19

و قد سلّمتُ بحقيقة أنّ هنالك أشياء تتجاوز حدودي ، و مقدرتي .

أتعلمين يا إيلا أننا إذا أردنا أن نضيف شيئاً إلى حياتنا ، فعلينا أن نجري تغييرات رئيسية على حياتنا ؟ ، و إلّا لن نتمكّن من إضافة ما نريد ،
أعلم أنّك تحبين الطهو ،

هل تعلمين أنّ شمس التبريزيّ كان يقول أن الحياة عبارة عن قِدر كبير يتمُّ طهو شيء ضخم فيه على مهل ؟ ،
لكننا لم نعلم ما هو هذا الشيء حتى الآن ، و لكن ما نعلمه أن كل ما نقوم به ، و كل أفعالنا ، و مشاعرنا ، و أفكارنا ، هي مكونات نقوم بإضافتها إلى ذلك القِدر الكبير .

ماذا عنكِ يا إيلا ؟ ،

برأيك ما هو المكوّن الذي تضيفينه أنتِ إلى حساء البشرية المصنوع في ذلك القِدر ؟ ،
بالنسبة لي ، عندما أُفكّر في الذي يمكنكِ إضافته فهو شيء من المودّة ، و المحبّة ، لا تفارقهما ابتسامة عريضة .

مع أطيب أمنياتي .
عزيز .

.........

جلست إيلا تفكّر بِحيرة ، ما الشيء الذي يجمعها مع عزيز ، و يجعلها منسجمة معه ، حتى تتبادل معه الرسائل بكل سلاسة هكذا ،

و من خلال رسائلهما ، وجدت بينهما اختلافاً واضحاً في كثير من الجوانب ؛ في الأفكار ، و المعتقدات ....

بالنسبة لإيلا ، فإن عزيز يشبه لوحة مركّبة ،
تلك اللوحة المؤلّفة من كثير من القطع التي قد لا تُعدّ ، و في كل رسالة منه ، كانت تكتشف قطعة ما ، و تضيفها إلى اللوحة في ذهنها ،

و هي تنتظر اكتمال اللوحة ، لكي تستطيع رؤيتها كاملة ، فاكشتفت عدّة أمور عن الرجل المدعوّ عزيز .

فمن مدوّنة عزيز ، علمت إيلا أنّه مُصوّر مُحترف ، يطوف البلدان شرقاً و غرباً ، شمالاً و جنوباً ،

و كان الذهاب إلى أقاصي الأرض أمراً سهلاً ، و طبيعياً بالنسبة له ، كمن يذهب بنزهة إلى حديقة قريبة من المنزل ،
، يسافر حاملاً معه كاميرته ، و حاسوبه ، و حقيبة ظهر ، و يعتمر قبعة مدوّرة ،

و يجوب جميع قارات العالم بمختلف مدنها و حضاراتها ، من القديمة العتيقة ، إلى الحديثة المتطوّرة ،
لكنّه كان يفضّل تلك القديمة .

لكن رحلاته لم تكن تخلو من الأخطار ، و المصاعب ،

و بعض الأمراض أحياناً التي قد تنتقل عن طريق ماءٍ ، أو طعام ملوّث ، كما كان يواجه صعوبات جمّة في التنقل ، و الحصول على تأشيرات سفر ، لدخول بعض الأماكن التي تستنكر الغرباء و لا ترحب بهم ،

و ربّما واجه بعض اللصوص و قطاعي الطرق أحياناً في بعض الأماكن النائية ،
و مناطق لا تخلو من الصراعات ، و الثورات ، لم يكن هذا يعني له شيئاً ،

لقد كان يرتاح في كلّ مكان يذهب إليه ، كما يتّخذ أصدقاء من مختلف الجنسيات ، و الألوان ، كان مستعدّاً للمغامرة حتى الصميم .

لم يقلق يوماً من أي شيء ، و يتّصف بشيء من المثالية ، و يمتلك كثيراً من المحبّة ، و كان مليئاً بالحيوية التي لا يمكن أن يسعها جسد واحد .

عزيز في نظر إيلا كشلال هادر لا يستطيع أحد أن يوقف تدفقه ،
لأنه كان يُقدِم على السفر إلى مختلف الأماكن ، دون أن يحسب حساباً زائداً لما ينتظره ، و مثل هذه الأمور تخيف إيلا حقاً ، فهي لم تكن من النوع المغامر ، الذي قد يفعل شيئاً دون تخطيط مُسبق أو تحضير ،

فقد كانت تنظّم وقتها لأبعد الحدود ، و تستمرّ بوضع خطط لليوم ، أو الأسبوع القادم ، و ما بعده ، كانت تصع خطط حتى للسنة القادمة ، و لا يفارقها جدولها اليومي الذي تمشي على أساسه ،

كانت إيلا تتردد و تقلق قبل أن تقوم بأي عمل ، على عكس عزيز .

وكانت تنظّم عالمها كما تنظّم أمور بيتها بدقّة و انتظام .
لم تكن متديّنة لتلك الدرجة ، و كانت تمقت المتعصّبين من مختلف الديانات ، كما كانت تعتقد انّ الدين هو أحد أكبر المشاكل التي تشغل العالم اليوم ،

أما عزيز فقد كان يأخذ الأمور الدينية و الإيمانية بشكل جديّ ، لم تكن تهمّه الشؤون السياسية المعاصرة ، لم يكن يكره أي شيء ،

و قد اعتنق الإسلام بعد أن كان بلا دين قبلاً ، و يقول مازحاً أحياناً : " قبلاً جيم ستيفنز ، و الآن عبد الكريم مختار " ،

و من حينها أصبح يقتسم خبزه ، و محبّته مع آلاف المسلمين ، و يقول أنّهم جميعاً إخوة و أخوات على طريق واحد .

عزيز رجل مسلم يرفض العنف بكل أشكال ، و له آراء إنسانية قوية ، و كان يرى أنّ الحروب التي تقوم على أساس الدين ، ما هي إلّا سوء فهم محض ،

و من أسبابها اختلاف اللغات ، بقوله إن اللغلة قد تخفي الحقيقة أكثر مما قد تكشفها ، إذ أننا قد نخطئ بتعبير بسيط ، مسببين بذلك معضلة كبيرة ، تدعى و كما يسمونها " حرباً دينية " .

و بشكل عام ، على المرء أن لا يملك ذرّة تشدّد أو تعصّب في أي شيء ، لأنه لكي يتمكّن من إيجاد اللون الذي يناسبه ، عليه أن يستمرّ بتغيير ألوانه ، و هكذا سيكون قادراً على الوصول إلى الحقيقة أينما كمنت .

لقد كان الاختلاف بين إيلا و عزيز ظاهرياً و باطنياً ، و حتى زمنياً ، فإيلا من النوع المهووس بالوقت و خصوصاً المستقبل ،

و إذا ما كان لديها خطأ ما أو ازمة ما في الماضي فهي لم تكن تنفكّ عن تذكّرها .

أمّا بالنسبة لعزيز ، فقد كان الزمن بالنسبة يعني اللحظة الراهنة و حسب ، و ما عدا هذه اللحظة يعتبره سراباً لا طائل منه ، و لذات السبب فإن عزيز يرى أن لا ارتباط للحبّ بخطط اليوم القادم ،

و لا علاقة للحبّ أيضاً بذكريات الماضي ، فلا يمكن للحبّ أن يكون سوى هنا و الآن .
و قد ذكر في واحدة من رسائلة العبارة التالية :
" أنا مسلمٌ ، طفل اللحظة الراهنة " .

فكان ردّ إيلا على عبارته هذه :
من الغريب ذكر هذه العبارة لي ،
أنا التي تفكّر بالماضي كثيراً ، و لا تتوقف عن التفكير بالمستقبل أكثر ،
أما اللحظة الراهنة ، فلم أُعرها ذلك الاهتمام من قبل .

وبالرغم من ذلك الاختلاف الواضح و الظاهر ، كانت محادثتهما على الدوام سلسة و منسجمة ، و كان كل منهما لا يملّ من الحديث مع الآخر .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي