7
قائلاً أنّه درويش جوّال يبحث عن الله تعالى ،
فابتسمت و سألته : و إذاً هل وجدته ؟
فأجاب : نعم ، فهو معيَ طوال الوقت .
لم يتمالك القاضي نفسه إلّا و تدخّل ، و قد كان واضحاً أنّه شخص نقيض شمس تماماً ...
القاضي : إن الله معك طوال الوقت ، فما الذي تبحث عنه بقولك هذا إذاً ؟ ...
بقي شمس صامتاً لبرهة ، ثم أجاب بهدوء و اتّزان :
مع أنّه لا يمكنك إيجاده بالبحث عنه ، إلا أنّ الذين يبحثون عنه ، هم فقط من سوف يجدونه .
القاضي : أرى أنك تتلاعب بالكلمات وحسب ، هل تخبرني يا هذا أنه من غير الممكن لي أن أجد الله ، أو أنّني سأكون بعيداً عنه ، فقط لأني لا أغادر مكاني ، و أتجوّل في كل مكان مثلك ، بحثاً عنه ؟
شمس : لعلك أسأت فهمي ، فهذا ممكن و بكلّ تأكيد ،
يوجد أناس رأوا العالم بأكمله ، دون أن يسافروا لأي مكان قط .
فردّ عليه القاضي و بكلّ فخر ، و كأنّه قد انتصر بمعركة ما :
هذا ما كنت سأقوله بالضبط .
لكن سرعان ما حطّم شمس فخره هذا عندما قال :
و ما كنت أقصده أنا أيها القاضي ، أنّ أمثالك لا يبدو عليهم أنّهم من زمرة من يبحثون على الله تعال ،
بفراءهم ، و ملابسهم الحريرية ، و المجوهرات الباهضة التي يضعونها ...
اختنق جميع الحضور بأنفاسهم ... ، فهم الآن في معركة حامية الوطيس حقاً ،
فحتى مع مرض القاضي ، لم يستطع طبيبه إخباره بأن يقلل من وجباته حفاظاً على صحته ، ناهيك عن من ينتقد خيالاءه و غروره ...
القاضي : أرى أن لسانك حاد و سليط ، و لا يليق بدرويش أبداً ! .
" حتى لو أمسكني العالم كلّه من عنقي ، عندما أشعر أنّ هناك ما ينبغي عليّ قوله ، فسوف أقوله . "
تجهّم وجه القاضي من قول شمس ، و لحسن حظّ الجميع ، أنّه قد غيّر الموضوع فجأة و لم يعلم أحد السبب ،
لكنَّ شمس يمتلك حضوراً يجعل من حوله يحسب حساباً له ...
القاضي : أفعل ما تريد ... ، لقد كنّا قبل حضورك نتحدّث عن بغداد ، و أنّها من أجمل المدن على الإطلاق ، فما رأيك ؟
رمق شمس جميع الحضور بنظراته ، ثم أوجز :
لا أحد يمكنّه إنكار روعة مدينة بغداد ، إلا أنّ المدن يا سادة ، عبارة عن مرايا روحية عملاقة لأصحابها ، فإن أظلمت قلوبهم ، تداعت تلك المدن و هوت ، و قد رأينا ذلك كثيراً ....
لقد كان القاضي يستهتر بكلام شمس في كلّ مرّة ، على الرغم من أنّ كل كلماته ، كانت عين الحقيقة ...
لم يملك درويش التكية إلّا أن يهزّ رأسه بصمت ، لكنّه كان شديد الإعجاب بشمس ،
" على الرغم من أنّه كان ينظر إليّ بنظرات وديّة ، إلّا أنّ عينيه كانت تلتهب شبيهةً بالشمس حقاً ، لم يحمل اسمه عن عبث ابداً ،
في نظري كان مليئاً بالحيوية ، يحترق كالنار ، لا بل كان شمس هو الشمس بعينها .... . "
و بعد محادثة دامت فترة لا بأس بها ، غادر القاضي ، و رافقه التلميذ الشاب ذو الشعر الأحمر ، حتى الباب ...
" أخيراً ، قد غادر هذا القاضي ، الذي لم يسبب لنا غير المتاعب يوماً ، و بعد أن رافقته حتى الباب ، عدت بسرعة لكي أجمع الصحون الفارغة ، و أرتّب المكان و أنظفه قبل أن يغضب مني حضرة الطاهي مجدداً ،
و عندما دخلت ، رأيت درويش التكية و التبريزي يحدّقان ببعضهما ، صامتين على حالهما منذ تركتهما ، ....
من يراهما هكذا يظنّ أنّهما يتحدّثان بالتخاطر ، حسناً هذا مضحك بعض الشيء ، لكن إذا ضحكت الآن هكذا ، سيكسر الطاهي عظامي ...
و في الحقيقة أنا معجب بشجاعة هذا التبريزي ، لو كنت مثله ، لما تجرّأ الطاهي على معاملتي هكذا ،
توجّهت إلى المطبخ لأضع الصحون الفارغة هناك ، فطلب مني الطاهي القيام بالعديد من الأعمال مجدداً ، و التي من شأنها أن تحطم عظامي دون مساعدة الطاهي ،
لكنّي تجاهلت أمره هذه المرة ، كنت متحمّساً لسماع قصص ذلك الدرويش الجوال ، و لا شكّ أنّه يخبر المعلم عن إحداها الآن ، فعدت إلى حيث تركتهما مُسرعاً ، ...
وقفت خلف الباب الخشبي ، و نظرت من خلال شق صغير فيه ، كان الظلام قد حلّ ، فاحتجت لبضع ثوانٍ حتى اعتادت عينيّ على الظلام ، ....
رأيت التبريزي جالساً في مكانه ، و كأنّه تمثال ساكن ،
فدرات المحادثة التالية بينه و بين المعلم :
درويش التكية : " ما الذي أتى بشخص مثلك إلى هنا ، أيها التبريزيّ ؟ . "
شمس : " لقد شاهدت مدينة بغداد في إحدى رؤياي . "
درويش التكية : " تقصد أنّك قد رأيتها في حلمك ؟ . "
شمس : " كلا أيها السيد ، لم يكن حلماً بل رؤيا ، فأنا لا أرى أحلاماً البتة . "
درويش التكية : " ليس هناك من لا يرى أحلاماً ، و لعلك تراها ثم تنسى ، و هذا يحصل . "
شمس : " إنّي أرى الرؤى منذ أن كنت طفلاً ، و لما كنت أخبر والديّ كانا ينزعجان مني ، و يخبراني أن أكفَّ عن هذه الأحلام ،
و كذلك الحال مع أصدقائي ، و معلميَّ الذين كنت أخبرهم أيضاً ، كلهم كانوا يهزؤون مني ، أو يتصايقون ، و يقولون لي أن هذه أحلام ، لا أكثر ،
و هذا لأنهم لم يفهموا ما كنت أقول ،
لذا دعوت الله أن لا أرى حلما ما حييت ، لكي أستطيع التمييز جيداً بين الرؤيا و الحلم ،
و قد استجاب الله دعواي ، لكن عوضاً عن الأحلام التي لم أعد أراها ، أصبحت قادراً على تفسير أحلام الآخرين . "
عندما سمعت هذا الكلام ، كنت متأكداً من أنَّ المعلم سيغضب منه ، و ينعته بالمجنون ، و يوبّخه كما يفعل لي أحياناً ، لكني دُهشت عندما بقي المعلم هادئاً ، و أومَأ براسه فقط ، أي أنّه سلّم بصحة ، و حقيقة كلام التبريزي ،
أنا قد ازددت إعجاباً بشمس هذا حقاً ،
لكن لحظة .... ، لمَ توقف الدرويش الجوّال عن الكلام فجأة ؟
يا إلهي إنه ينظر ناحيتي بعينيه المرعبة تلك ، هل يعلم بوجودي هنا ؟ ، إنَّ نظراته تقول ذلك .
نهض شمس من مكانه ، و توجّه نحو الباب الخشبي ، حيث يجلس التلميذ خلفه .....
لقد توجّه نحوي ، لماذا ؟
للحظة ، شعرت برعب شديد ، و مع أنّني حاولت النهوض ، و الهرب إلى المطبخ ، إلّا أنني لم استطع ،
لقد خارت كلّ قواي ، و تجمدت بمكاني ، و توقف الدم في عروقي ، و أصبحت ضربات قلبي متسارعة بجنون ...
لم أستطيع رؤية أي شيء ، غير عيني شمس ، و عندما اقترب كثيراً من الباب ، لم أعد قادراً على رؤية أي شيء .
وضع شمس يده على مقبض الباب ، و بقي على حاله هذا لدقيقة ، و عِدّة ثوان قد مرّت على التلميذ و كأنّها دهر طويل ، لم يستطع فيها حتى التنفس ...
رفع شمس يده عن مقبض الباب دون فتحه ، و عاد إلى مكانه ،
لم يسأله درويش التكية لمَ قد نهض فجأة ثم عاد .
يا إلهي ... ، لقد تنفست و عدت للحياة الآن ، ما بال هذا الرجل ؟ شعرت أنّني بعداد الموتى .
عاودت الاستماع إلى حديثم ، فقد ازداد فضولي أكثر ، لكنّي لم أتعلم من درسي الأول من شمس ، و لم أعلم أني سأندم على ذلك لاحقاً ....
وقف شمس التبريزي بحانب النافذة المفتوحة على مصراعيها ، و قد استغرق في التفكير ...
طلب المعلم من شمس أن ينتظره للحظة حتى يُشعل الفانوس الزيتي ، بعد أن غربت الشمس تماماً ، ثمَّ أكملا الحديث بعدها ....
درويش التكية : " واضح أنّك رجل مميّز و غير عادي ، و لكن أخبرني ، كيف أستطيع مساعدتك ؟ . "
شمس : " في الحقيقة ، أنا نفسي لا أعرف ، و كنت أتمنى أن تخبرني أنتَ كيف يمكنكَ مساعدتي . "
تحيّر درويش التكية من كلام شمس هذا ، و سأله :
" ماذا تقصد ؟ . "
فقال له شمس بعينين يملؤها شعاع الحنين :
" انظر أيها السيّد :
إنّي درويش أجوب أرض الله الواسعة ، منذ حوالي ثلاثة عقود تقريباً أو يزيد ،
و في الحقيقة ، يوجد مكان واحد فقط يمكنه أن يساعدك في طريقك إلى الله ؛
إنّه قلب عاشق حقيقي ،
فلم يعش أحد بعد رؤيته ، و لم يمت أحد بعد رؤيته ، فمن يجد هذا المكان ، يعش فيه إلى الأبد . "
كان ضوء الفانوس خافتاً ، و مُرتعشاً ، مما جعل شمس يبدو أكثر طولاً ، و قد ارتمى شعره في موجات غير مُرتّبة على أكتافه ...
إن المعرفة إذا لم تتدفق إلى مكان ما ، فهي أشبه بمياه راكدة ، سوف تفسد لا محال ،
و منذ سنين وأنا أطلب من الله أن يعرّفني على رفيق لي ، أشاطره المعرفة الكامنة في داخلي .
و في الفترة الماضية ، و عندما كنت في سمرقند ، أخيراً قد جاءتني رؤيا ، تخبرني فيها أن أتوجّه إلى بغداد ، حيث سألتقي بذلك الرفيق ، أو أجد دليلاً يوصلني إليه .
و أنا واثق من أنّ قدري سوف يتحقق هنا ،
و أعلم أيضاً أنك تعرف ذلك الشخص حق المعرفة ، و تعرف اسمه ، و سوف تدلّني عليه ، و إن لم يكن اليوم ، فربما غداً .
فابتسمت و سألته : و إذاً هل وجدته ؟
فأجاب : نعم ، فهو معيَ طوال الوقت .
لم يتمالك القاضي نفسه إلّا و تدخّل ، و قد كان واضحاً أنّه شخص نقيض شمس تماماً ...
القاضي : إن الله معك طوال الوقت ، فما الذي تبحث عنه بقولك هذا إذاً ؟ ...
بقي شمس صامتاً لبرهة ، ثم أجاب بهدوء و اتّزان :
مع أنّه لا يمكنك إيجاده بالبحث عنه ، إلا أنّ الذين يبحثون عنه ، هم فقط من سوف يجدونه .
القاضي : أرى أنك تتلاعب بالكلمات وحسب ، هل تخبرني يا هذا أنه من غير الممكن لي أن أجد الله ، أو أنّني سأكون بعيداً عنه ، فقط لأني لا أغادر مكاني ، و أتجوّل في كل مكان مثلك ، بحثاً عنه ؟
شمس : لعلك أسأت فهمي ، فهذا ممكن و بكلّ تأكيد ،
يوجد أناس رأوا العالم بأكمله ، دون أن يسافروا لأي مكان قط .
فردّ عليه القاضي و بكلّ فخر ، و كأنّه قد انتصر بمعركة ما :
هذا ما كنت سأقوله بالضبط .
لكن سرعان ما حطّم شمس فخره هذا عندما قال :
و ما كنت أقصده أنا أيها القاضي ، أنّ أمثالك لا يبدو عليهم أنّهم من زمرة من يبحثون على الله تعال ،
بفراءهم ، و ملابسهم الحريرية ، و المجوهرات الباهضة التي يضعونها ...
اختنق جميع الحضور بأنفاسهم ... ، فهم الآن في معركة حامية الوطيس حقاً ،
فحتى مع مرض القاضي ، لم يستطع طبيبه إخباره بأن يقلل من وجباته حفاظاً على صحته ، ناهيك عن من ينتقد خيالاءه و غروره ...
القاضي : أرى أن لسانك حاد و سليط ، و لا يليق بدرويش أبداً ! .
" حتى لو أمسكني العالم كلّه من عنقي ، عندما أشعر أنّ هناك ما ينبغي عليّ قوله ، فسوف أقوله . "
تجهّم وجه القاضي من قول شمس ، و لحسن حظّ الجميع ، أنّه قد غيّر الموضوع فجأة و لم يعلم أحد السبب ،
لكنَّ شمس يمتلك حضوراً يجعل من حوله يحسب حساباً له ...
القاضي : أفعل ما تريد ... ، لقد كنّا قبل حضورك نتحدّث عن بغداد ، و أنّها من أجمل المدن على الإطلاق ، فما رأيك ؟
رمق شمس جميع الحضور بنظراته ، ثم أوجز :
لا أحد يمكنّه إنكار روعة مدينة بغداد ، إلا أنّ المدن يا سادة ، عبارة عن مرايا روحية عملاقة لأصحابها ، فإن أظلمت قلوبهم ، تداعت تلك المدن و هوت ، و قد رأينا ذلك كثيراً ....
لقد كان القاضي يستهتر بكلام شمس في كلّ مرّة ، على الرغم من أنّ كل كلماته ، كانت عين الحقيقة ...
لم يملك درويش التكية إلّا أن يهزّ رأسه بصمت ، لكنّه كان شديد الإعجاب بشمس ،
" على الرغم من أنّه كان ينظر إليّ بنظرات وديّة ، إلّا أنّ عينيه كانت تلتهب شبيهةً بالشمس حقاً ، لم يحمل اسمه عن عبث ابداً ،
في نظري كان مليئاً بالحيوية ، يحترق كالنار ، لا بل كان شمس هو الشمس بعينها .... . "
و بعد محادثة دامت فترة لا بأس بها ، غادر القاضي ، و رافقه التلميذ الشاب ذو الشعر الأحمر ، حتى الباب ...
" أخيراً ، قد غادر هذا القاضي ، الذي لم يسبب لنا غير المتاعب يوماً ، و بعد أن رافقته حتى الباب ، عدت بسرعة لكي أجمع الصحون الفارغة ، و أرتّب المكان و أنظفه قبل أن يغضب مني حضرة الطاهي مجدداً ،
و عندما دخلت ، رأيت درويش التكية و التبريزي يحدّقان ببعضهما ، صامتين على حالهما منذ تركتهما ، ....
من يراهما هكذا يظنّ أنّهما يتحدّثان بالتخاطر ، حسناً هذا مضحك بعض الشيء ، لكن إذا ضحكت الآن هكذا ، سيكسر الطاهي عظامي ...
و في الحقيقة أنا معجب بشجاعة هذا التبريزي ، لو كنت مثله ، لما تجرّأ الطاهي على معاملتي هكذا ،
توجّهت إلى المطبخ لأضع الصحون الفارغة هناك ، فطلب مني الطاهي القيام بالعديد من الأعمال مجدداً ، و التي من شأنها أن تحطم عظامي دون مساعدة الطاهي ،
لكنّي تجاهلت أمره هذه المرة ، كنت متحمّساً لسماع قصص ذلك الدرويش الجوال ، و لا شكّ أنّه يخبر المعلم عن إحداها الآن ، فعدت إلى حيث تركتهما مُسرعاً ، ...
وقفت خلف الباب الخشبي ، و نظرت من خلال شق صغير فيه ، كان الظلام قد حلّ ، فاحتجت لبضع ثوانٍ حتى اعتادت عينيّ على الظلام ، ....
رأيت التبريزي جالساً في مكانه ، و كأنّه تمثال ساكن ،
فدرات المحادثة التالية بينه و بين المعلم :
درويش التكية : " ما الذي أتى بشخص مثلك إلى هنا ، أيها التبريزيّ ؟ . "
شمس : " لقد شاهدت مدينة بغداد في إحدى رؤياي . "
درويش التكية : " تقصد أنّك قد رأيتها في حلمك ؟ . "
شمس : " كلا أيها السيد ، لم يكن حلماً بل رؤيا ، فأنا لا أرى أحلاماً البتة . "
درويش التكية : " ليس هناك من لا يرى أحلاماً ، و لعلك تراها ثم تنسى ، و هذا يحصل . "
شمس : " إنّي أرى الرؤى منذ أن كنت طفلاً ، و لما كنت أخبر والديّ كانا ينزعجان مني ، و يخبراني أن أكفَّ عن هذه الأحلام ،
و كذلك الحال مع أصدقائي ، و معلميَّ الذين كنت أخبرهم أيضاً ، كلهم كانوا يهزؤون مني ، أو يتصايقون ، و يقولون لي أن هذه أحلام ، لا أكثر ،
و هذا لأنهم لم يفهموا ما كنت أقول ،
لذا دعوت الله أن لا أرى حلما ما حييت ، لكي أستطيع التمييز جيداً بين الرؤيا و الحلم ،
و قد استجاب الله دعواي ، لكن عوضاً عن الأحلام التي لم أعد أراها ، أصبحت قادراً على تفسير أحلام الآخرين . "
عندما سمعت هذا الكلام ، كنت متأكداً من أنَّ المعلم سيغضب منه ، و ينعته بالمجنون ، و يوبّخه كما يفعل لي أحياناً ، لكني دُهشت عندما بقي المعلم هادئاً ، و أومَأ براسه فقط ، أي أنّه سلّم بصحة ، و حقيقة كلام التبريزي ،
أنا قد ازددت إعجاباً بشمس هذا حقاً ،
لكن لحظة .... ، لمَ توقف الدرويش الجوّال عن الكلام فجأة ؟
يا إلهي إنه ينظر ناحيتي بعينيه المرعبة تلك ، هل يعلم بوجودي هنا ؟ ، إنَّ نظراته تقول ذلك .
نهض شمس من مكانه ، و توجّه نحو الباب الخشبي ، حيث يجلس التلميذ خلفه .....
لقد توجّه نحوي ، لماذا ؟
للحظة ، شعرت برعب شديد ، و مع أنّني حاولت النهوض ، و الهرب إلى المطبخ ، إلّا أنني لم استطع ،
لقد خارت كلّ قواي ، و تجمدت بمكاني ، و توقف الدم في عروقي ، و أصبحت ضربات قلبي متسارعة بجنون ...
لم أستطيع رؤية أي شيء ، غير عيني شمس ، و عندما اقترب كثيراً من الباب ، لم أعد قادراً على رؤية أي شيء .
وضع شمس يده على مقبض الباب ، و بقي على حاله هذا لدقيقة ، و عِدّة ثوان قد مرّت على التلميذ و كأنّها دهر طويل ، لم يستطع فيها حتى التنفس ...
رفع شمس يده عن مقبض الباب دون فتحه ، و عاد إلى مكانه ،
لم يسأله درويش التكية لمَ قد نهض فجأة ثم عاد .
يا إلهي ... ، لقد تنفست و عدت للحياة الآن ، ما بال هذا الرجل ؟ شعرت أنّني بعداد الموتى .
عاودت الاستماع إلى حديثم ، فقد ازداد فضولي أكثر ، لكنّي لم أتعلم من درسي الأول من شمس ، و لم أعلم أني سأندم على ذلك لاحقاً ....
وقف شمس التبريزي بحانب النافذة المفتوحة على مصراعيها ، و قد استغرق في التفكير ...
طلب المعلم من شمس أن ينتظره للحظة حتى يُشعل الفانوس الزيتي ، بعد أن غربت الشمس تماماً ، ثمَّ أكملا الحديث بعدها ....
درويش التكية : " واضح أنّك رجل مميّز و غير عادي ، و لكن أخبرني ، كيف أستطيع مساعدتك ؟ . "
شمس : " في الحقيقة ، أنا نفسي لا أعرف ، و كنت أتمنى أن تخبرني أنتَ كيف يمكنكَ مساعدتي . "
تحيّر درويش التكية من كلام شمس هذا ، و سأله :
" ماذا تقصد ؟ . "
فقال له شمس بعينين يملؤها شعاع الحنين :
" انظر أيها السيّد :
إنّي درويش أجوب أرض الله الواسعة ، منذ حوالي ثلاثة عقود تقريباً أو يزيد ،
و في الحقيقة ، يوجد مكان واحد فقط يمكنه أن يساعدك في طريقك إلى الله ؛
إنّه قلب عاشق حقيقي ،
فلم يعش أحد بعد رؤيته ، و لم يمت أحد بعد رؤيته ، فمن يجد هذا المكان ، يعش فيه إلى الأبد . "
كان ضوء الفانوس خافتاً ، و مُرتعشاً ، مما جعل شمس يبدو أكثر طولاً ، و قد ارتمى شعره في موجات غير مُرتّبة على أكتافه ...
إن المعرفة إذا لم تتدفق إلى مكان ما ، فهي أشبه بمياه راكدة ، سوف تفسد لا محال ،
و منذ سنين وأنا أطلب من الله أن يعرّفني على رفيق لي ، أشاطره المعرفة الكامنة في داخلي .
و في الفترة الماضية ، و عندما كنت في سمرقند ، أخيراً قد جاءتني رؤيا ، تخبرني فيها أن أتوجّه إلى بغداد ، حيث سألتقي بذلك الرفيق ، أو أجد دليلاً يوصلني إليه .
و أنا واثق من أنّ قدري سوف يتحقق هنا ،
و أعلم أيضاً أنك تعرف ذلك الشخص حق المعرفة ، و تعرف اسمه ، و سوف تدلّني عليه ، و إن لم يكن اليوم ، فربما غداً .