25
" المتسوّل المريض "
بعد أن تركت مكاني في المسجد حيث خطبة الرومي ، خرجت و جلست أمام الجامع ، تحت شجرة كبيرة عجوز ، تناثرت أوراقها في كلّ مكان ،
مالذي يعرفه شخص كالرومي عن المعاناة و الألم ، ليتحدّث عنهما هكذا ؟
لقد وُلد و الملعقة الذهبية بفمه ، و لم يرَ أبسط ألوان المعاناة التي نعاني منها نحن ، و هو وريث عائلة عرقة و مرموقة ، و تربى و تتلمذ على يد أفضل المعلّمين ،
و ولداه يجلسان في الصفّ الأول ، و بدا أنّهما شديدا الفخر به .
رأيتهما عدّة مرّات ،
و يقولون أن ابنه الكبير سلطان ، يشبه والدته المرحومة ،
أما علاء الدين فلم يكن يشبه أخاه أبداً ، و كان في عينيه شيء من المكر ،
مع هذا هما ولدان وسيمان حقاً ،
و مع أن الشيء الوحيد الذي فقده الروميّ كان زوجته الطيبّة الراحلة ،
التي لم تكن شعبيتها و محبة الناس لها أقلّ من شعبيته ،
لكني لا أظن أن هذا يساوي شيئاً أمام ما أُقاسيه .
و لا أظنّ أنه و أمثاله على علم بحالي أنا و أمثالي على كلّ حال ، فأنا متسوّل متشرّد منذ سنوات ، اجتاح مرضٌ عضالٌ كامل جسدي ، و جعله بحال فظيعة ،
مما دفع الناس يخافون حتى الاقتراب مني ، و يتقززون من مُجرّد النظر إلى وجهي .
ماذا سيفعل الروميّ لو كان مكاني ؟ ،
حيث يسير الروميّ في موكبه ، و مئات الناس يسيرون خلفه ، و يريدون النظر إليه فقط ،
ياللمفارقة !!!! ،
ماذا كان الفرق بين حالي و بين حال الروميّ ذاك ؟
إنّه مثل الفرق بين الثرا و الثريا ، و حتى المقارنة بيني و بينه ليست عادلة أصلاً .....
إنني أعيش من صدقات بعض الناس ، اللذين يُلقون إليَّ بعض القطع النحاسية أحياناً ، لكنني لم أكن أستفيد منها كثيراً ، فعندما أذهب لمحلّ ما لبيع الطعام ، فإن أصحابه يطردونني خوفاً من أن أجلب لهم سوء الحظّ
، أو يعطونني شيئاً من الخبز ، دون أن يقولوا كلمة واحدة ، أو حتى ينظروا إلى عينيّ .
و أنا أشعر بالمتنان أحياناً أنّهم لم يُلقوني خارج المدينة ، فأنا مثل الوباء بالنسبة لهم ،
حتى الأطفال الصغار عندما يرونني فإنّهم يرمونني بالحجارة ، و لا شيء يمنعهم من فعل ذلك ، طالما أنَّ الكبار - البالغين المتعّقلين - يروق لهم هذا .
و كان الجميع يتحاشاني ، بقدر ما أريد تحاشيهم أيضاً ، فأنا لست سعيداً بقربي منهم كذلك ، لكنّي مُضطر للتسول لكي أعيش ،
و اليوم هو من أفضل الأيام للتسوّل ، فقد اجتمعت وفود غفيرة ، لحضور خطبة الروميّ المُنمّقة ، و لا شكَّ أن أحداً منهم سوف يُلقي إليّ بعض النقود ، أو الطعام .
و بينما تبادرت كل تلك الأسئلة و الأفكار إلى بالي ، أصبحت اشعر أن استيائي من الرومي يزداد أكثر فأكثر ،
تاركاً كل إعجابي به جانباً ،
و هذا ما دفعني لترك خطبته ، و المغادرة مُسرعاً .
و أنا تحت ظلّ الشجرة ، التي رَمت بأوراقها في حضني ، و كأنّها تريد أن تتصدّق عليَّ اليوم أيضاً ،
أحسستُ بالنعاس ، و كنت على وشك النوم ،
إذ لاح لي خيال شخص ، كان يلتفت من حوله ، و كأنّه يتفقّد الأنحاء ،
كان يرتدي عباءة طويلة سوداء ، و يحمل عصا في يده ،
كان واضحاً أنّه درويش من أصحاب الزهد ،
و لمّا التقت عيني بعينه ، ظننتُ أنّه سوف يتجاهلني ، و يُشيح بنظره من فوره كما يفعل الآخرون ،
لكنّه ما إن لاحطني ، حتى وضع يده اليمنى على صدره ، و حياني بابتسامة مُشرقة ، في البداية ظننتُ أنّه يُحيي أحداً بجانبي ، فالتفتُ يمنة ، و يسرة ، فلم اجد أحداً غيري ، و الشجرة التي اسدتنت عليها ،
فلم أتمالك نفسي من وضع يدي على صدري كذلك ، و رددت له تحيّته ،
ثم اقترب مني بخطوات واثقة .....
شمس : " السلام عليكَ يا أخي . "
فأجبته : " و عليكَ السلام أيها الدرويش . "
كنتُ متفاجئاً حقاً من حديثه إليّ ، فأناا لم اتحدّث إلى أحد منذ زمن طويل ،
حتى أنني كنتُ متفاجئاً أيضاً من نبرة صوتي ، التي نسيتُ كيف كانت !!!!
فأنا لم أحتج استخدامها لفترة طويلة ......
ثمَّ انحنى حتى أصبح مستوى عيني و عينيه واحد ،
و أخبرني أنّه يُدعى شمس التبريزي ، و سألني عن اسمي ، فضحكت و قلت له : " و ما حاجة شخص مثلي لاسم أصلاً ؟ !! " ،
فقال لي : " إن لله أسماءً منها ما نعرفه و هي التسعة و التسعين اسماً ، و منها ما لا نعرفه .... ،
و نحن يا عزيز صور من خلق الله تعالى العظيم ، فكيف لا نحتاج أسماءً ؟ ! " .
و من دون جدال أو نقاش قلتُ له :
" في الماضي كان لدي أخت و زوجتة ، و كانتا تناديانني بعبد الكريم . "
" عبد الكريم " ، ردّد الدرويش اسمي هكذا ، ثم قام بإعطائي مرآة فضيّة ،
و قال أنَّ رجلاً طيّباً من بغداد قد أعطاه إياها ،
و أنني سوف أحتاجها أكثر منه ،
و أنّ هذه المرآة سوف تذكّرني بأن الله معيَ ، و أنني آية من آيات الله في كونه .
و عندما أردت الاستفسار منه عمّا قاله ، فأنا لم أفهمه تماماً ، سمعنا صوت ضجّة من حولنا خرجت من المسجد ، و بدأت تعلو أكثر فأكثر ،
في البداية ظننا أنهم قد أمسكوا بنشال في المسجد ، فهم كُثر ، و خصوصاً عندما يكون هناك جموع غفيرة ،
و لكن بدا الأمر أكبر من ذلك ،
و ما لبثت أن رأيتهم يجرّون امرأة خارجاً إلى الشارع ، و هي ترتدي ملابس للرجال و قد كانت في غاية الرعب ، و هم يصرخون ، و يستشيطون غضباً ،
و مع أنَّ أغلبهم تُجّار ، و بياعون ، إلّا أنّهم يتحولوا إلى وحوش ، و قتلة حقيقين حقاً ، عندما تكون هناك جلبة ما .
و التفت لشمسٍ ، و قلت له : " إنَّ هذه الفتاة مسكينة حقاً ، لوقوعها بين يدي هؤلاء الوحوش . " ،
و لكني لم أرَ شمس بجانبي كما كان ....... .
لقد هبَّ مُندفعاً مثل قذيفة مُلتهبة ، نحو تلك الضوضاء ،
و رفع عصاه بوجوههم ، و صاح قائلاً :
" توقفوا ، توقفوا ،
ما بالكم يا أخوة ، هل يجتمع عشرات الرجال على امرأة ضعيفة ؟ "
نظروا جميعاً إلى شمس بدهشة قليلاً ،
ثمَّ صاح أحدهم ، و بدا أنّه الوحيد من بين الجميع من يعرفها جيداً :
" إنّها كافرة ماكرة ، جاءت إلى المسجد لكي تغوي الرجال " ،
ثمَّ أمسك العمامة التي تضعها على رأسها ، و رماها أرضاً ،
فانهال شلال شعرها الطويل العسلي ،
كانت امراة في ريعان الشباب ، و فاتنة حقاً ،
وقف الجميع مذهولين من جمالها للحظة .
شمس : " أنا لا أفهم ، هل دخول المسجد جريمة ، تجب عليها العقوبة ؟ "
قال شمس تلك الكلمات بلهجة احتقار واضحة ،
و بعد تلك الضوضاء ، صمت الجميع قليلاً من كلام شمس ،
فهبَّ رجل من بينهم ، " إنّها كافرة قذرة ، لا مكان لها بمسجد طاهر ."
هذه الكلمات كانت كافية لإشعال فتيل جنونهم ثانية ، و أصبحوا جميعاً يصرخون ، مُطالبين بقلتها .
" حيوانة فاسقة ، علينا قتلها " ،
" يجب أن لا يلوّث أمثالها بيت الله " .
فأخذ شمس بيدها ، من رجل كان يمسك بها ، و اختبأت خلف عباءته ، كما يختبئ الطفل الصغير خلف أمه ،
و قد شحب وجهها حتى الموت ، و جحظت عيناها اللوزيتان من شدّة الخوف .
هل أنتم حقاً حريصون على حُرمة مسجد الله ؟ ،
أم أنَّ هذه المرأة قد فتنتكم ، و هذا ما شدَّ انتباهكم ! ؟
فاستشاطوا جميعاً أكثر ، ....
" لم أرَ في حياتي درويشاً يدافع عن كافرة !! . " ،
" دعها حالاً لكي نقتلها . "
" سلمها لنا ، إنّك ترتكب خطأً فادحاً . "
" أنتَ غريب عن هذا المكان ، ولا تعرف شيئاً ، فلا تحشر أنفك هنا . "
و رغم إساءة الجميع لشمس ، إلّا أنّه بقي صامتاً يُمعن التفكير فيهم ،
و لم يبدو عليه أثر للغضب ، أو الامتعاض من كلامهم ،
و بعد برهة قال ....... ،
شمس : " لكن بربكم ، ألم تكونوا تستمعون لمجلس علم في بيت الله ! ، فكيف لاحظتم وجود هذه المرأة ،
لو كنتم تولون ذلك الاهتمام ببيت الله و بمجلس العلم ، أكثر مما تولونه لما من حولكم
، لما لاحظتم وجودها ، و لو كانت عارية . "
ثمَّ رفع صوته أكثر ، بنبرة رجّت المكان ،
" هيا عودوا لخطبتكم ، و افعلوا شيئاً أفضل هذه المرّة . "
صمت الجميع صمتاً مُطبقاً ، لم يتمكن أحد منهم من التفوّه بكلمة واحدة ،
الصوت الوحيد الذي طغى على المكان هو حفيف ملابسهم فقط .
" هيا انصرفوا ، هيا " ،
لوّح شمس بعصاه نحوهم ، و كأنّه يهشّ الذباب .
تراجع بعضهم إلى الوراء بحيرة ، لا يعرفون ما يجب عليهم فعله ،
و لا أظن أن لديهم نيّة للعودة إلى الخطبة بعد الذي حدث .
ثم بدا ان الفتاة استجمعت كامل شجاعتها ، لتظهر من خلف ظهر شمس ، ثمَّ تركض هاربة نحو أحد الأزقّة ، و شعرها الطويل يركض من خلفها ،
فتبعها رجلين ، محاولَين إمساكها ، إلّا أنَّ شمس التبريزي قد اعترض طريفهم بعصاه ،
حيث رماها تحت قدميهما ،
فوقعا أرضاً ، فتعالت أصوات ضحك الجميع عليهما ،
و كنت ممن ضحك عليهما حقاً ،
و بعد أن استعادا توازنهما ، كانت الفتاة قد اختفت دون أثر ،
و بعدها ابتعد شمس بهدوء ،
دون قول كلمة واحدة ،
لقد نجت الفتاة بفضله ، و إلّا لكانت في حال مُروّعة بمعنى الكلمة .
بعد أن تركت مكاني في المسجد حيث خطبة الرومي ، خرجت و جلست أمام الجامع ، تحت شجرة كبيرة عجوز ، تناثرت أوراقها في كلّ مكان ،
مالذي يعرفه شخص كالرومي عن المعاناة و الألم ، ليتحدّث عنهما هكذا ؟
لقد وُلد و الملعقة الذهبية بفمه ، و لم يرَ أبسط ألوان المعاناة التي نعاني منها نحن ، و هو وريث عائلة عرقة و مرموقة ، و تربى و تتلمذ على يد أفضل المعلّمين ،
و ولداه يجلسان في الصفّ الأول ، و بدا أنّهما شديدا الفخر به .
رأيتهما عدّة مرّات ،
و يقولون أن ابنه الكبير سلطان ، يشبه والدته المرحومة ،
أما علاء الدين فلم يكن يشبه أخاه أبداً ، و كان في عينيه شيء من المكر ،
مع هذا هما ولدان وسيمان حقاً ،
و مع أن الشيء الوحيد الذي فقده الروميّ كان زوجته الطيبّة الراحلة ،
التي لم تكن شعبيتها و محبة الناس لها أقلّ من شعبيته ،
لكني لا أظن أن هذا يساوي شيئاً أمام ما أُقاسيه .
و لا أظنّ أنه و أمثاله على علم بحالي أنا و أمثالي على كلّ حال ، فأنا متسوّل متشرّد منذ سنوات ، اجتاح مرضٌ عضالٌ كامل جسدي ، و جعله بحال فظيعة ،
مما دفع الناس يخافون حتى الاقتراب مني ، و يتقززون من مُجرّد النظر إلى وجهي .
ماذا سيفعل الروميّ لو كان مكاني ؟ ،
حيث يسير الروميّ في موكبه ، و مئات الناس يسيرون خلفه ، و يريدون النظر إليه فقط ،
ياللمفارقة !!!! ،
ماذا كان الفرق بين حالي و بين حال الروميّ ذاك ؟
إنّه مثل الفرق بين الثرا و الثريا ، و حتى المقارنة بيني و بينه ليست عادلة أصلاً .....
إنني أعيش من صدقات بعض الناس ، اللذين يُلقون إليَّ بعض القطع النحاسية أحياناً ، لكنني لم أكن أستفيد منها كثيراً ، فعندما أذهب لمحلّ ما لبيع الطعام ، فإن أصحابه يطردونني خوفاً من أن أجلب لهم سوء الحظّ
، أو يعطونني شيئاً من الخبز ، دون أن يقولوا كلمة واحدة ، أو حتى ينظروا إلى عينيّ .
و أنا أشعر بالمتنان أحياناً أنّهم لم يُلقوني خارج المدينة ، فأنا مثل الوباء بالنسبة لهم ،
حتى الأطفال الصغار عندما يرونني فإنّهم يرمونني بالحجارة ، و لا شيء يمنعهم من فعل ذلك ، طالما أنَّ الكبار - البالغين المتعّقلين - يروق لهم هذا .
و كان الجميع يتحاشاني ، بقدر ما أريد تحاشيهم أيضاً ، فأنا لست سعيداً بقربي منهم كذلك ، لكنّي مُضطر للتسول لكي أعيش ،
و اليوم هو من أفضل الأيام للتسوّل ، فقد اجتمعت وفود غفيرة ، لحضور خطبة الروميّ المُنمّقة ، و لا شكَّ أن أحداً منهم سوف يُلقي إليّ بعض النقود ، أو الطعام .
و بينما تبادرت كل تلك الأسئلة و الأفكار إلى بالي ، أصبحت اشعر أن استيائي من الرومي يزداد أكثر فأكثر ،
تاركاً كل إعجابي به جانباً ،
و هذا ما دفعني لترك خطبته ، و المغادرة مُسرعاً .
و أنا تحت ظلّ الشجرة ، التي رَمت بأوراقها في حضني ، و كأنّها تريد أن تتصدّق عليَّ اليوم أيضاً ،
أحسستُ بالنعاس ، و كنت على وشك النوم ،
إذ لاح لي خيال شخص ، كان يلتفت من حوله ، و كأنّه يتفقّد الأنحاء ،
كان يرتدي عباءة طويلة سوداء ، و يحمل عصا في يده ،
كان واضحاً أنّه درويش من أصحاب الزهد ،
و لمّا التقت عيني بعينه ، ظننتُ أنّه سوف يتجاهلني ، و يُشيح بنظره من فوره كما يفعل الآخرون ،
لكنّه ما إن لاحطني ، حتى وضع يده اليمنى على صدره ، و حياني بابتسامة مُشرقة ، في البداية ظننتُ أنّه يُحيي أحداً بجانبي ، فالتفتُ يمنة ، و يسرة ، فلم اجد أحداً غيري ، و الشجرة التي اسدتنت عليها ،
فلم أتمالك نفسي من وضع يدي على صدري كذلك ، و رددت له تحيّته ،
ثم اقترب مني بخطوات واثقة .....
شمس : " السلام عليكَ يا أخي . "
فأجبته : " و عليكَ السلام أيها الدرويش . "
كنتُ متفاجئاً حقاً من حديثه إليّ ، فأناا لم اتحدّث إلى أحد منذ زمن طويل ،
حتى أنني كنتُ متفاجئاً أيضاً من نبرة صوتي ، التي نسيتُ كيف كانت !!!!
فأنا لم أحتج استخدامها لفترة طويلة ......
ثمَّ انحنى حتى أصبح مستوى عيني و عينيه واحد ،
و أخبرني أنّه يُدعى شمس التبريزي ، و سألني عن اسمي ، فضحكت و قلت له : " و ما حاجة شخص مثلي لاسم أصلاً ؟ !! " ،
فقال لي : " إن لله أسماءً منها ما نعرفه و هي التسعة و التسعين اسماً ، و منها ما لا نعرفه .... ،
و نحن يا عزيز صور من خلق الله تعالى العظيم ، فكيف لا نحتاج أسماءً ؟ ! " .
و من دون جدال أو نقاش قلتُ له :
" في الماضي كان لدي أخت و زوجتة ، و كانتا تناديانني بعبد الكريم . "
" عبد الكريم " ، ردّد الدرويش اسمي هكذا ، ثم قام بإعطائي مرآة فضيّة ،
و قال أنَّ رجلاً طيّباً من بغداد قد أعطاه إياها ،
و أنني سوف أحتاجها أكثر منه ،
و أنّ هذه المرآة سوف تذكّرني بأن الله معيَ ، و أنني آية من آيات الله في كونه .
و عندما أردت الاستفسار منه عمّا قاله ، فأنا لم أفهمه تماماً ، سمعنا صوت ضجّة من حولنا خرجت من المسجد ، و بدأت تعلو أكثر فأكثر ،
في البداية ظننا أنهم قد أمسكوا بنشال في المسجد ، فهم كُثر ، و خصوصاً عندما يكون هناك جموع غفيرة ،
و لكن بدا الأمر أكبر من ذلك ،
و ما لبثت أن رأيتهم يجرّون امرأة خارجاً إلى الشارع ، و هي ترتدي ملابس للرجال و قد كانت في غاية الرعب ، و هم يصرخون ، و يستشيطون غضباً ،
و مع أنَّ أغلبهم تُجّار ، و بياعون ، إلّا أنّهم يتحولوا إلى وحوش ، و قتلة حقيقين حقاً ، عندما تكون هناك جلبة ما .
و التفت لشمسٍ ، و قلت له : " إنَّ هذه الفتاة مسكينة حقاً ، لوقوعها بين يدي هؤلاء الوحوش . " ،
و لكني لم أرَ شمس بجانبي كما كان ....... .
لقد هبَّ مُندفعاً مثل قذيفة مُلتهبة ، نحو تلك الضوضاء ،
و رفع عصاه بوجوههم ، و صاح قائلاً :
" توقفوا ، توقفوا ،
ما بالكم يا أخوة ، هل يجتمع عشرات الرجال على امرأة ضعيفة ؟ "
نظروا جميعاً إلى شمس بدهشة قليلاً ،
ثمَّ صاح أحدهم ، و بدا أنّه الوحيد من بين الجميع من يعرفها جيداً :
" إنّها كافرة ماكرة ، جاءت إلى المسجد لكي تغوي الرجال " ،
ثمَّ أمسك العمامة التي تضعها على رأسها ، و رماها أرضاً ،
فانهال شلال شعرها الطويل العسلي ،
كانت امراة في ريعان الشباب ، و فاتنة حقاً ،
وقف الجميع مذهولين من جمالها للحظة .
شمس : " أنا لا أفهم ، هل دخول المسجد جريمة ، تجب عليها العقوبة ؟ "
قال شمس تلك الكلمات بلهجة احتقار واضحة ،
و بعد تلك الضوضاء ، صمت الجميع قليلاً من كلام شمس ،
فهبَّ رجل من بينهم ، " إنّها كافرة قذرة ، لا مكان لها بمسجد طاهر ."
هذه الكلمات كانت كافية لإشعال فتيل جنونهم ثانية ، و أصبحوا جميعاً يصرخون ، مُطالبين بقلتها .
" حيوانة فاسقة ، علينا قتلها " ،
" يجب أن لا يلوّث أمثالها بيت الله " .
فأخذ شمس بيدها ، من رجل كان يمسك بها ، و اختبأت خلف عباءته ، كما يختبئ الطفل الصغير خلف أمه ،
و قد شحب وجهها حتى الموت ، و جحظت عيناها اللوزيتان من شدّة الخوف .
هل أنتم حقاً حريصون على حُرمة مسجد الله ؟ ،
أم أنَّ هذه المرأة قد فتنتكم ، و هذا ما شدَّ انتباهكم ! ؟
فاستشاطوا جميعاً أكثر ، ....
" لم أرَ في حياتي درويشاً يدافع عن كافرة !! . " ،
" دعها حالاً لكي نقتلها . "
" سلمها لنا ، إنّك ترتكب خطأً فادحاً . "
" أنتَ غريب عن هذا المكان ، ولا تعرف شيئاً ، فلا تحشر أنفك هنا . "
و رغم إساءة الجميع لشمس ، إلّا أنّه بقي صامتاً يُمعن التفكير فيهم ،
و لم يبدو عليه أثر للغضب ، أو الامتعاض من كلامهم ،
و بعد برهة قال ....... ،
شمس : " لكن بربكم ، ألم تكونوا تستمعون لمجلس علم في بيت الله ! ، فكيف لاحظتم وجود هذه المرأة ،
لو كنتم تولون ذلك الاهتمام ببيت الله و بمجلس العلم ، أكثر مما تولونه لما من حولكم
، لما لاحظتم وجودها ، و لو كانت عارية . "
ثمَّ رفع صوته أكثر ، بنبرة رجّت المكان ،
" هيا عودوا لخطبتكم ، و افعلوا شيئاً أفضل هذه المرّة . "
صمت الجميع صمتاً مُطبقاً ، لم يتمكن أحد منهم من التفوّه بكلمة واحدة ،
الصوت الوحيد الذي طغى على المكان هو حفيف ملابسهم فقط .
" هيا انصرفوا ، هيا " ،
لوّح شمس بعصاه نحوهم ، و كأنّه يهشّ الذباب .
تراجع بعضهم إلى الوراء بحيرة ، لا يعرفون ما يجب عليهم فعله ،
و لا أظن أن لديهم نيّة للعودة إلى الخطبة بعد الذي حدث .
ثم بدا ان الفتاة استجمعت كامل شجاعتها ، لتظهر من خلف ظهر شمس ، ثمَّ تركض هاربة نحو أحد الأزقّة ، و شعرها الطويل يركض من خلفها ،
فتبعها رجلين ، محاولَين إمساكها ، إلّا أنَّ شمس التبريزي قد اعترض طريفهم بعصاه ،
حيث رماها تحت قدميهما ،
فوقعا أرضاً ، فتعالت أصوات ضحك الجميع عليهما ،
و كنت ممن ضحك عليهما حقاً ،
و بعد أن استعادا توازنهما ، كانت الفتاة قد اختفت دون أثر ،
و بعدها ابتعد شمس بهدوء ،
دون قول كلمة واحدة ،
لقد نجت الفتاة بفضله ، و إلّا لكانت في حال مُروّعة بمعنى الكلمة .