37
و ذات يوم عدتُ في الليل ، و أنا في حالة من السكر تماماً ،
فوجدتُ ابواب التكية مغلقة جميعها ،
فلم اطرق اي باب ، و ذهب للنوم في الفناء الخلفي ،
و في صباح اليوم التالي ، لم اتحدّث بشيء عما جرى في الليلة الماضية و لم أقدم اي اعتذار ،
و كذلك لم يسألني السيد وايل عن أي شيء ،
و لا أُخفي انني قد شعرتُ بالغرابة قليلاً .
و بعدها مضت الأيام ، و كنتُ دائماً اشعر بسلام في داخلي لم أشعر به قط من قبل ،
و كان هدوء التكية يروق لي كثيراً ،
و انسجمتُ مع مَن فيها ، و لم أواجه أي مشكلة .
و مع بقائي معهم فترة من الزمن ، اكتشفتُ شيئاً يا إيلا ،
او بالأحرى قد تعلمتُ منهم كيف أستطيع أن أكون وحيداً و أنا مع الناس .
و خلال الوقت الذي كنت فيه انتظر مساعدتهم لكي استطيع الذهاب لمكة و المدينة ،
لم اكن افعل أي شيء ،
و بدافع من الملل ، بدأت أقرأ اشعاراً و دواوين كانت في التكية ،
و من بين الاشياء التي كان لها تأثبر كبير عليّ ،
كان ديوان الرومي الذي كان على المنضدة ،
و بعد فترة أصبحتُ اقرأ هذا الديوان بكلّ إعجاب ،
و استمريت على هذا النحو لبضعة أشهر ، باهتمام متزايد كلّ مرّة ،
حتى قال لي السيد وايل ذات مرة أنني أذكره بدرويش جوّال يدعى بشمس التبريزي ،
و اضاف بقوله أن كثيرا من الناس يرون أن شمس التبريزي شخص غريب و بلا أهمية ،
إلا اننا لو سألنا جلال الدين الرومي ، لقال أن شمس هو الشمس ، و كذلك القمر .
و بالنسبة لي يا ايلا فإنني كنت وقتها كمن تناول أول رشفة من الماء بعد عطش شديد ،
و اصبحتُ اريد شرب المزيد ، لكي أروي عطشي ،
و بينما كان السيد وايل يحدثني عن شمس التبريزي ،
شعرتُ بفضول شديد لمعرفة المزيد عن هذه الشخصية الغامضة ،
و دعيني اخبركِ بشيء حدث معيَ في تلك الليلة يا إيلا ،
و لعلك لن تصدقي !
كنت جالساً في المساء في الفناء الأماميّ على الأرضية الخشبية ،
أنظر لانعكاس أشجار الحديقة على الماء ،
و لوهلة ، سمعتُ صوت حفيف ملابس لشخص ما بقربي ،
لم يكن هناك اي شخص بقربي أبداً ، لكني متأكد من أنني قد رأيت ظل أحدٍ ما ،
لا أكن اعلم ما هو الأمر تماماً ، لكن ما عرفته تماماً وقتها ،
أنني لم أعد بحاجة للذهاب بعيداً ،
لأنني قد وجدتُ ضالتي هنا في هذا المكان ،
و كنت قد سئمت من الترحال من مكان لآخر بلا فائدة ،
لذا قررتُ البقاء ، و البحث في داخلي أنا عمّا أريده تماماً .
مع كلّ محبّتي .
عزيز .
ملاحظة :
كان اسمي في السابق قبل أن اصبح مسلماً
" كريس ستيوارت " .
........
" قونيا "
مضى صباح هذا اليوم ، أسرع من أي يوم آخر ،
و عند العصر ، قرر شمس لقاء الرومي ،
لكي يحدّثه عن أمر مهم ،
و عندما دخل لغرفة الرومي ، وجده جالساً بقرب النافذة يحمل مسبحته ، و يجلس على كرسيّه ، و ينظر للأفق ،
و حالما نظرت عينا شمس للرومي ، لمعت له رؤيا ، رأى فيها الروميّ .....
كان يبدو أكبر سناً بكثير ، و يرتدي عباءة خضراء غامقة ،
و يجلس في ذات المكان ، و يحمل نفس المسبحة ،
حينها أدرك شمس أن الرومي سوف يقضي حتى شيخوخته في هذا المكان ،
و ربما لن تتغير كثير من الأمور ،
لكن بكل تأكيد ، شيء في داخل الروميّ سوف يتغيّر كثيراً ،
في تلك الرؤيا استطاع شمس أن يرى جرحاً عميقاً في داخل الرومي ، على هيئة شمس ،
لذا عَلِمَ شمس أنه لن يكون بجوار الرومي في ذلك الحين ، و أنه سوف يفارقه ،
و هذا كان سبب تلك النظرات العميقة الحزينة في عيني الرومي في تلك الرؤيا ، كما استطاع شمس أن يحسّ بألم جرح الرومي في تلك الرؤيا ،
مما جعل عينا شمس تغرق بالدموع ، شفقةً و حزناً على رفيق دربه ، و صديقه العزيز الروميّ .
الرومي :
" ما بالك واقفاً عندك يا شمس ؟
لا اراكَ على طبيعتك ، و وجهك شاحب أيضاً ،
هل من خطب ؟ "
شمس :
" ليس هناك ما يدعو لقلقك ، لكني أتيت لأناقش معك أمراً مهمّاً . "
......
كانت كيرا تمرّ من جانب الغرفة الرئيسية ، حيث كان شمس و الروميّ يتحدّثان ،
و حالما رأى شمس كيرا ، قال لها :
" يجب أن تأتي لحضور رقصة الدراويش انتِ أيضاً يا كيرا . "
تفاجأت كيرا قليلاً ، و سألته :
" أي رقصة يا شمس ؟ ! "
" لا أظنكِ تألفينها ، انها رقصة روحية . "
عندها نظرت كيرا إلى زوجها بذهول تتساؤل عما يجري الآن ،
فقال لها الروميّ :
" تحدثنا انا و شمس منذ فترة عن هذا الأمر ،
نحن نريد أن نقدّم رقصة للدراويش ،
و بالبطبع سوف نرحب بكل من يريد الانضمام إلينا ،
و يتوق للعشق الإلهي . "
كيرا :
" ما الذي تتحدث عنه يا مولانا ، أنتَ عالم مبجّل و محترم ،
كيف لكَ أن تقوم بأي رقصة ؟ "
كان الانفعال و شيء من الغضب ظاهرين على كيرا ، فلا أحد كان يتخيل يوماً ان العالم الجليل الرومي ، قد يقوم بتأدية رقصة ما !
و لكن شمس قال أنها رقصة روحية !
عندها نظرت كيرا إلى شمس ، و حاولت ان تغير رأيه قليلاً في امر هذه الرقصة ، فقالت له :
" ليس جميع الناس يحترمون الرقص ، و قد لا يحبونها ، فما رأيك بتأجيل أمرها لوقت لاحق ؟ "
شمس :
" و ليس جميع الناس يحترمون الله أيضاً ، فهل علينا أن نأجل الإيمان به ؟ . "
و كالعادة ، كان انفعال شمس ، و أجوبته أقوى من أي شيء آخر ،
لذا لم يستطع أحد ان يجعله يعدل عن رأيه .
و في المساء ، كان شمس في حوار مع علاء الدين بخصوص موضوع رقصة الدراويش .....
شمس :
" لمَ القلق ؟
إن الجمال بعين ناظره ، صحيح أن الجميع سيرى هذه الرقصة ، و لكنها ستكون شيئاً مختلفاً بعين كل شخص ،
سيحبها البعض ، و لن يفعل البعض الآخر . "
علاء الدين :
" و لكن ماذا إن لم يأتي احد لحضور الرقصة ؟ "
شمس :
" صحيح أن أنهم لا يحبونني ، و ربما لم يعودوا يحبون والدك ،
لكنَّ فضولهم سوف يدفعهم للمجيء لا محال . "
و هكذا في الأمسية الموعدة لأداء الرقصة ، اجتمع عدد كبير من الناس ، من عامة الناس و من التجار و الفلاحين ، و الشيخ ياسين و بعض تلاميذه ،
و مسرولين في الدولة ، و أبرزهم الأمير ،
مما جعل سلطان يرتاح قليلاً ، فوقوف الأمير بجانب والده سوف يُسكت ثرثرة الآخرين ،
و من بين كل الحاضرين قرر سلطان الجلوس بجانب العجوز عدنان ،
لأنه لم يُرد الجلوس بجانب أي شخص قد يشتم شمس ، و مع ان رائحة غير لطيفة كانت تفوح من ذلك العجوز ، لكنه لم يبالي ،
و اما علاء الدين ، لم يحضر أبداً ،
و كان قد افتعل مشكلة مع شمس في اليوم الذي قبله بسبب موضوع هذه الرقصة ، و قال لشمس أن هذا مجرّد جنون محض ،
فتدخل والده ليسكته ،
لكنه تكلم بوقاحة مع ابيه مما جعل شمس يغضب منه بشدّة لتطاوله على والده .
و في الخلف من القاعة ، حضرت النساء ،
و هكذا جلس الجميع ، و تم افتتاح تلك الأمسية بصوت جميل ناعم ،
لقد كان صوت الناي ، و الذي جعل الجميع يصمت و يكف عن الثرثرة ، لكي يُصغوا لتلك الانغام الرائعة ،
ثم دخل الرومي على المسرح ، و معه ستة أشخاص من تلاميذه و مريديه ، حيّوا الحاضرين .
كان الروميّ و تلاميذه يرتدون عباءات بيضاء طويلة ، واسعة من الأسفل ،
ثم بدؤوا بالدوران حول أنفسهم بحركة رشيقة ، ر وقيقة ، و أنيقة ، و أيديهم معقودة على صدورهم ، ثم بدأت أطراف ثيابهم تتفتح من الأشفل مثل تفتح زهرة اللوتس تماماً ، كان مشهداً انيقاً جميلاً شدَّ انتباه جميع الحاضرين و نال إعجابهم .
حتى أن أكثر الثرثارين منهم كان يسمع و يشاهد بإعجاب .
و تلا صوت الناي ، صوت دفوف و ربابة من خلف الستار ،
ثمَّ صعد شمس التبريزيّ على خشبة المسرح .
كان دخوله المميز مثل ريح قوية عاصفة ،
كان شمس يرتدي عباءة كذلك ، لكن لونها كان أغمق قليلاً ، و بدا كأنه الأكثر طولاً من بين الجميع .
ثم بدأ شمس بالدوران بسرعة هائلة ، باسطاً كفيه إلى السماء ،
حيث بدا شمس مثل دوار الشمس الذي يبحث عن النور تماماً ، و من حوله تلاميذ الرومي الذين كانوا يدورون بسرعة أبطأ من شمس ،
و كان الرومي يقف بينهم ، مثل شجرة حكيمة راسخة ،
يتلوا أدعية ، و ابتهالات .
و حتى الأشخاص الذين يكرهون شمس ، لم يستطيعوا ان يُبعدوا اعينهم عن هذه التحفة الفنية ، المنقطعة النظير .
و بعدها تباطأت الموسيقى ، ثم توقف الدراويش فجأة ،
فانغلقت كل زهرة لوتس انغلاقة لطيفة و جميلة ، إثر توقفهم ،
ثم ألقى الرومي التحية الدراويش ، ثم على الحضور ثانية ،
و مع إعجاب الحاضرين بتلك الأمسية ، ساد صمت ثقيل على الجو ،
و كان من قطع ذلك الصمت ، هو الروميّ عندما قال :
" هذه الرقصة التي ادّيناها اليوم يا أصدقائي ، هي رقصة الدراويش ،
و التي سيقوم الدراويش برقصها في مختلف الأزمنة و الأمكنة ،
حيث تتجه يد من أيديهم إلى السماء ، لكي تستقبل الحب الإلهي ، و يد أخرى إلى الأرض ، كي تنقل ذلك الحبّ ،
و توزعه على الجميع . "
لم يعرف أحد من الخاضرين كيف عليه أن يتصرف ، لكن علامات الرضا كانت بادية عليهم ،
لدرجة أن سلطان قد ابتسم بكل ارتياح ، بعد أن رأى علاقة شمس و والده تتحسن مع الآخرين ،
و كان يتطلّع لما بعد ذلك ،
و كانت تلك الأمسية لتكون الأفضل ، لولا ما حدث بعدها ......
........
انتهت رقصة الدراويش تلك ، و كانت الخاتمة هي الأكثر أثارة .
بعدها وقف الأمير الذي كان يجلس في المقدمة ، و بدأ ينظر إلى من حوله بكبر و عجرفة ،
ثم اقترب من المسرح ، و اطلق ضحكة عالية ، و أثنى على الرومي ، و الدراويش ، و كذلك العازفين ،
فردّ له التحيّة كلّ واحد منهم بكل أدب و احترام ، و شكروه .
بعدها أشار الأمير إلى حارسه ، فناوله كيساً مخملياً مليئاً بالذهب ،
فقام الأمير بإلقاءه على المسرح ، تعبيراً على إعجابه ، مما دفع الحاضرين للتصفيق على كرن الأمير .
و حدث ما حدث بعدها بسرعة فائقة ، حيث أن الجميع لم يستطيعوا استيعاب ما حدث ،
فقد استدار الأمير ، و كان متجهاً للخارج ،
فقام أحدهم بإلقاء الكيس الذهبي الذي كان على المنصة على الأمير ،
فتناثرت القطع الذهبية على الأرض ، مُحدثةً صوتاً رناناً ، و كأنه صوت خشخشة أساور عروس في عرسها .
و كان الأمير هو الأكثر اندهاشاً و تفاجؤاً من الجميع ، فإلقاء الكيس الذهبي عليه ، هو إهانة واضحة ،
موجهةً شخصياً له .
فالتفت الأمير غير مصدّق ، لكي يرى من فعل هذه الفعلة .
لقد كان شمس التبريزي هو مَن فعلها !!!!
تحلّقت انظار جميع من كان هناك بلا استثناء نحو شمس ، غير مصدقين ما جرى .
كان شمس واقفاً في وسط المنصّة ، و يضع يده على خصره ، و الغضب يتطاير من عينيه ......
شمس :
" نحن لم نؤدي هذه الرقصة لأجل المال أيها الأمير ،
إن رقصة الدراويش هي للحب الإلهي ، و للحب وحده فقط ، و لا شيء غيره .
خذ ذهبك يا صاحب الجلالة ، فهو لا ينفع هنا . "
فوجدتُ ابواب التكية مغلقة جميعها ،
فلم اطرق اي باب ، و ذهب للنوم في الفناء الخلفي ،
و في صباح اليوم التالي ، لم اتحدّث بشيء عما جرى في الليلة الماضية و لم أقدم اي اعتذار ،
و كذلك لم يسألني السيد وايل عن أي شيء ،
و لا أُخفي انني قد شعرتُ بالغرابة قليلاً .
و بعدها مضت الأيام ، و كنتُ دائماً اشعر بسلام في داخلي لم أشعر به قط من قبل ،
و كان هدوء التكية يروق لي كثيراً ،
و انسجمتُ مع مَن فيها ، و لم أواجه أي مشكلة .
و مع بقائي معهم فترة من الزمن ، اكتشفتُ شيئاً يا إيلا ،
او بالأحرى قد تعلمتُ منهم كيف أستطيع أن أكون وحيداً و أنا مع الناس .
و خلال الوقت الذي كنت فيه انتظر مساعدتهم لكي استطيع الذهاب لمكة و المدينة ،
لم اكن افعل أي شيء ،
و بدافع من الملل ، بدأت أقرأ اشعاراً و دواوين كانت في التكية ،
و من بين الاشياء التي كان لها تأثبر كبير عليّ ،
كان ديوان الرومي الذي كان على المنضدة ،
و بعد فترة أصبحتُ اقرأ هذا الديوان بكلّ إعجاب ،
و استمريت على هذا النحو لبضعة أشهر ، باهتمام متزايد كلّ مرّة ،
حتى قال لي السيد وايل ذات مرة أنني أذكره بدرويش جوّال يدعى بشمس التبريزي ،
و اضاف بقوله أن كثيرا من الناس يرون أن شمس التبريزي شخص غريب و بلا أهمية ،
إلا اننا لو سألنا جلال الدين الرومي ، لقال أن شمس هو الشمس ، و كذلك القمر .
و بالنسبة لي يا ايلا فإنني كنت وقتها كمن تناول أول رشفة من الماء بعد عطش شديد ،
و اصبحتُ اريد شرب المزيد ، لكي أروي عطشي ،
و بينما كان السيد وايل يحدثني عن شمس التبريزي ،
شعرتُ بفضول شديد لمعرفة المزيد عن هذه الشخصية الغامضة ،
و دعيني اخبركِ بشيء حدث معيَ في تلك الليلة يا إيلا ،
و لعلك لن تصدقي !
كنت جالساً في المساء في الفناء الأماميّ على الأرضية الخشبية ،
أنظر لانعكاس أشجار الحديقة على الماء ،
و لوهلة ، سمعتُ صوت حفيف ملابس لشخص ما بقربي ،
لم يكن هناك اي شخص بقربي أبداً ، لكني متأكد من أنني قد رأيت ظل أحدٍ ما ،
لا أكن اعلم ما هو الأمر تماماً ، لكن ما عرفته تماماً وقتها ،
أنني لم أعد بحاجة للذهاب بعيداً ،
لأنني قد وجدتُ ضالتي هنا في هذا المكان ،
و كنت قد سئمت من الترحال من مكان لآخر بلا فائدة ،
لذا قررتُ البقاء ، و البحث في داخلي أنا عمّا أريده تماماً .
مع كلّ محبّتي .
عزيز .
ملاحظة :
كان اسمي في السابق قبل أن اصبح مسلماً
" كريس ستيوارت " .
........
" قونيا "
مضى صباح هذا اليوم ، أسرع من أي يوم آخر ،
و عند العصر ، قرر شمس لقاء الرومي ،
لكي يحدّثه عن أمر مهم ،
و عندما دخل لغرفة الرومي ، وجده جالساً بقرب النافذة يحمل مسبحته ، و يجلس على كرسيّه ، و ينظر للأفق ،
و حالما نظرت عينا شمس للرومي ، لمعت له رؤيا ، رأى فيها الروميّ .....
كان يبدو أكبر سناً بكثير ، و يرتدي عباءة خضراء غامقة ،
و يجلس في ذات المكان ، و يحمل نفس المسبحة ،
حينها أدرك شمس أن الرومي سوف يقضي حتى شيخوخته في هذا المكان ،
و ربما لن تتغير كثير من الأمور ،
لكن بكل تأكيد ، شيء في داخل الروميّ سوف يتغيّر كثيراً ،
في تلك الرؤيا استطاع شمس أن يرى جرحاً عميقاً في داخل الرومي ، على هيئة شمس ،
لذا عَلِمَ شمس أنه لن يكون بجوار الرومي في ذلك الحين ، و أنه سوف يفارقه ،
و هذا كان سبب تلك النظرات العميقة الحزينة في عيني الرومي في تلك الرؤيا ، كما استطاع شمس أن يحسّ بألم جرح الرومي في تلك الرؤيا ،
مما جعل عينا شمس تغرق بالدموع ، شفقةً و حزناً على رفيق دربه ، و صديقه العزيز الروميّ .
الرومي :
" ما بالك واقفاً عندك يا شمس ؟
لا اراكَ على طبيعتك ، و وجهك شاحب أيضاً ،
هل من خطب ؟ "
شمس :
" ليس هناك ما يدعو لقلقك ، لكني أتيت لأناقش معك أمراً مهمّاً . "
......
كانت كيرا تمرّ من جانب الغرفة الرئيسية ، حيث كان شمس و الروميّ يتحدّثان ،
و حالما رأى شمس كيرا ، قال لها :
" يجب أن تأتي لحضور رقصة الدراويش انتِ أيضاً يا كيرا . "
تفاجأت كيرا قليلاً ، و سألته :
" أي رقصة يا شمس ؟ ! "
" لا أظنكِ تألفينها ، انها رقصة روحية . "
عندها نظرت كيرا إلى زوجها بذهول تتساؤل عما يجري الآن ،
فقال لها الروميّ :
" تحدثنا انا و شمس منذ فترة عن هذا الأمر ،
نحن نريد أن نقدّم رقصة للدراويش ،
و بالبطبع سوف نرحب بكل من يريد الانضمام إلينا ،
و يتوق للعشق الإلهي . "
كيرا :
" ما الذي تتحدث عنه يا مولانا ، أنتَ عالم مبجّل و محترم ،
كيف لكَ أن تقوم بأي رقصة ؟ "
كان الانفعال و شيء من الغضب ظاهرين على كيرا ، فلا أحد كان يتخيل يوماً ان العالم الجليل الرومي ، قد يقوم بتأدية رقصة ما !
و لكن شمس قال أنها رقصة روحية !
عندها نظرت كيرا إلى شمس ، و حاولت ان تغير رأيه قليلاً في امر هذه الرقصة ، فقالت له :
" ليس جميع الناس يحترمون الرقص ، و قد لا يحبونها ، فما رأيك بتأجيل أمرها لوقت لاحق ؟ "
شمس :
" و ليس جميع الناس يحترمون الله أيضاً ، فهل علينا أن نأجل الإيمان به ؟ . "
و كالعادة ، كان انفعال شمس ، و أجوبته أقوى من أي شيء آخر ،
لذا لم يستطع أحد ان يجعله يعدل عن رأيه .
و في المساء ، كان شمس في حوار مع علاء الدين بخصوص موضوع رقصة الدراويش .....
شمس :
" لمَ القلق ؟
إن الجمال بعين ناظره ، صحيح أن الجميع سيرى هذه الرقصة ، و لكنها ستكون شيئاً مختلفاً بعين كل شخص ،
سيحبها البعض ، و لن يفعل البعض الآخر . "
علاء الدين :
" و لكن ماذا إن لم يأتي احد لحضور الرقصة ؟ "
شمس :
" صحيح أن أنهم لا يحبونني ، و ربما لم يعودوا يحبون والدك ،
لكنَّ فضولهم سوف يدفعهم للمجيء لا محال . "
و هكذا في الأمسية الموعدة لأداء الرقصة ، اجتمع عدد كبير من الناس ، من عامة الناس و من التجار و الفلاحين ، و الشيخ ياسين و بعض تلاميذه ،
و مسرولين في الدولة ، و أبرزهم الأمير ،
مما جعل سلطان يرتاح قليلاً ، فوقوف الأمير بجانب والده سوف يُسكت ثرثرة الآخرين ،
و من بين كل الحاضرين قرر سلطان الجلوس بجانب العجوز عدنان ،
لأنه لم يُرد الجلوس بجانب أي شخص قد يشتم شمس ، و مع ان رائحة غير لطيفة كانت تفوح من ذلك العجوز ، لكنه لم يبالي ،
و اما علاء الدين ، لم يحضر أبداً ،
و كان قد افتعل مشكلة مع شمس في اليوم الذي قبله بسبب موضوع هذه الرقصة ، و قال لشمس أن هذا مجرّد جنون محض ،
فتدخل والده ليسكته ،
لكنه تكلم بوقاحة مع ابيه مما جعل شمس يغضب منه بشدّة لتطاوله على والده .
و في الخلف من القاعة ، حضرت النساء ،
و هكذا جلس الجميع ، و تم افتتاح تلك الأمسية بصوت جميل ناعم ،
لقد كان صوت الناي ، و الذي جعل الجميع يصمت و يكف عن الثرثرة ، لكي يُصغوا لتلك الانغام الرائعة ،
ثم دخل الرومي على المسرح ، و معه ستة أشخاص من تلاميذه و مريديه ، حيّوا الحاضرين .
كان الروميّ و تلاميذه يرتدون عباءات بيضاء طويلة ، واسعة من الأسفل ،
ثم بدؤوا بالدوران حول أنفسهم بحركة رشيقة ، ر وقيقة ، و أنيقة ، و أيديهم معقودة على صدورهم ، ثم بدأت أطراف ثيابهم تتفتح من الأشفل مثل تفتح زهرة اللوتس تماماً ، كان مشهداً انيقاً جميلاً شدَّ انتباه جميع الحاضرين و نال إعجابهم .
حتى أن أكثر الثرثارين منهم كان يسمع و يشاهد بإعجاب .
و تلا صوت الناي ، صوت دفوف و ربابة من خلف الستار ،
ثمَّ صعد شمس التبريزيّ على خشبة المسرح .
كان دخوله المميز مثل ريح قوية عاصفة ،
كان شمس يرتدي عباءة كذلك ، لكن لونها كان أغمق قليلاً ، و بدا كأنه الأكثر طولاً من بين الجميع .
ثم بدأ شمس بالدوران بسرعة هائلة ، باسطاً كفيه إلى السماء ،
حيث بدا شمس مثل دوار الشمس الذي يبحث عن النور تماماً ، و من حوله تلاميذ الرومي الذين كانوا يدورون بسرعة أبطأ من شمس ،
و كان الرومي يقف بينهم ، مثل شجرة حكيمة راسخة ،
يتلوا أدعية ، و ابتهالات .
و حتى الأشخاص الذين يكرهون شمس ، لم يستطيعوا ان يُبعدوا اعينهم عن هذه التحفة الفنية ، المنقطعة النظير .
و بعدها تباطأت الموسيقى ، ثم توقف الدراويش فجأة ،
فانغلقت كل زهرة لوتس انغلاقة لطيفة و جميلة ، إثر توقفهم ،
ثم ألقى الرومي التحية الدراويش ، ثم على الحضور ثانية ،
و مع إعجاب الحاضرين بتلك الأمسية ، ساد صمت ثقيل على الجو ،
و كان من قطع ذلك الصمت ، هو الروميّ عندما قال :
" هذه الرقصة التي ادّيناها اليوم يا أصدقائي ، هي رقصة الدراويش ،
و التي سيقوم الدراويش برقصها في مختلف الأزمنة و الأمكنة ،
حيث تتجه يد من أيديهم إلى السماء ، لكي تستقبل الحب الإلهي ، و يد أخرى إلى الأرض ، كي تنقل ذلك الحبّ ،
و توزعه على الجميع . "
لم يعرف أحد من الخاضرين كيف عليه أن يتصرف ، لكن علامات الرضا كانت بادية عليهم ،
لدرجة أن سلطان قد ابتسم بكل ارتياح ، بعد أن رأى علاقة شمس و والده تتحسن مع الآخرين ،
و كان يتطلّع لما بعد ذلك ،
و كانت تلك الأمسية لتكون الأفضل ، لولا ما حدث بعدها ......
........
انتهت رقصة الدراويش تلك ، و كانت الخاتمة هي الأكثر أثارة .
بعدها وقف الأمير الذي كان يجلس في المقدمة ، و بدأ ينظر إلى من حوله بكبر و عجرفة ،
ثم اقترب من المسرح ، و اطلق ضحكة عالية ، و أثنى على الرومي ، و الدراويش ، و كذلك العازفين ،
فردّ له التحيّة كلّ واحد منهم بكل أدب و احترام ، و شكروه .
بعدها أشار الأمير إلى حارسه ، فناوله كيساً مخملياً مليئاً بالذهب ،
فقام الأمير بإلقاءه على المسرح ، تعبيراً على إعجابه ، مما دفع الحاضرين للتصفيق على كرن الأمير .
و حدث ما حدث بعدها بسرعة فائقة ، حيث أن الجميع لم يستطيعوا استيعاب ما حدث ،
فقد استدار الأمير ، و كان متجهاً للخارج ،
فقام أحدهم بإلقاء الكيس الذهبي الذي كان على المنصة على الأمير ،
فتناثرت القطع الذهبية على الأرض ، مُحدثةً صوتاً رناناً ، و كأنه صوت خشخشة أساور عروس في عرسها .
و كان الأمير هو الأكثر اندهاشاً و تفاجؤاً من الجميع ، فإلقاء الكيس الذهبي عليه ، هو إهانة واضحة ،
موجهةً شخصياً له .
فالتفت الأمير غير مصدّق ، لكي يرى من فعل هذه الفعلة .
لقد كان شمس التبريزي هو مَن فعلها !!!!
تحلّقت انظار جميع من كان هناك بلا استثناء نحو شمس ، غير مصدقين ما جرى .
كان شمس واقفاً في وسط المنصّة ، و يضع يده على خصره ، و الغضب يتطاير من عينيه ......
شمس :
" نحن لم نؤدي هذه الرقصة لأجل المال أيها الأمير ،
إن رقصة الدراويش هي للحب الإلهي ، و للحب وحده فقط ، و لا شيء غيره .
خذ ذهبك يا صاحب الجلالة ، فهو لا ينفع هنا . "