29

" كيرا زوجة الروميّ "

في بعض الأحيان ، كنت أستاء من كوني ولدت امرأة ، و أعلم أن هذا خاطئ ، لكني كنتُ أفعل ذلك .

أنا مولعة بالعلم و القراءة ، و كنت أحب الاطلاع على التاريخ و الفلسفة ، و في كثير من الأحيان ، كنتُ أتمنى أن أُشارك شمس و الروميّ بما يتحدّثان عنه ،

لكن دور المرأة مُختلف تماماً ، فعليها أن تُدير بيتها و شؤونه ، بالإضافة لشؤون أفراد العائلة ، و إعداد ما يحتاجه الجميع من طعام و لباس و غيرها ، و أن تكون عوناً لربّ الأسرة ، و تقوم بمهامها هكذا على أكمل وجه فقط ،

و لم يتطرّق أحد لأهميّة العلم لتلك الدرجة بالنسبة للمرأة .

اتذكّر أنني كنتُ أتسلل إلى مكتبة الروميّ في السابق ، دون أن يراني أحد .

كان قد ورث تلك المكتبة من والده المرحوم بهاء الدين ، و كان يعزّ تلك المكتبة كثيراً ، و يقول أنّها كنزه الثمين ، و التي سوف يورّثها لمن بعده من أبناءه .

كنت أتساءل كثيراً ما الأشياء التي تخفيها تلك الكتب بين صفحاتها ،
و ما الذي من الممكن أن أجده فيها من علوم ،
و كلّما أجد الفرصة سانحة ، كنت اتسلل و أقرأ في المكتبة ، و أستنشق غبار تلك الكتب التي عشقها الروميّ .

لكنّي لم أعرف كم هذه الكتب غالية على الروميّ إلا بعد أن دخلتُ إلى المكتبة في ذلك اليوم .....

كان الجميع قد خرج من المنزل في ذلك اليوم ،
فخطر لي أن أُنظّف مكتبة الروميّ القديمة ، و أجعل ذلك مفاجأة له ،

فدخلتُ إليها ، و أنزلتُ جميع الكتب من على الرفوف ، و قمتُ بمسحها بقطعة قماش مخملية ، مُبللة بماء الورد ،

كما قمتُ بمسح الرفوف كذلك ، و لم ادع ذرة غبار و شأنها ،

ثم عدتُ لتنظيف الكتب ، و بينما أنا جالسة وسط كل تلك الكتب ، وجدتُ نفسي مُنغمسة بقراءة كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي ، و لم أنتبه للوقت من حولي كم امضيتُ و أنا أقرأ فيه ، إلا عندما دخل أحدهم إلى المكتبة و انصدم لرؤيتي ....

لقد كان الرومي ، لكني لم أعرف ما التعابير التي ظهرت على وجهه ، هذه اوّل مرة اراه هكذا منذ ثمان سنوات على زواجنا !! ،

لقد كان متفاجئاً ، أو غاضباً ، أو مُستغرباً ،
لم اعلم تماماً ...

الروميّ :
" ما الذي تفعلينه كيرا ؟ ! "
فأجبته بكلمات ضعيفة ، و انا لا أقلّ دهشة عنه ، لما رأيت منه من ردّة فعل منه :
" إني أُنظف المكتبة ، و اردتُ أن أجعلها لك مفاجأة . "
الروميّ :
" إني ارى ذلك ، لكن أرجو أن لا تُكرري هذا مرّة ثانية ، و الأفضل أن لا تدخلي المكتبة أبداً . "

و من يومها علمتُ أنني لن استطيع الانتماء لمكان فيه كتب ، و لم ادخل للمكتبة بعدها ، حتى عندما لم يكن اي احد في المنزل ،

لذلك عندما قدم إلينا شمس التبريزي ، و بقي في المكتبة مع الرومي لمدّة طويلة ، حزنتُ حقاً ، و جُرحتُ جرحاً ، لم أُدرك أنّه قد بدأ في النزيف .

الآن و قد بدأت براعم النباتات تبزغ من تحت غطاء الثلج ، مضت مُدّة على قدوم شمس التبريزي ألينا ، و عيشه معنا تحت سقف واحد ،

و خلال هذه الفترة ، كان الروميّ يتغيّر شيئاً فشيئاً يوماً بعد يوم ،
كان يجلس مع شمس لفترات طويلة ، فإما أن اراهما يتحدّثان بشكل متواصل و بصوت منخفض تتخللّه بعض الضحكات البسيطة أحياناً ،

فأتساءل ، ألا تنتهي كلماتهما أبداً ؟ !

و في بعص الأحيان الأخرى ، أراهما يجلسان بصمت عجيب ، دون أن ينطقها بحرف ، جالسين بثبات ،

و في كل مرّة يجلس فيها الرومي مع شمس ، كنتُ أراه يتغير لشخص آخر ، و يغرق في تفكيره كأن شيئاً كبيراً يدور في باله .

كان واضحاً أن المكان الذي يجلس فيه الروميّ و شمس مثل عشّ صغير ، لا مكان فيه لأحد ثالث غيرهما .

و قد باتت صلتهما ببعضهما وثيقة تماماً ، حتى مزاجهما يكاد يكون واحداً ،
فهما يضحكان معاً ، و يتجهّمان معاً ، و يصمتان معاً ، و يتحدّثان معاً ،

إن من يراهما ، قد يعتقد أنهما مثل المجانين أحياناً ،
و على كلّ حال ، لم أعد أعرف زوجي تماماً ، هذا الرجل الذي تزوجته منذ زمن طويل ، و اعتنيت بأبنائه كما لو كانوا أبنائي ،
بات الآن شخصاً لا أعرفه .

و لعل الوقت الوحيد الذي أكون قريبة منه فيه ، هو عندما يكون نائماً ،
و أحياناً كنت أُمضي الليل و أنا مُستيقظة ، أراقب انفاسه و هو نائم ، و أسمع نبضات قلبه ، و أنا غارقة في تفكيري ، إلى أي مدى سيتغيّر حالنا بعد ؟؟ ،

و أحاول أن اواسي نفسي احياناً ، بأن هذه فترة مؤقتّة ، و سوف تمضي ، و سيغادرنا شمس يوماً ما ، لأنّه درويش جوّال ، و سوف نعود لما كنا عليه ،
و ما عليَّ إلّا أن أنتظر بصبر ، و سوف يعود الروميّ إليّ ، فهو ينتمي إلى هذه المدينة ، و إلى مريديه و من يحبّه ،

و لمّا كان يصيبني شيء من اليأس أحياناً ، كنت اتذكّر الأيام التي خلت ، عندما كان الروميّ يقف معي في أصعب الظروف التي كنتُ أواجهها ،

" إن كيرا امرأة مسيحيّة ، و حتى لو دخلت دين الاسلام ، فسوف تبقى غريبة عنّا . "

" كيف لرجل دين عظيم ، أن يتزوّج من امرأة مسيحيّة ؟ . "

هذه كانت من أكثر الجمل التي سمعتها منذ كنا مخطوبين لبعضنا ، و لا أزال أسمعها إلى الآن .

لكنّ الروميّ لم يكن يُعير كلامهم أي انتباه يوماً ، و كانت معاملته لي هي الأفضل ، لذلك مهما كان ، فأنا سوف أبقى ممتنّة له ما دمت على قيد الحياة .

و لمّا كان الأناضول مزيجاً من الأديان ، كان شعبه يتشارك ذات التقاليد و الأغاني و العادات ، و نتناول ذات الطعام ، و لدينا نفس الأحلام ، و نشترك في كثير من الأشياء الأخرى ،

لكنّ يصبح الامر مُختلفاً تماماً عندما يتلّق الأمر بالدين !!!


فقد كانت هناك حدود بين المسيح و المسلمين ،
و لمّا كنت انا زوجة عالم مسلم معروف ،
كان جميع مَنْ حولي يعتقد أنني أُمتلك خصوصية كبيرة لرجال العلم و الدين ، و لهم مكانة فريدة عندي ،

لكنّهم كانوا مخطئين ، فعلى الرغم من أن العلماء يعرفون أموراً كثيرة ، إلّا أننا لا نفهم معظم ما يقولون ، فنحن لا نعلم ما يعلمون ،

فهم احياناً ينطقون بكلمات و مفردات غريبة ، يصعب علينا فهمها ،

و يقولون ان اصعب شيء على المسيحي عندما يدخل الإسلام ان يترك الثالوث ،
ففي القرآن يقول المسيح : " إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيّاً "

و أنا لا اجد صوبة أبداً بتصديق أن النبي عيسى ليس ابن الله ،
لكنّي ما زلت أكنّ خصوصية عظيمة للسيدة مريم ،
و منذ ان اتى شمس إلينا ،
أصابني شيء من اليأس و الكآبة ،
بدأت أحن لها ، و أشتاق لها كثيراً ، و أحياناً كنت أجد رغبة كبيرة بالصلاة لها ،

لكن هذه الرغبة لم تتوقّف ، و خصوصاً و أنا في وضعي الصعب هذا ، فمن المؤلم ان اكون بجانب الرومي ، و اشعر انني بعيدة عنه تماماً ،

لذلك كان ينتابني القلق من انني أخون ديني الجديد الآن ،
لكني لم استطع ان اخبر اي احد بذلك .
حاولت أن أجد فرصة لاخبار الروميّ بذلك ، لكنيّ كنت اخاف كثيراً من أن يبتعد عني أكثر ، لذلك لم اخبره شيئاً ،

و حتى أقرب صديقاتي إليّ ، و أمينة سري التي اخبرها بكل ما يزعجني ، لم أستطع قول أي شيء لها ، فهي لن تفهمني ، و اظن ان هذا سيبقى سراً دفيناً في داخلي ، لا عِلمَ لأحد به أبداً .

.........

" كيميا ابنة صديق الروميّ "

لن أنسى ابدا اليوم الذي أتيت فيه ، لكي أعيش عند الروميّ ، و اتعلّم عنده ......

كنتُ أعيش في قرية من قُرى جبال طوروس ، و كان والدي فلاحاً ، و أُمي حائكة سجاد ،

كنتُ في بعض الأحيان أرى شبح أخي المتوفى ، و الذي أُصيب بمرض بسيط و أودى بحياته ،

كنت أُخبر أمي و أختي أحياناً ، لكنّهما كانتا تخافان مما أقول ، و تبكيان في بعض الأحيان كذلك ،

كنتُ أخبرهما أن أخي يأتي باستمرار لزيارتنا ، و هو ليس وحيداً ، او حزيناً ، لكن كلامي لم يكن يُجدي نفعاً ، فلم تطمئن أختي و أمي لما أقول ،

ذات مرّة أتى إلينا رجل مسافر ، قد دعاه أبي ليرتاح عندنا بعدما عَلمَ أنّه أحد تلاميذ صديقه الروميّ ، لذا أراد ابي ان يُكرمه إكراماً للروميّ .

و في مساء ذلك اليوم ، كنا جالسين جميعاً ، فحدّثنا تلميذ الروميّ عن أسفاره و رحلاته الكثيرة ،
و بينما هو يتكلّم عن تلك الأماكن ، أغمصتُ عيناي ، و بدأت أراها بعيني ، و أتحسي كل شيء فيها ،

الصحراء العربية الكبرى الشاسعة ، و مضارب لبعض البدو الذين تحدّث عنهم ،
و كذلك بحر شديد الزرقة المائلة للبياض ، يُطلقون عليه اسم البحر الأبيض المتوسط ،

لقد شممتُ رائحة مياهه ، و وقفتُ على شاطئ من شواطئه استنشق عبيره ،

لكنّ رائحة مزعجة قد منعتني من إكمال رحلتي هذه ،
فتحتُ عيناي ، و رأيتُ وجه أمي القلق ، و هي تحمل قطعة بصل و تضعها عند أنفي لكي أستفيق .

لقد كان مُغماً عليَّ ، و بعد ان أفقت و اطمأنّت عائلتي عليّ ، سمعتُ والدي يتحدّث إلى تلميذ الروميّ ، و يخبره عن حالات الإغماء التي تنتابني منذ أن كنتُ صغيرة ،

صمتَ تلميذ الروميّ و فكّر قليلاً ، ثمّ قال لوالدي ...

تلميذ الروميّ :
" إنّ ابنتك فتاة مميّزة يا أخي ، و أنصحكَ أن ترسلها إلى عند مَنْ يُعلّمها ، فهي ستكون نابغة في العلم . "

اعترضَت والدتي بشدّة عندما سمعت هذا الكلام ، و قالت أن لا حاجة للفتاة بالتعلّم و الدراسة ، فهي ستكون ربّة منزل و لديها مسؤليات يوماً ما ،
و أن ما أحتاجه الآن هو التركيز على حياكة السجاد ، لكي أُصبح ماهرة في ذلك ، فلديّ القدرة على الإبداع في حياكة السجّاد ،
كما أنّها بحاجة إليّ لكي أكون عوناً لها في المنزل .

لكنّ أبي خاطب تلميذ الرميّ بقوله :
" و إلى أي معلّم أستطيع إرسالها برأيك ؟
هل هناك شخص معيّن في بالك ؟ "

تلميذ الروميّ :
" لعلّك تعرفه تمام المعرفة يا أخي ،
و مَنْ سيكون غير العالم الجليل الروميّ ؟ . "

اعترضت والدتي بشدّة ثانية ، لكن ابي لم يُصغي لأي من كلامها ، فهو الوحيد الذي كان يؤمن بقدراتي يوماً ،

و لا يخاف منها ، او يعترض عليها كما فعل الآخرون .

و بعدها بأيّام ، تجهّزنا أنا و أبي لرحلتنا إلى الرومي ، في قونية ،
و خرجتُ من المنزل ، و ودّعتُ الجبال التي لطالما عشتُ في أحضانها ،

و الحقول الخصبة ، التي أطعمتني من خيراتها ،
و ودّعتُ كلّ شيء هناك في الجبال ،
الشجر و الحجر ، و جميع أنواع الطيور التي عاشت معنا هناك ، و كذلك الأزهار البريّة ، و النهر العذب الذي روى ظمأنا بماءه .

ودّعتُ كل شيء ، و لسبب ما اعتقدت أنني لن أعود إلى هذا المكان ثانيةً ما حييت ،
مع أن والدي اخبرني أن الروميّ من الممكن ان لا يقبلني تلميذة عنده
،
و حتى لو كان أبي صديقه ، لكن الرومي ليس من النوع الذي سيجامل شخصاً ما ، لأنه قريب منه ،
فإن لم يكن يراني كفئاً ، فلن اصبح تلميذة عنده ، و هكذا سوف أعود خالية اليدين ،

و مع ان نوعاً من الرهبة تملّكني كلّما فكرت بلقاء الرومي ، إلّا انني حاولت أن اتماسك ، و أن اكون أكثر شجاعة ، لكي أُثبت نفسي .

و هكذا انطلقنا في رحلتنا هذه ، و لم نعلم ما قد تحمله لنا من مفاجئات .

بعد ان وصلنا إلى قونيا ، ذهبنا لنرتاح قليلاً في خان للمسافرين ،
و لكي نستعدّ للقاء الروميّ في اليوم الذي يليه ...

و في ضحوة اليوم التالي ، انطلقنا فعلاً ، قاصدين لقاء الروميّ .
التقينا بالروميّ بالقرب من منزله ، و وقف والدي يتحدّث معه ، بعد أن ألقيا تحيّة حارة على بعضهما ، و دعانا الروميّ للدخول ،

لكنَّ أبي رفض ذلك ، و قال له :

" أعلم أنّك الآن متوجّه لإعطاء درس ما لطلابك ، و لا أريد أن آخذ من وقتك كثيراً ،
فقط اريد من اطلب منك شيئاً واحداً . "

الروميّ :
" تفضّل يا صديقي العزيز ، و انا إن شاء الله لن أُخيّبك ما استطعت . "

و هكذا بدأ والدي يحكي للروميّ قصّتي ، و ما قاله تلميذه عني ،
و سأله عن إمكانية أن يصبح مُعلّماً لي ،

و هما يتحدّثان هكذا ، شردتُ قليلاً عنهما ، و رأيت شابّة تقف بقرب بيت الرومي ،
كانت كالملاك ، بوجهها الذي بدى مثل الرخام بجماله ، و قد ارتدت ثوباً اصفر حريرياً ، و كانت تحمل شالاً أحمر صغيراً بيدها ،

و عندما بقيت أُحدّق فيها لفترة من الوقت ، بادلتني بنظراتها ،
لكني لم أعلم وقتها لمَ اندهشت عند رؤيتي ؟ ،

و بعد برهة ، لوحت لي الشابّة بيدها ، فلوحتُ لها كذلك ، ثمّ اقتربت مني ، و اقتربت منها ،
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي