14

و عليكَ أن تعلمَ جيداً أيضاً ، أنّ شمس ليس شخصاً سهل في التعامل مع البشر أبداً ، إن بقاءه حراً طليقاً لفترة طويلة ، جعله هكذا ربما ،
و إنّ اكتسابه لمعارف لا تعدّ في الغالب ، يجعله مؤهلاً لهذه المهمّة ،

و واحد من الأسباب التي جعلتني اقوم بتأجيل رحلة شمس ،
هو أنّه لم يعش في أجواء مدينة لفترة طويلة ، و ليس معتاداً عليها ، و أخشى إذا ما اختلط بأهلها ، فسوف ينزعج ، و يسبب الإزعاج لمن حوله ؛

و قبل أن يغادر شمس في الموعد الذي حددته له ، خرجنا أنا وهو إلى البستان ، حيث أشجار التوت ، و حيث دود الفزّ ، صانع الحرير ،

ف
كنت قد أخبرت شمس عن أن الدودة إن خرجت من شرنقتها حيّة ، فسوف تُفسد الحرير ،

لذلك علينا الاختيار بين دودة القزّ ، أو الحرير ،
و في الغالب يتمّ قتل ذلك الدود ، للحفاظ على الحرير الطبيعيّ الذي أنتجته ، و لصنع قطعة حرير صغيرة ، قد تقتل المئات من دودة القزّ ،

في الحقيقة رأيت حزناً في عينيّ شمس ذلك اليوم ، فأنا و هو نعلم أنّه ربما قد لا أحد من سيرى الآخر في هذا العالم ،

لقد هبّت ريح باردة عندها ، مما جعلني أرتعش ، مع أنّها لم تكن قوية جداً ،
رعشتي يا صديقي لم تكن بسبب كبري في السنّ ،
بل لأن هذه ستكون آخر مرّة ، يقف فيها عزيزي شمس في بستاني أمام عينيّ ..

و عندما طلع فجر اليوم المنشود ، أتى إليّ شمس ليودّعني ، و يطلب مباركتي ، و دعائي ، و كنت قد تفاجأت عندما رأيته قد قصّ شعره ،
لكنّه لم يقل شيئاً عن ذلك ، و أنا لم أسأله ، فشمس سيبقى شمس في كل الأحوال ...

و قال لي قبل أن يغادرنا :
" أعتقد أن مهمّتي في هذة الحياة ، تشبه مهمة دودة القزّ ، ففي النهاية ؛ من أجل أن يعيش الحرير ، على دودة القزّ أن تموت . "

و بعد ذلك غادر مُتَجهاً إلى قونية .
في عناية الله ، و حفظه يا شمس .
أنا أعلم أن كلانا قد فعل ما يتوجّب عليه ، لكنّ قلبي مُثقل بالحزن الآن ،
بدأت أشتاق لشمس من الآن ، هذا الدرويش الصادق ، لم يكن همّه الخلق يوماً ، بل كان الخالق همّه الوحيد .
في النهاية ، نحن نريد ، و الله يفعل ما يريد .

أخوكَ
عبد الله .

........

" شمس "

في الليلة التي سبقت يوم مغادرتي لتكية الدراويش ،
دخلت إلى غرفتي ، و قمت بفتح النوافذ على مصراعيها ، و في جنح ظلام الغرفة ، أشعلت شمعة ، و على ضوئها المتراقص ، رحت و قصصتُ خصلات شعري السميكة ، التي راحت تتساقط على الأرض خصلة خصلة ....

و حال ما انتهيت ، نظرت في المرآة إلى وجهي ، الذي بدا أكثر وضوحاً و شباباً ، بعد أن أزحتُ شعري عنه ....

و عندما ذهبتُ لتوديع الدرويش عبد الله ، قال لي :
" بدأت رحتلك تغيّرك من الآن يا شمس . "

فقلت له : أعتقد ذلك يا معلّم .

و بابتسامة طفيفة ، قام بإعطائي صندوقاً ، احتوى على ثلاثة أشياء ، علبة بسلم ، و منديل أبيض ، و مرآة ، و قال لي :
إن البلسم سيشفي جروحك الخارجية ، و الباطنية بإذن الله ، و أما المنديل الأبيض ، فسوف يذكّركَ ببياض قلبك ، و أما المرآة فسوف تُريك جمال روحك يا شمس ؛

هذه الأشياء سوف تساعدكَ إن شاء الله في رحلتك ،
فإن شعرت بالاستياء ، أو تضايقت ممن حولك ، هذه الأشياء ستكون عوناً لك ... . "

أمعنتُ النظر في هذه الأشياء جيداً ، ثم أغلقت الصندوق ، و نظرت في وجهه الذي بدا قلقاً و متعباً كالعادة ، من اليوم الذي استلم فيه الرسال من القيصرية ، لكني لم أجد سبباً مُقنعاً لحاله هذا ،

أعلم أنّه قلق عليَّ ، غير أن الانطلاق في رحلة حبّ داخلية ، كيف له يمكن أن ينتج عنها أي ضرر ؟ ! ،

فواحدة من القواعد الأربعين تقول :
" يجب عليكَ أن تجعل الرحلة التي تقوم بها ، رحلة في داخلك ، فإن جعلتها في داخلك فسوف تستطيع اجتياز العالم ، و ما خلفه ،
فكن على تمام الثقة ، أنّه لا يوجد هناك فرق بين الشرق ، و الغرب ، أو الشمال ، و الجنوب . "

و قد علمت أن رحلتي في قونية ، لن تخلو من المشاقّ ، و المتاعب ،
لكنّي رحبت بذلك القدر بكلّ سرور ،
و لم يكن لديّ أي قلق ، فلقد تعلمتُ أن أتقبل مساوئ الحياة ، مثلما أتقبّل محاسنها .

قمت بتوديع درويش التكية ، و طلبتُ إنه الإذن للمغادرة ، و لمّا أن لم ينطق بشيء ، بل اكتفى بأن هزَّ رأسه ، و أغلقت عينيه ، انطلقت مع بزوغ أوّل خيوط الفجر ، و امتطيت حصاني في مواجهة الرّيح ،

توقفت للحظة واحدة فقط ، و نظرت إلى الخلف ، إلى حيث توجد تكية الدراويش ، التي بدأت تتوارى خلف أشجار التوت ، و شجيرات أخرى ...

.......

" نور ثامبتون "

هذا الصباح ، دخلت إيلا إلى المطبخ ، و لكن على غير العادة ، فقد ذهبت لتفحّص بريدها الإلكترونيّ في الحال ، املاً بوجود رسالة ما - رسالة من عزيز مثلاً - ،

لم تحضّر فطوراً لكلّ واحد منهم كالعادة ، و لم تحمّص الخبز ، و لم تعدّ القهوة التي كانت تبتدأ بها يومها ، في كلّ صباح ،

و فعلاً كانت هناك رسالة من عزيز ، مما جعل إيلا متفائلة و سعيدة .

.......

سيدتي إيلا ،

لقد سُعدت حقاً لمّا علمت أنّ سوء الفعم قد حُلَّ ، و أنّ الأمور قد تحسّنت بينك و بين ابنتكِ ،

في الحقيقة ، لقد كنت أفكّر منذ يومين ، بالألوان التي يمكن أن تُمثّلكِ ،
فخطرّ لي ثلاثة ألوان ، و هي الأصفر اللطيف ، و البرتقالي الخجول ، و الإرجوانيّ ، و لقد أحسست أن هذه الألوان هي التي تناسبكِ ، و هي جميلة سواءً كانت منفصلة ، أو مجتمعةً معاً .

أنا الآن قد سافرت إلى تشاغول ، و هي قرية صغيرة في غواتيمالا ،

و لا زال يعيش أصحابها في بيوت متفرّقة ، و مُشيّدة من الطين ، ....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي