شيء ، و ربما كانوا على وشك قتل الجميع ، عندما قام أحد المسافرين بالركض على الحصان للهرب ، و طلب مني أن ارافقه بقوله أنّه يريد إنقاذي معه ،

فاستطعنا الهروب ، و ليتني لم أذهب معه ، و لو أني قُتلت مع أؤلئك المسافرين لكان أفضل لي ،

فما حصل لي بسببه كان فظيعاً ،
أخذني معه إلى مكان قائلاً أنه سوف يُسعدني ، و سوف يُبقيني معه طوال حياتي ،
لكنّه كان شخصاً قذراً ، لم يُبقِ شيئاً إلّا و فعله .

و بعد عِدّة أيام ، و نحن في الطريق إلى المكان الذي تحدّث عنه ،
و عندما كان منشغلاً بالحديث مع أحد رعاة الغنم على الطريق ،
باغته بطعنة على قدمه ، و أخذتُ الحصان و هربت به ، متوجهة إلى القسطنطينية ،

و عانيت من الجوع ، و التعب ، و الرعب الشديد ، أن يحصل لي ما حدث ثانية ، و أن يمسكني رجل ثانية .

و حتى أنني قد تناولت العشب من الجوع ، و أحياناً كنت أصادف أُناس في طريقي ، يعطونني بعض الطعام ، و كنتُ أسأل آخرين عن الطريق ، و لم يكن هذا سهلاً أبداً ، لقد عانيتُ بمعنى الكلمة لوحدي ،

كم تمنيتُ وقتها لو أجد ملاذاً آمناً فقط ، و أناساً طيبين بإمكاني العيش معهم ، لم أعد أريد أي شيء آخر .
مع أنني اصبحت لا أؤمن بوجود أحد طيب في هذا العالم ،
فأنتَ لا تعلم بأيّ لحظة هم سوف يتحوّلون إلى وحوش حقيقين ، أشدَّ افتراساً من الحيوانات الكاسرة .

و بعد أن وصلت إلى القسطنطينة بشقّ الأنفس ، و مع أنني أعرف عنواني خالتي و عمي ، لكنّي لم أستطع الذهاب إليهما ،
فقد تلوثت ، و لا أعلم ردّة فعلهما إن علما بما حصل لي ،
قد يقومان بقتلي بأنفسهما ، و قد يحتضنانني بحنان ،
لكني لا أعلم بالضبط ، لذلك قررتُ عدم الذهاب إليها ،
و القيام بعمل ما يوفر لي قوت يومي ،
لكنَّ ذلك كان صعباً بشدّة ، فأنا فتاة في أول عمري ، و قد كان جمالي يلفت الانتباه كثيراً ، لذا لم يكن العمل شيئاً سهلاً إيضاً ،

و ذات ليلة ، و بينما أنا نائمة في اسطبل للحيوانات ، خُطفتُ ثانية ،
و كان الموتُ أهون عليّ من أن أعاني ثانيةً ، لكن ما أنا فيه الآن من حياة التشرّد ألا يُعتبر معاناة ؟ ! .

أُخذت لسوق للعبيد ، و تمَّ بيعي هناك لرجل ضخم و مخيف كالموت ، كان يُدعى بالغول ،

و هو الذي أخذني للسيدة التي أعيش عندها الآن بعد كل تلك المعاناة ، و أنا أعيش عندها كالحيوان الآن و لا أساوي عندها أكثر من ذلك ،
و أتعرّض لكثير من الإساءة منها ، خصوصاً بعد أن اخبرتها بما حصل معي ، و لا أعلم لمَ أخبرتها أصلاً ؟

، كنت أعمل ، و اذهب إلى السوق لبيع البضائع برفقة مرافقين طبعاً ، و أعمل و أعمل ، و لكن عيشة الحيوانات هذه أفضل مما مررتُ به سابقاً ،

مع أنني كنت أتعرّض لمواقف في السوق من قبل بعض الرجال ، لكنّهم لم يكونوا يتجرأون على فعل شيء لي ، خوفاً من - الغول - .



طردتُ كلّ تلك الأفكار المشؤمة من رأسي ، و وجهتُ كل تفكيري ، و انتباهي إلى خطبة الرومي ثانيةً .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي