21

" شمس "

........

ما إن لاحت لي مشارف قونية من بعيد  لأوّل مرّة ، حتى وقفت ، و بدأت بالدعاء ، و طلب بركة الصالحين ، الأحياء منهم ، و الأموات ، كما أفعل عندما أدخل أي مدينة جديدة .
و أنا الآن سأدخل المدينة على مسؤوليتي ، كما أنّي على علم بمصيري الذي ينتظرتي ، فإما أن أجد المحبّة المحضة ، أو أن أجد الكراهية المحضة ،
و طالما أنّي سأجد المحبّة ، لن أهتمّ للباقي ، و لا قلق لدي .

و بينما راح حصاني يرعى على جانب الطريق ، جلست أنا تحت شجرة من أشجار اللوز ، و رحت أنظر إلى مآذن قونية ، التي بدت لي واضحة ، كانت ضخمة ، و شامخة ، لامعة كالزجاج ،
بدأت أسمع أصواتاً تأتي و تذهب ، لأطفال المدينة الذين يلعبون ، ممزوجة بأصوات رجال ، و نساء ، و أصوات أخرى لم أُميزها تماماً ، و بينما أسمع هذه الأصوات ، تساءلت عن مَنْ هم خلف جدران بيوتهم ، و ما يمكن أن يكون حالهم ؟ ،
حزن ، أم فرح ، أم معاناة ......
لا علم لأحد ، ففي هذه المدينة الكبيرة ، لا يعرف الكثير من الناس بعضهم ، و لما أنّي معتاد على الترحال ، فأحوال المدن ، و المكوث فيها لا يعجبني أبداً ، لكن الآن تبادر إلى ذهني قاعدة ذهبيّة من قواعدي ،
" إنْ اعترض طريقك تغيراتٌ في يومٍ ما ، فلا تحاول مقاومة تلك التغيّرات ، بل اترك الحياة تجري فيك ، و لا تفزع حين تغيّر أحوالك تماماً ، فكيف لك أن تعرف أن ما كنت فيه ، خير مما سوف يأتي ؟ " .

و أنا غارق بتأمّلي ، قاطعني صوت ما .... ،
" السلام عليكَ أيّها الدرويش . "

نظرت لصاحب الصوت ،
لقد كان فلاحاً أسمر البشرة ، ضخم البنية ، مفتول العضلات ، يجلس على عربة خشب يجرّها ثور ضخم ، لكنَّ كِبَرَ العمر واضح على هذا الثور المسكين ، و كأنّه سيودّع الحياة في أي لحظة .
" و عليك السلام و رحمة الله ! ، بارك بكَ الله . "

الفلاح : " أظنُّ أنّك جالس هنا بسبب تعبك من امتطاء الحصان ، يمكنك مرافقتي إلى المدينة على العربة . "

شمس : أُقدّر ذلك ، شكراً لك ، لكني أعتقد أنني إذا أكملت سيري مشياً على الأقدام فسوف أصل قبل ثورك المسكين هذا .

الفلاح : " هل تبخس ثوري قدره يا عبد الله ؟ !

، ربما تراه عجوزاً كبيراً ، لكنّه أعزّ صاحب لي . "

أذهلتني كلمات هذا الفلاح نوعاً ما ، و قد بدا أنّه شعر بشيء من الإهانة من قولي ، فنهضت من فوري ، و انحنيت له معتذراً ، فأنّى لي أنا العبد الذليل أن أبخس ، أو أتكبّر على خلق الله ، سواءً كان بشراً أو حيواناً ، لا يمكنني ذلك أبداً .

شمس : أنا أعتذر منكَ ، و من ثورك ، و أرجوكَ أن تسامحني أيها الأخ .

نظر إليّ الفلاح و على وجهه علامات الدهشة ، ربما ظنّ أني أسخر منه ثانيةً ، و بعد لحظات قال لي :
" آآه ، أنا متفاجئ قليلاً ، هذه أول مرّة يحدث فيها هذا ! .
شمس : تقصد الاعتذار من ثورك .

فضحك الفلاح ضحكة دافئة و قال :
" و هذه أوّل مرة يحدث فيها هذا كذلك ،
أتعلم ؟
، سواءً كنت مُخطئاً أو مُصيباً في ما أقوله من قبل ، أو حتى لو أساء إليّ أحدهم ، كان ينتهي بي الأمر بالاعتذار على كلّ حال . "

حزنت لما قاله ، و لكنّي لم أتفاجأ ....
شمس : يقول الله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم "
، و هذه إحدى قواعدي أيضاً .

الفلاح : " أيُّ قواعد ؟ ! " .

شمس : إن الله أتمّ صنعنا من الداخل و الخارج على أكمل وجه ، بقي علينا أن نسير جاهدين بثبات على طريق الكمال ،
و مَثلنا - و لله المَثل الأعلى - كمَثل لوحة فنيّة صنعها خطاط بارع في منتهى الدقّة و الجمال ،
تتساوى فيها حميع النقاط من حيث الأهمية لاكتمال الصورة .

فسألني الفلاح ثانية بلهفة و باهتمام :
" هل أنتَ تستمع إلى خُطبه و كلامه أيضاً ؟ ! " .

فخفق قلبي بشدّة عندما علمت من الذي يقصده .

الفلاح : " إن المئات من الناس يتجمهرون لكي يستمعوا إلى خُطبه ،
و الآلاف يأتون من مُختلَف بقاع الأرض ، إنه لرجل عظيم حقاً ! . "

شمس : فهل لي أن أعلم ما الذي يُميّز الرومي بخِطبه ؟ .

نظر الفلاح إلى السماء ، و تأمّلها قليلاً ، ثمّ تنهّد و قال :
" في الآونة الآخيرة ، حلّت علينا نكبات عِدّة ، و أفجعها كان غزو المغول ، و ما حلّ بعده من دمار ، و قتل ، و سلب ، و انتهاكٍ للأعراض ،
و نتيجة لذلك ، من تضرر ، و من لم يتضرر ، قد فقد بهجته و ابتسامته . "

شمس : و ما شأن الروميّ بذلك ؟


الفلاح : " يقولون يا صاحبي أنّك عندما تستمع لخطبه ، فإن همومك سوف تنجلي ، و سوف تشعر بالسعادة تغمرك . "

من ناحيتي ، أنا على يقين أن المشكلة ليست بالفرح أو بالحزن ، بل إن الناس لا يريدون الحقيقة ، فهي التي تجعلهم يشعرون بالحزن ، و هم يفضّلون النفاق على الواقع ، و هو الذي يجعلهم يشعرون بالسعادة ، لكنّي لم أقل هذا الكلام للفلاح .

شمس : لمَ لا أذهب معكَ إلى قونية ؟ ، و على الطريق أرجو أن تحدّثني أكثر عن جلال الدين الروميّ .

الفلاح : " أهلاً بكَ ، أيّها الدرويش . "

فقمت بربط رسن حصاني على العربة ، و ركبت معه ، و عندما نظرت إلى الثور ، سُعدتُ أنّه لم يتأثر بوزني كثيراً ، و بدأ بالسير على نحو بطيء جداً ،
أعطاني الفلاح شيئاً من الخبز ، و الجبن ، و التمر ، و تجاذبنا اطراف الحديث أثناء الطريق ، و أبرز حديثنا كان الرومي طبعاً .
و لما وصلنا إلى قلب المدينة تقريباً ، و تحت السماء الزرقاء الصافية ، و الجو شديد الحرارة ، فككتُ رباط حصاني ، و ألقيت التحية على الفلاح ، " رعاكَ الله يا صديقي . "
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي