10

" شمس "


مضى على مجيء شمس إلى بغداد ، و مكوثه في في التكية حوالي سنة تقريباً ،
و أنا الآن أصبحت أعرف شمساً أكثر من ذي قبل ، و لكنّه ما زال مليئاً بالأسرار ، و يمتلك الكثير في جعبته ، خلف نظرات عينيه تلك ، التي تبدو و كأنّها ملَكتْ كلّ شيء تقريباً ، ....

لكنّي بتُّ أعلم أنّه لا يحبّ أن يتقيّد بأحد أبداً ، فهو معتاد على أن يسبح بفضاءه بحريّة ، و كنتُ أشعر أنّه سيحزم أغراضه و يرحل هارباً في أي لحظة ،

و لولا أنّه على قناعة بأني سوف أساعده في إيجاد رفيقه ، كما واعدته في ذلك اليوم ، لربما غادر التكية منذ زمن ....

لأن البقاء في التكية يتطلّب من شخص مثل شمس الكثير من الصبر ؛ فالنوم ، و الاستيقاظ ، و تناول الطعام بأوقات محدّدة ،
و القيام بأعمال روتينة كالآخرين كل يوم ، هذا أمر لم يعتد عليه سمش لأكثر من ثلاثة عقود ، و كان يضجر من هذا ، لكنّه كان يكابر لأجل هدفه حقاً ....

كان كثير الجلوس وحيداً ، و يخلو بنفسه باستمرار ، و هو قليل الكلام ،
كنت أتساءل عن ماهية شخص مثله ، فالأمور التي يتعلّمها بعض الدراويش في أشهر ، و بعضهم يستغرق عدة سنوات ، كان شمس يتعلّمها في أسبوع أو أقل ربما ، فقد كان لديه فضول شديد لمعرفة كلّ ما هو جديد ، و غير اعتيادي ....

كانت الطبيعة مصدر إلهام له ، فربما رأيته يقف لساعات في البستان ، و هو يتأمل شبكة العنكبوت المتناظرة ، أو تنسيف أوراق الشجر و شكلها على الغصون .....

و قد تمرّ فترة دون أن يدخل المكتبة ، و يمسك كتاباً ، فيجعلني أعتقد أنّه لم يعد مهتماً بالكتب و ما حوت فيها ، و أنّه لن يمسك أحدها بعد الآن ، و فجأة أراه يغرق بقراءة كتاب قديم ، دون الالتفات لما حوله ....

و كلّما عشت مع شمس أكثر ، كلّما ازددت إعجاباً بذكائه ، و فطنته ، و جرأته ، لكنّي كنت أخشى عليه أحياناً ، فقد كان صريحاً و مستقيماً إلى حدّ الفظاظة نوعاً ما ،

فإذا رأى خطأ من أحد ما ، تحدّث عنه على الفور ، ولم يراوغ أو يجادل أبداً في الموضوع ، مما جعل صدقه و صراحته تزعج الآخرين ، و ي
تجعلهم يشعرون بالإهانة ،

و إذا ما أضجره حديث ما ، أو نطق أحدهم بكلام فارغ لا طائل منه ، نهض من المجلس مُسرعاً ، و لم يكن يضيّع وقته بتملّق الآخرين و مجاملتهم ، فهذا أمر لا يطيقه .

و بالنسبة للأمور التي يوليها الناس أهتماماً ، كالسعادة ، و الاطمئنان ، و الاستقرار و غيرها ، لم تكن تعني له أي شيء ،

مما زاد من خوفي عليه حقاً ، فشخص متّقد مثل شمس ، إن بقي على حاله هكذا ، سيكون له الكثير من الأعداء ، و سيحيط به الخطر لا محال ،
و الله وحده أعلم بنهاية كل واحد منا ،

لكني حاولت على قدر ما أمكنني ، أن أجعل شمس شخصاً أكثر هدوءاً ، و استقراراً ، و يتعايش مع غيره بسهولة و يسر ، و اعتقدت أنني سوف أستطيع فعل ذلك .

..........

" شمس "

من خلف عواصف الثلج الهائجة ، أتى رجل غريب ، قائلٌ أنّه أتى برسالة عاجلة من ،

و في هذا الوقت من السنة تحديداً ، يكون الزوّار نادرين جداً ، كندرة شمس الصيف الحارّة ، ....

هذه الرسالة ، جعلت ألسنة زملائي الدراويش تعمل بجدّ حقاً ، قائلين أنّ وراء قدوم هذا المبعوث في هذا الوقت من السنة ، يعني أمرين :
إما أنّ شيئاً مهمّاً قد حدث ، و إما أنّ شيئاً مهماً على وشك الحدوث ...

كان الجميع متلهفين لمعرفة ما بداخل تلك الرسالة ، التي كانت موجهة إلى درويش التكية ، و بعد أن قرأها و عندما سألوه عن محتواها ، أعرض عنهم ، و لم يعطِ أحداً أي إجابة ، بل أصرّ على الصمت ،

بطرقة ما شعرت أنّ لي علاقة بهذه الرسالة ، لكنّي لم أفعل شيئاً سوى مراقبة ملامح درويش التكية التي أصبحت شديدة البرود .

و خلال تلك الأيام التي لم يتوقف فيها الدراويش عن الثرثرة ، كنت أمضي ليالي مُختلياً بنفسي ، أُردد أسماء الله الحسنى التسعة و التسعبن ، طالباً منه أن يُرشدني ،

أو أبقى في البستان أراقب الطبيعة ، المندثرة تحت هذا الغطاء الثلجي الثقيل .

.......

- الرسالة -

من القيصرية إلى بغداد ،
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي العزيز عبد الله ، السلام عليكم و رحمة الله وبركاته ،
مضى وقت طويل منذ أن رأيتك ، و أرجو أن تكون و الجميع بخير إن شالله ،

في الحقيقة أنا أكتب إليك هذه الرسالة سرّاً ، في أمر يشغل بالي ، أريدك استشارتك فيه ...

يعيش حالياً في قونية عالم في الغالب أنتَ سمعت به ، يسمّى جلال الدّين الروميّ ،

هو شخص تشرّفت بالتعرّف عليه ، و تعليمه ،
و الآن أتشرّف بالتعلّم عنده ،
لعلّ هذا يبدو غريباً ، و لكن تلميذي أصبح أُستاذي ،
و لما كان الروميّ على قدر من الحكمة ، و الموهبة ، لم يعد لديّ ما أعلّمه له ، فأصبحت أتعلّم منه .

لقد كان والده عالماً أيضاً ، لكن الرومي عالم لا كغيره من العلماء ،
لقد كان قادراً على الغوض في أعماق الدين ، و الحصول على جوهره ،

و أريد إخبارك أن هذا ليش رأي الشخصي فقط ، فلقد رآه أحد العلماء الكبار يمشي خلف والده ذات مرّة ، فقال :
سبحان الله ، محيط يمشي خلف بحيرة .
و كان في الرابعة و العشرين آنذاك ، و الآن بعد مضي ثلاث عشرة سنة ، أصبح عالماً ذا شأن كبير ، و قد برع في مجالات مختلفة من العلوم ، و له الكثير من الطلاب و التلاميذ ، الملازمين له .

و منذ وفاة والده ، أصبح له عليّ ما على الوالد لابنه ،
و قد أسرّ إليّ حديثاً منذ فترة ، قائلاً أنّه لا يشعر بالرضا في قرارة نفسه ،
و أنّه يشعر بفراغ لم يستطع ملأه لا عائلته ، و لا تلاميذه ، و طلب مساعدتي ،
فقلت له : ربما امتلأت كأسكَ حتى الحافّة ، لذا عليه أن يفتح باب روحه ، تتدفّق مياه الحبّ إلى الداخل و الخارج ؛
و عندما سألني كيف يمكن أن يتمَّ ذلك ، قلت له أنّه بحاجة إلى صديق ، يكون رفيق لدربك ؛
و ذكّرته بالحديث الشريف :
" المؤمن مرآة المؤمن " .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي