27

- العجوز عدنان القونيّ -

لا فكرة لديَّ كم من الوقت مضى ، و أنا مرميّ على الأرض هنا ، فقد فقدت إحساسي بالوقت ، و بما حولي ،
كنتُ قد خرجتُ من الحانة في منتصف الليل ، و مع أن صاحب الحانة لحق بي إلى الباب و حذّرني من الحرس الليلي ، لكي لا يمسكوا بي ،
" و احذر من لسانك أيضاً يا عدنان . "

فقلتُ له ملوّحاً :
" سأتدبر امري ، لا تقلق . "
و شعرتُ ببعض الراحة أن أحداً قلق عليَّ قليلاً .

رحت أمشي تحت ضوء قمر قونيا ، مُتجهاً إلى المنزل ، الأشبه بقنّ للدجاج ،

و لا أعرف لماذا بدأت بتذكّر موكب الروميّ ذاك ، الذي اجتمع حوله الكثير من المريدين ، و المعجبين ،
و بسبب كلّ تلك الضجّة التي أحدثها موكبه ،

ظننتُ في البداية أنّه كان هجوماً مفاجئاً للمغول ،
و رحت أصرخ مُحذراً مَن حولي :
" لقد أتي جيش الوحوش لاقتلاع أرواحنا !! . "

عندها ضحك عليّ الجميع .

" أفق أيها العجوز السكّير . "

" عدت تهذي مُجدداً ، هذا ليس جيداً لعقلك البتّة "

هذا ليس إلا موكب العالم الروميّ . "


أنا لا أعلم تماماً ، هل أُحبّ و أحترم ذاك الروميّ ، أم لا ؟؟

لكن ما أعلمه أني لا أريد أن أكون مثله أبداً ،


و لا أستبعد أبداً أن يكون بعض ممن كانوا في موكبه عبارة عن منافقين لا أكثر ،
يبحثون عن جاه ، أو مكانة ،

أمثالهم عبارة عن مجموعة حمقى بلا عقول ،
لا أجد شيئاً يصفهم أكثر من ذلك .

و من جهة أخرى أنا لا أميل لأصحاب الدين ،
فهم يظنون أن الله قريب منهم وحدهم فقط !!! ،

ياللعجب ، ما أشدّ غرورهم ، و إعجابهم بأنفسهم !!! ، هم يظنون أنهم أفضل منّا ،

أنّى لهم معرفة هذا ؟
، لذلك كنتُ أتجادل مع معظمهم عندما أُقابلهم ، لكنَّ صديقي صاحب الحانة كان يُحذّرني من لساني ،
بقوله أنّ لساني ما يجلب لي المصائب .

و أنا أتصارع مع أفكاري ، دخلتُ أمشي مُترنّحاً في هذا الشارع الفرعي ،
الذي اصطافت الأشجار الضخمة على جانبيه ، جاعلةً الرؤية صعبة بعض الشيء ،

و مما زاد الطين بلِة ، أن ضوء القمر قد توارى خلف تلك الغيوم المتلبّدة ،

مما أضعف من إدراكي لما حولي أكثر ،
حيث أنني لم أُدرك أؤلئك الحارسان ، إلّا عندما اقتربا مني كثيراً ،

مما جعل هروبي منهما شبه مستحيل ، لقد أمسكا بي مُتلبّساً .

حاولت أن أُخفي قلقي ، و ألقيتُ عليهما التحيّة .......

العجوز عدنان :
" السلام عليكما "

و حاولت التظاهر بالسعادة لرؤيتهما ، لكنّهما لم يردّا على التحية ،
و سألني الحارس الأول :
" ما الذي تفعله في هذا الوقت المتأهر هنا ؟ "

و قد كان هذا الحارس ضخماً ، بعيون زرقاء كانت تلمع رغم الظلام ،
لكن لولا هالته التي بدت قذرة ، لقلت أنه وسيم حقاً ،
لقد تذكرته الآن ،

إنه نفس الشخص الذي سحب الفتاة من المسجد في أثناء خطبة الروميّ ، و رماها خارجاً .
هو أقرب للوحش من كونه إنساناً .


العجوز عدنان :
" لا شيء بالتحديد ، لقد كنتُ أتنزّه . "

الحارس الثاني :
" تتنزّه الآن ؟؟
لكني أشمُّ رائحة عفنة منك ، هل تخبرني ما هيَ ؟ . "

الحارس الأوّل :
" لا زلت تعامله بهدوء يا صاحبي ؟ ،

ألا تشمّ رائحة الخمرة تفوح منه . "

العجوز عدنان :
" لا تفكّرا كثيراً بالأمر يا صاحبيّ ،
فبما أننا نحن المسلمين لا نشرب إلّا خمراً من خيال ،

فلا بدَّ أن الرائحة التي تشمّانها الآن ،
هي رائحة من خيال أيضاً . "

فغضب الحارس الأوّل قليلاً ....

الحارس الأوّل :

" ما الذي يهذي به هذا العجوز الخرف ؟

ألا تعلم أنه يوجد حظر تجوال في هذه المنطقة ،

أجبني أين كنت ؟ و إلى أين أنتَ ذاهب ؟ "

العجوز عدنان :
" إييييه ، أسئلتك هذه عميقة حتى الروح ،

فلو كان عندي فكرة عن جوابها ،
لاستطعت معرفة سرّ وجودنا في هذا الكون الكبير . "

" هل تسخر مني أيها العجوز القذر . "

صرخ الحارس الأول ، و أخرج سوطة ، و لوّح به ،

كنتُ أظنّ أنّه يمازحني لا أكثر ،
و يحاول تخويفي قليلاً ، لكنّي لم أُدرك صعوبة وضعي ،
إلّا عندما تلقيتُ ضربة من صوطه على بطني ،
و قدمي .

" هذا لكي تتعلّم الأدب ، أيها العجوز . "

و أصبح مكان الصوط على جلدي يحترق مثل النار ،
و رحتُ أترنّح من الألم هذه المرّة ، و مما زاد جنونه عندما قلت له :

" هيا عاقبني يا هذا ،
فإذا كانت جنّة النعيم تحوي على أشخاص من أمثالك ،
فأنا سوف أُفضّل الذهاب إلى سعير جهنّم . "

ثم عاد ينهال عليَّ بالضرب بدون عقل ،
أكاد لا أُصدّق أن شابّاً بعمر ابني ، يضربني بالسوط و بيديه الآن .

فلم أملك غير الضحك على ما يحصل معي ، ثم قمتُ بترديد بعض الأغاني ،
على الرغم من أن الدم كان يسيل من فمي ، الذي تلقى عدّة ضربات .

و كلّما غنيت بصوت أعلى ، زادت حِدّة ضرباته لي .

حتى أنني لم أستوعب بعد ،
كيف يمكن أن يحتوي جسده وحده كلَّ هذا الحقد ، و الغضب ، و السخط ، الذي لم أرَ له مثيل من قبل .

بعد كل تلك الفوضى صاح الحارس الثاني ، محاولاً إيقاف الحارس الأول عمّا يفعله ...

الحارس الثاني :
" توقف يا رجل . "
صاح الحارس برعب ....
" أنتَ تكاد تقتله ، لا أظن أنّه من المناسب دخول حارس للسجن بعد قتله لعجوز مخمور . "

بعدها ، و كما بدأ الرجل بضربي فجأة ، توقف عن ضربي فجأة أيضاً .....

الحارس الأوّل :
" أنتَ تستحق ما حصل لك أيها العجوز ، و لا تلم أحداً إلّا نفسك . "

أردتُ أن أردّ عليه ببضع كلمات تُذهب بعقله التافه ،
لكني لم أستطع تحريك لساني ،

ثمَّ ذهب الاثنان ، و اختفيا في جُنح الظلام ، و لم يعبأ أحدهما بشيء ......

و أنا الآن أغرق في بحر من الألم و التأوّه ،
و بعد أن اختفى الخدر من جسدي تماماً ، أصبحت وطأة الألم عليَّ أشد ،
فلم أعد أعرف ما يؤلمني أكثر ، آثار السوط ،
أم الكدمات و الجروح ، الناتجة عن ضربه لي بجنون ،

عصفت الريح بقوة ، فسمعت صوت صفقات نوافذ بعض البيوت القريبة ،

و راحت تبعثر أوراق الشجر الجافة ، المُلقاة على الأرض يميناً و شمالاً ،
ثمَّ ضاع الوقت مني ، و كذلك اسمي ، و من أكون ، و أين أكون ، و أُغمي عليَّ .....

و لمّا استيقظت ، كنت لا أزال على الأرض ، و جميع أطرافي تؤلمني ،
و حاولت النهوص ، لكني لم أستطع ، و جلست أتأوّه من الألم ثانية ،
و وجدتُ أنني قد بللتُ ملابسي .

ثمَّ سمعتُ صوت وقع أقدام بدأ يقترب مني ،

ارتعبتُ قليلاً ، فلا شكَّ أنّه أحد القتلة النشالين ، أو أحد أؤلئك الحراس ثانية ،

و في الحالتين ، لمَ الخوف ؟ ،
فبعد الذي حصل لي ، لا أظنّ أنّ الأسوء قادم ،
- و قد كان حدسي صحيحاً وقتها -

توقف صوت وقع الأقدام في الشارع عندما وصل صاحبها إليّ ،

و من خلف الظلام نظرت إليه ،
لقد كان درويشاً طويلاً ، و نحيفاً ، يرتدي عباءة طويلة كذلك ،

أحنى الدرويش ظهره ، و ساعدني على النهوض ،
و قال لي أن اسمه " شمس التبريزي " ،
كان لهذا الاسم وقع غريب على أذني ، و فكري ،

ثمَّ قام بسؤالي عن اسمي ، فأجبته بعدنان القونيّ ، ثم أخرج مرهماً و أعطاه لي ، و قال أنَّ رجلاً طيباً من بعداد قد أعطاه له ،

و أنني أحوج إليه منه ، ثم قال أن هذا المرهم سوف يشفي جروحي الخارجية ، و الباطنيّة ،
و قال أن الجروح الباطتية أشدّ و أصعب من الخروج الخارجية ،
و قال أن المرهم سوف يذكرني كذلك بأنني أحمل آية من آيات الله في داخلي .

" شكراً لك أيها الدرويش . "
نطقت هذه الكلمات ، و أنا أعنيها حقاً ، و قد تأثرت بشدّة لمعاملته لي ، فهو لم يعاملني كالقمامة كحال غيره .

العجوز عدنان :
" إن ما حلَّ بي الآن بسبب حارس ليلي ،
فقد ضربني بشدّة ، و قال لي أنَّ هذا ما أستحقّه . "

و من نبرة صوتي ، كان واضحاً أنني كنتُ أتوق إلى شخص أئئن و أشكو له .....

شمس :
" هذا غير صحيح ، و لا أحد يحقُّ له أم يفعل ذلك ،
كما أنَّ جميع المخلوقات مختلفة ، و مميّزة ،
و كلّ واحد منّا يبحث في قرارته و ذاته عن الله .

و الله قد خلقنا مختلفين ، و لو أرادنا عن نكون متشابهين ،
لخلقنا متشابهين ، و هو سبحانه لا يعجز عن ذلك ،
و إن اختلافنا لهوَ نظام إلهي ،
و لو أننا لم نحترم ذلك الاختلاف ، فسوف نكون عديمي الاحترام لذلك النظام الإلهي الذي وضعه الخالق العظيم .
هكذا تقول قاعدتي . "

العجوز عدنان :
" و لكن أنتَ و من أمثالك أيها الدرويش ، أليس لديكم شكَّ بهذا أبداً . "

شمس :
" و من قال أنّ الشكّ ممنوع ؟ !
هو شيء جيد ، و يعني أنّك دائم التفكّر ، و البحث ،
باختصار ، يعني أنّك على قيد الحياة .

و الإنسان لا يصل إلى اليقين فوراً ،
بل يكون دائم التردد و البحث ، حتى يصل لنقطة ما ،
هذه من الطرق التي تدفعنا للمضي قُدماً ،
و في كل خطوة ، أو عمل ، أو فكرة ،
يزداد المرء قُرباً من الحقيقة بلا ريب . "

ضحكت قليلاً ، و قلت له :
" لو أن صديقي - صاحب الحانة - سمعك ، لأخبرك أنه ليس عليك النطق بكلّ كلمة ،
فليست جميع الكلمات توافق جميع الآذان . "

فصحك شمس بدوره و قال لي أيضاً :

" حسناً ، و لا أظنّ أن صديقك مخطئ بهذا أيضاً .

و الآن لننطلق ،
دعني أحملك إلى منزلك ، و عليك أخذ قسط من الراحة أيضاً . "

ثمَّ قام بمساعدتي على الوقوف ، لكني سرعان ما ترنحتُ ، و كدت أسقط ،
فقام بحملي على ظهره ، دون أن يعبأ بأي شيء .

فشعرتُ بالخجل ، و قلت له :
" أنا ذو رائحة كريهة ، و ملابس متّسخة بالدماء و غيرها الآن أيها الدرويش . "

شمس :
" لا عليكَ يا عدنان ، أنا أفهم وضعك . "

و هكذا ، حملني الدرويش عبر أزقّة قونيا ، و شوارعها نحو منزلي .

العجوز عدنان :
" ألستَ تعتقد أن من يفعل من المسلمين شيئاً من الكبائر ، و يبقى على عمله هذا ،

فسوف يصبح كالنكرة ، على الإسلام و المسلمين ، و و لن يقدر على أن يكون مثلهم ثانيةً ، هذا إن لم يتب ، أو شيء هكذا ، كما قال لي أحدهم ذات مرّة . "

شمس :
عندما ننظر إلى أحد فإننا لا نحكم عليه من ظاهره ، بل ما يُهمّنا هو قلبه ،
و عندما نُحدّق في شخص ما ، فإننا نغلق عينينا ،
و نفتح عيناً ثالثة ،

تلك العين هي التي نراهم بها ، و يُرى بها هو العالم الداخليّ .
بإمكانك القول أنّها تُشبه ما يُسمى بالحاسّة السادسة أو نحوها .

بعد أن أوصلني شمس إلى المنزل و رحل ،
أحسستُ بالوحدة ، و كأنّ شخصاً أألفهُ من زمن ، قد ذهب و تركني ،

و مع ما مررت به في هذه الليلة ، و مع الألم الذي لا زال يغمرني ،
لا أعلم لما شعرتُ بشيء من الطمأنينة و السعادة تغمرني حتى الصميم ،

شعرتُ حقاً أنني قريب من الله ، و للحظة زال الألم تماماً ،
لم أعد أشعر به .
أنا مُمتنّ حقاً .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي