28

" شمس التبريزيّ "

لقد قررتُ أن ألتقيَ بجلال الدين الروميّ غداً ،
و ها أنا الآن جالس في الغرفة التي استأجرتها في الخان ،

و قل أرخى الليل سدوله ، و غطَّ كل سكان قونية في نوم عميق ،
مُخلّفين وراءهم سكوناً ، لم تستطع حتى الحيوانات في الشوارع كسر هذا السكون .

جلستُ أستمع إلى لحن موسيقى الهدوء تلك ،
و أتفكّر بهذا الكون ، الذي خلقه الله بإبداع ،
فأينما أنظر من حولي ، أرى عظمته ، و جلاله ، و جماله ، من خلال كلّ شيء خلقه ،

لكن قليل من البشر من يفعل ذلك !! ،

و أنا الآن أشعر بامتنان و حبّ عظيمين لذلك الخالق الذي لا مثيل له .

لقد التقيتُ بذلك المتسوّل المريض ، و تلك الفتاة الضائعة ،
و ذلك العجوز عدنان ،
مع أنّ لا شيء يربطهم ببعضهم ، و لا أظن أنهم يعرفون بعضهم أيضاً ،

لكنَّ الشيء المشترك بينهم بالتأكيد هو افتقاره و احتياجهم لله الواحد الأحد .

هذا النوع من أصناف الناس ، لا اطّلاع للعلماء القابعين في ابراجهم المشيّدة عليهم ،
و لا علم لهم بحالهم ،

ولو كان الرومي من هذا النوع من العلماء ، فواجب عليّ أن أكون الصلة الواصلة بينه ، و بينهم .

و في هذه اللحظة بالذّات ، و أنا جالس بمفردي ، و العالم غارق بهدوءه ،
أشعر بحزن و فرع معاً ،

تساؤلت عمّا يجول خلف كلّ باب موصد ،
و كيف سيكون حالي ، لو كنتُ قد اخترت في هذه الحياة طريقاً آخر ،

لكن الاختيار لم يكن بيدي ، فطريقي هو مَنْ اختارني .

أتذكّر قصّة لدرويش سمعتها ذات مرّة ؛ أنّه قد ذهب لقرية منعزلة ،
و أهلها لا يتعاملون مع أحد غريب عنهم ،

لذا لمّا أراد البقاء ، رفضوا و طردوه بقولهم أنهم لا يستقبلون من لا يعرفون ،

فقال لهم الدرويش :
" لكنّي أعرف نفسي تماماً صدّقوني ،
و لو لم أكن أعرف نفسي ، لما كان هناك معنى لوجودي أصلاً . "

فإذا عرفنا أنفسنا جيداً ، حينها سنكون قادرين على معرفة الواحد الأحد ،

فمن يعرف نفسه بالفقر ، يعرف ربّه بالغنى ، و من يعرف نفسه بالضعف ، يعرف ربّه بالقوّة و الغنى و هكذا ......... .

انطفئ فانوس غرفتي فجأة ، لكنَّ انطفائه لم يشكّل فرقاً كبيراً ،

ففي بعض الأحيان أرى في الظلمة ، كما ارى في النور ،
و هذا ليس صعباً على أي أحد ، إن استخدم عين قلبه - عين الحقيقة - .

و ها أنا ذا الآن ارى وشاحا شفافاً ينتشر في الجوّ ، بعد أن سطع ضوء القمر الدافئ على الأنحاء .

إنّ هذه لحظة مباركة ، اسلمتُ فيها نفسي لله ، و ما يريد فعله فيها ،

أنا تحت إرادته ، و مشيئته ، و كُليّ رضاً و غنى ....

و مما هو مُقدّر لي ، لقائي بالعالم الجليل الروميّ ،
و أنا الآن استعدّ للقاءه في يوم غد ،

قد يكون خطيباً عظيماً و مُبجّلاً عند الكثيرين ،

و هكذا هو الحال دائماُ ، فأهميّة و شعبيّة كل خطيب تكون بعدد من يأتي و يستمع لخطبته ،

و حقيقة الكلام الذي يُلقيه الروميّ في خطبته ، عبارة عن حديقة مليئة بورود و أعشاب و شجيرات برية ،
يأتي إليها مُختلف أصناف البشر ، و يأخذون منها ما يشاءون ، و يدعون ما يشاءون ،

لكن لا فكرة لأحد منهم عن أشواك الورود التي يتركونها ، و يكتفون بالورود فقط .

فهم لم يدركوا ان تلك الأشواك هي التي يُصنع منها الدواء .

و هذا تماماً ما ينطبق على حديقة العشق .

لن يكون العشق عشقاً ، إن اختار الإنسان منه الأشياء الجيّدة و الجميلة فقط ،
و ترك الاشياء الصعبة ، فمن السهل على كلّ شخص أن يفعل ذلك ،

لكنَّ التحدي الحقيقي ، يكمن في تقبّلك للجميل و السيء معاً .

لا لأنّه علينا تقبّل الأمور مثل ما هي بحلوها و مرّها ، بل لأن علينا تقبّل الحب بكلّيته ، و تجاوز كلّ تلك الأوصاف " الماديّة " .

هذه الليلة فقط ، هي ما يفصلني عن لقاء الروميّ .
أيّها الروميّ ، ايها البحّار الماهر في بحور العلم ،
هل ستعرفني ما إن تراني ؟ !

إنّي انتظرك .

...........

" الروميّ "

و أنا أستعدّ للذهاب لإلقاء خطبتي اليوم ، و لسبب ما أحسستُ أنّه سوف يكون يوماً مباركاً .
 
و مع اقتراب فصل الشتاء ، بدأ الهواء يصبح أكثر برودة ، لِيُعلن عن انتهاء خريف هذا العام .

و كالعادة كان المسجد مُكتظّاً بالحاضرين ، من مختلف المُدن ،

لكنّي عندما أُلقي خطبتي عادة ، أستشعر أنني أُلقيها لشخص واحد فقط ،

هذا الشخص هو المستعدُّ لتلقي تلك الكلمات إلى سويداء قلبه ،
و فهم المعاني الباطنة للكلمات أكثر من معناها الظاهر ،
و بذلك أكون قد أديتُ أمانتي ، فالعلم أمانة برقبة كلّ من يحمله .

و لمّا انتهيت من إلقاء الخطبة و خرجت ، كان عدد كبير من الناس ينتظرونني في الخارج ، و يسدّون طريقي ،

بعضهم من مريدين يطلبون الدعاء للبركة ، و بعضهم الآخر من المصابين بأمراض عضال ، أو أمراض صعبة الشفاء ،

كانوا يريدون لمسي ، و التحدّث معي طالبين مني يد العون للشفاء ،

أنا لا أعلم ماذا يعتقدونني ليطلبوا مني أن أشفيهم !!

فهذا وحده بيد الله ، و أنا لا أملك لهم أي شيء .

و بصعوبة شققتُ طريقي نحو حصانيَ الأصيل ، و قد قاموا بتظفير شعره ، و تزيينه ببعض الأجراس الفضية بشكل أنيق ،

فترنّ تلك الأجراس عندما أمتطي حصاني ، و أمشي به في الموكب ،
و كأن تلك الأجراس تعلنُ قدومي لجميع من أمرُّ من جانبه .

و قد كانت أصوات الباعة في السوق ، تمتزج مع أصوات بكاء و لعب بعض الأطفال ، و مناجاة بعض المتسولين للحصول على بعض النقود ،

بالإضافة لضجيج بعض المحلّات التي مررنا بجانبها في الموكب ،

و في طريقنا و عندما اقتربنا من خانٍ للمسافرين ، وقف رجل في اتجاه معاكس لسير الموكب .

كان رجلاً طويلاً نحيفاً يتّشحُ بالسواد ، و قد حلق شعر رأسه ......

وقف هذا الرجل بوجه الموكب ، و قام بفتح يديه على مصراعيها ، مُحاولاً إيقاف سير الموكب ،
لا بل بدا أنه سيوقف العالم أجمع بيديه هاتين ،
و ليس الموكب فقط ، و بدا لي أنّه قد وضع شيئاً فضياً يشبه السوار على إحدى يديه .

بعد أن ظهر هذا الرجل ، هاج الحصان و ارتبك ، ثمَّ توقف من تلقاء نفسه ، و لم يتوقّف عن الصهيل لبعض الوقت ،

كما نظر الجميع إليه بتعجب و استنكار ....

نظرتُ إلى ذلك الرجل بتمعُّن ، لكني ما استطعتُ أن أفهم تعابيره التي يكتنفها الغموض ،

علمتُ فور رؤيتي له أنّه درويش جوال في الغالب ،
و مع أنني رأيتُ كثيراً من الدراويش الذي مرّوا من هنا قبلاً ،

لكن ما لفت انتباهي ، و شدني إليه بشكل فريد ، كان نظراته المرتسمة في عينيه السوداوين .

كان واقفاً في منتصف الشارع ، و بقي فارداً يديه ، و ينظر إليَّ بنظرات تخترقني كالسيف .....

توترتُ قليلاً و اعتراني شعور بالقلق عندما اقترب الدرويش من الحصان الذي لم يكن حاله أفضل من حالي ، حيث لم يتوقف عن الصهيل ، و التصرف بعنف ،

حاولتُ تهدئته لكن لم يجدي ذلك نفعاً ، حتى دنى الدرويش من الحصان و همس شيئاً بقربه ، فهدأ الحصان تماماً .

لقد استنكر جميع من حولي ظهور هذا الرجل ، و مع ما حدث للحصان ، سمعتُ شخصين يتهامسان بأنَّ هذا نوع من سحر الشعوذة ،

هكذا هم الناس غي أغلب الأحيان ، يُلقون الكلام جُزافاً ، و لا يعبؤون بما يقولون .

لكن الدرويش لم يعبأ بما بدأ يتفوه به الجميع ، و كأنه لم يكن هناك أحد غيرنا نحن الاثنان و الحصان ،

نظر الدرويش إليّ بنظرات ثابته ثم قال ....

شمس :
" يا أيّها العالم الجليل ،
لقد ذاع صيتك في مشرق البلاد و مغربها ،
و قد جئتُ اليوم لكي أطرح عليكَ سؤالاً  ،
فهل لي ؟  "

الروميّ :
" تفضّل ! "

شمس :
" في البداية ، ألن تنزل عن حصانك لكي نتحدّث وجهاً لوجه ؟! . "

كان اندهاش جميع من حولي واضحاً ، و لم أكن أقلّ دهشة منهم بل لم أستطع أن أنطق بحرف واحد حتى ،
و كان الانزعاج واضحاً على وجهي الذي التهب باللون الأحمر ،

لكنّي كبحت غضبي ، و نزلت عن حصاني ،
و لسبب ما أدار الدرويش ظهره و ذهب ، فناديته بقولي :
" انتظر يا رجل ، أولم تكن تريد أن تسألني سؤالاً ؟
، إنّي أستمع . "

فنظر إلي الدرويش و ابتسم لي لأوّل مرة ، و قال ....

شمس :
" من هو الأعظم برأيك ؟ :
نبينا الكريم الذي كان يرى نفسه مُقصّراً في عبادته ، و يرى أنّه في حاجة ماسّة للسعي دون راحة لنيل رضى الله ، و أن وقته لا يكاد يسعه ،

أم رجل مُجتهد و على قدر من الالتزام بالعبادة ، و يرى أنّه قد وصل إلى مقام عالٍ من القرب لله  ، و قد بلغ الذروة ؟

أرجوكَ أجبني أيّها الروميّ .  "

الرومي :
" ما بالك أيها الرجل ، كيف تقارن بين خاتم النيين ، و صفوة خلق الله ،
و بين عبد من عباد الله ؟ "

و لم أكن وحدي من تعجّب من سؤاله ، بل احتشد الناس من حولنا ، و بفضولهم لم يتوقفوا عن الثرثرة أبداً ،

و لكن الدرويش لم يتوقف عن عدم اكتراثه لما يقوله جميع من حوله ، و أصرّ عليَّ لأجيب عن سؤاله ....

شمس :
" ارجو أن تعيد التفكير بالأمر ثانيةً ،
أفلم يقل النبي الكريم ربي اعفر لي عجزي عن معرفتك حق المعرفة ،
وكان يرى نفسه صغيراً جداً مقارنة بالله .

في حين قال ذلك الرجل أنّه مع الله في جميع أحواله و أقواله ، و أن حاله ليس عند أي أحد . "

بدأ قلبي يخفق بشدّة الآن ، و لم يعد سؤاله غريباً الآن ،
بل أحسست أنه يريد تنبيهي على أمر ما بسؤاله هذا ، و بعد هذا السؤال أحسستُ أنّ ستاراً قد انجلا عني و تعرّفتُ على شيء كنتُ غافلاً عنه من قبل ،
عرفتُ الآن تماماً ان هذا الدرويش ليس مجنوناً كما اعتقده بعض مَنْ حولي ،

و سَرت رعشة في صوتي قليلاً ، لكنّي حاولتُ إخفائها بقولي له : " إني أرى ما تحاول قوله الآن . " .....

الرومي :

" و مع أنَّ قول ذلك الرجل يبدو في الظاهر أعلى مقاماً من قول النبي الكريم ،
لكنّي سأخبرك الآن لمَ أن الحال هو العكس تماماً . "

شمس :
" كُلّي آذان صاغية لك . "

الروميّ :

" إن حبّنا لله تعالى ، مثل بحر ممتدّ بلا حدود ، و لكي ننهل من بحر هذا الحبّ ، فلا بدّ أنّ نمتلك إناءً نملؤه من هذا البحر ،

و مقدار ما سوف نحصل عليه من ماء الحب ، على قدر حجم الإناء الذي نحمله ،

و قد كان ذاك الرجل الذي يرى أنّه وصل للذروة ،  يحمل إناء صغيراً ، امتلأ من فوره ، و لم يعد يتسّع للمزيد ،
لذا ظنَّ أنّه قد وصل لأعلى المراتب ، مما دفعه لقول ما قال .

في حين أنَّ حضرة نبيّنا الكريم ، كان إناءه الذي وهبه الله إياه كبيراً جداً ، لدرجة أنّه مهما نهل من بحر العشق الإلهي منه ، فهو بحاجة للمزيد ، لذلك كان دائماً يقف على باب الله بكل ذلّ ، و يرى أنّه في أشدّ افتقاره لله العظيم ،

و لذا كان النبي الكريم يقول : أننا لا نعرفك كما ينبغي لنا أن نعرفك يارب .

مع أنّه و بكلّ تأكيد أكثر من يعرف الله سبحانه حق المعرفة . "

عندما بدأتُ بالحديث رداً على سؤال الدرويش ، لاحظتُ ابتسامة رقيقة مُرتسمة على وجهه ، تدلّ على سعادته لوجود شخص امتلك ذات فكرته .

و بعد ان انتهيت من حديثي ، ازدادت ابتسامته بهجة ، و أومأ براسه شاكراً لي ، واضعاً يده اليمنى على قلبه بكلّ امتنان .

كانت الشمس على وشك الأفول ، و لوهلة فاحت رائحة عنبرية عجيبة ، فنظرتُ من خلف الدرويش حيث كان الأفق ملوناً بالرمادي المائل للفضة ،

و داعبتنا نسمات نهاية الخريف و قد انحنى كل منّا مُحيياً الآخر ، و لا أعلم كم لبثنا على هذه الحالة ،

و عندما التقت نظراتنا ثانية ، كانت عيناه مليئتان باللطف و الودّ .

و بعد أن كان الناس يراقبون حديثنا بدهشة و استغراب ،
بدؤوا الآن بالانزعاح و التململ مما يحدث حولهم ،
إذ لم يروني أنحني لأحد من قبل ، و لا سيّما لدرويش جوال .

شمس التبريزيّ :
" من الأفضل لي الذهاب الآن ، و سوف أتركك مع تلاميذك و مُريديك . "

الرومي :
" لا أرجوك انتظر ، لمَ عليك الذهاب الآن ؟ . "

التفت الدرويش إليّ و بدا أنّه اراد قول شبء ما ، لكنه امتنع عن ذلك ،
إما أنّه لم يستطع قوله ، أو أن شيئاً آخر قد تبادر إلى ذهنه ، و من ثمّ سألني سؤالاً بنبرة صوت مخميلة تكاد تكون أقرب للهمس ......

شمس التبريزيّ :
" و ماذا عنك أيها الروميّ ؟
ما هوَ حجم إنائك ؟  "

لم تكن عندي إجابة على سؤاله ذاك أبداً ، و للحظة جفّت كل المنابع التي تخرج منها كلماتي ،
اقتربتُ من الدرويش قليلاً ، حتى أنني استطعت رؤية تلك الخطوط الذهبية بعينيه السوداوين .

ثم تبادر إلى ذهني مباشرة شيءٌ ما ، مثلما و كأني قد مررتُ بهذه اللحظة من قبل لعدّة مرّات ، لا بل لعشرات المرّات ....

ثمَّ خطر لي ظلّ رجل طويل و نحيف ، ذو حجاب يغطي وجهه ، و أصابع يدٍ مُشتعلةٍ بالنار .

يا إلهي !
لم يكن هذا الدرويش إلّا الرجل الذي كنتُ اراه في حلمي لليالي كثيرة !!!

ألا ينبغي عليَّ أن أكون سعيداً الآن ، فلمَ أشعر بشيء من الرهبة و الخوف ؟

لقد كان أحساسيَ صحيحاً قبل أن أحضر للخطبة اليوم .

إنّه ليوم مبارك حقاً ، اليوم الذي التقيتُ فيه شمسي ، شمس التبريزيّ .

..................

" قونيا "

في طريق عودة علاء الدين الروميّ من رحلة صيده ، مرّ في المدينة و التي كانت تطبل بحادثة يوم أمس ، التي حدثت بين والده الروميّ و الدرويش الجوال شمس التبريزيّ ،
فقد سمع ما حدث من هذا و ذاك ، و كان الجميع يرى أنّه قد تمت إهانة الروميّ بسبب ذلك الدرويش ،

و أكثر اثار جنون علاء الدين عندما عَلمَ أنّ والده قد انحنى لذلك الدرويش الغريب ،

فهو لم يرى والده ينحنى لأحد قط ، غير السلطان من قبل ، لم يصدّق جُلّ ما سمعه من الناس ، إلّا عندما عاد إلى المنزل مُسرعاً ، و قام بسؤال كيرا ، زوجة والده التي من المستحيل أن تقول غير الحقيقة ،

فكانت صدمته عندما أكّدت له أن كلّ ما سمعه قد حصل بالفعل ،

و مما زاد من صدمته و غضبه عندما سألها عن مكان والده الآن ، فأخبرته أنّه في مكتبته منذ ان عاد بالأمس برفقة ذالك الدرويش .

" هذا مستحيل !!!
و فوف هذا هو في منزلنا الآن أيضاً "
صرخ علاء الدين بجنون .

كيرا :
" أخفض صوتك يا علاء !
لقد اخبرنا والدك ألّا نزعجهما مهما حدث . "

علاء الدين :
" ما الذي يحدث هنا ؟
أنا لم أعد افهم أبداً ! "    .

اقترب علاء من المكتبة قليلاً ، و حاول سماع ما يدور بينهما ،
لكنّه لم يستطع سماع شيء غير صوت همهمة غير مفهوم ،

و لم يترك شقّاً في الباب إلّا و نظر منه ، محاولاً أن يرى شيئاً ،

و لكنّه لم يستطع ، فقد كانت الإضاءة خافتةً بشدّة .

و هكذا بقي الروميّ و شمس التبريزي على حالهما في اليوم الذي يليه ، و الذي بعده ، دون أن يخرجا من المكتبة ، أو ان يتحدّثا مع اي أحد مهما كانت الظروف .

و كانت كيرا تضع لهما أطيب أنواع الطعام عند باب المكتبة ، ثمّ تذهب ،

لكنّهما لم يتذوّقا شيئاً غير الخبز و الماء في الصباح ،
و شيئاً من اللبن في المساء فقط .

.......

" علاء الدين الروميّ "

لملّكني القلق و الغضب كثيراً ، فلقد مضى أسبوع منذ دخل والدي إلى مكتبته برفقة ذلك الدرويش الغريب ،
و لم يخرج منها أبداً ،

لقد تركنا و ترك تلاميده و مُريديه ، و ترك كلّ واجباته ليبقى مع ذلك الرجل الغريب .....

و ذات مرّة رأتني كيرا و أنا اضع أذني على الباب و أحاول سماع شيء ما مما يقولانه ،

و لم تبدي اي ردة فعل ، فمن دون شكّ لم تكن اقلّ فضولاً مني ، لمعرفة ما يدور بين أبي و ذالك الرجل ،

لكنّ الأمر كان مُختلفاً عندما رأى أخي سلطان فعلتي هذه و أنا اتنصت عليهما ،

و قد غضب مني بشدّة و أنّبني على ما فعلتُ كالعادة ...

سلطان الروميّ :
" علاء !
لا يحقّ لكَ أن تتجسس على اي أحد ، و لا سيّما على والدنا ،
كيف تجرؤ على ذلك ؟  "

علاء الدين :
" اسألك بالله يا أخي ، ألا يزعجك ما يحدث الآن ؟

لقد مضى شهر و أبونا على هذه الحالة مع ذلك الرجل الغريب ، لقد تركنا والدي يا أخي !  .  "

سلطان :
" لم يتركنا والدي أبداً ، توقف عن تصرّفاتك الطفولية يا علاء ، و إن كنت تُحبّ والدنا حقاً ، فعليك أن تكون سعيداً له ،

و كلّ مافي الأمر أن والدنا قد وجد صديقاً جديداً له ، و هو بحاجة للحديث معه و الاستفادة منه . "

ثمّ لم أُتابع مجادلتي مع سلطان ، فلا فائدة من ذلك ، ثمّ انني قد اعتدت على ملاحظاته القاسية التي يوجهها لي ،

لكنّه كان ألطف مع الجميع من كونه معي ،
و كان محبوب أبينا المفصّل أيضاً ، و الجميع يحبّ تواجده إينما كان .

و هكذا في اليوم الأربعين من مكوث ابي و ذالك الدرويش في المكتبة ،
و بينما كنتُ أحاول سماع أي شيء كالعادة ،
سمعتُ صوت ذالك الدرويش يرتفع لأول مرّة .....

شمس :
" اليوم قد مضى اربعين يوماً على خلوتنا ، و قد كنا نناقش كل يوم قاعدة من قواعدي الأربعين ،

أظنّ ان الوقت قد حان لخروجك أيها الروميّ فلا شكّ أن عائلتك قلقة و لديها تساؤل حولك الآن . "

الروميّ :
" لا تشغل بالك يا شمس ، فعائلتي مُتفهّمة ، و يعرفون انني بحاجة لقضاء الوقت بعيداً في بعض الأحيان . "

شمس :
" أما زوجتك فلا أعلم شيئاً بشأنها ،
و لكنّك تمتلك ولدين مُختلفين عن بعضهما تماماً ، كاختلاف الليل و النهار تماماً . "

فقلت لنفسي : ما الذي يتحدّث عنه هذا الغريب ، و من أين يعرفنا أصلاً ، ثم تابع حديثه لوالدي :

" إن ابنك الكبير سلطان ، يحذو حذوك ، أما ابنك الأصغر فأرى انه يسلك طريقاً مُختلفاً تماماً ؛ طريق يملؤه الغضب و الحسد . "

استعرتُ غضباً لمّا سمعتُ ما قاله هذا الدرويش ، كيف يتجرّأ أن يتحدث عني بسوء هكذا ، و هو لم يلتقي بي أبداً ؟

شمس :
" إن ابنك الآن يعتقد أني لا أعرف ، لكنني أعرفه حق المعرفة .
و هو الآن يجلس خلف الباب يراقبي ، و لكن لا يظن أنني لا أدري ، فأنا أراقبه كذلك . "

أحسستُ أن دمي سينفجر من عروقي ، و رأسي يدور من حولي ،

و بدون وعي مني ، انتفضتُ و توجهتُ نحو باب المكتبة ، و دخلتُ إليها كالمجنون ،

تفاجأ أبي في البداية لكن سرعان ما حلّ غضبه محلّ صدمته ......

الرومي : " علاء الدين !! ما قلة الحياء هذه ؟
هل حصل شيء لعقلك ؟ ، كيف تقاطعنا بهذا الشكل ؟ "

و دون ان التفت لسؤال والدي ، قلت له و أنا أشير إلى شمس :
" الم تسمع ما يقوله هذا الدرويش عني بسوء يا أبي ؟؟ "

لم يقل لي أبي أي شيء ، بل نظر إلي بزاوية عينيه ، و كأني شيء غير مرغوب به الآن ....

ثمَّ تابعتُ كلامي لأبي و أنا اظن أني لا افعل غير الصواب ، و أن أبي سوف يستمع لي ......

علاء الدين :
" أبي ، إنَّ الجميع يشتاق إليك ،
كيرا تشتاق إليك ، و كذلك مريديك و أحبائك ،
و انتَ تُدير ظهرك لهم جميعاً ، لأجل درويش غريب ، غير معروف ما هو أمره ؟؟ "

" علاء !
لا تتجرّأ على قول ما قلتَ ثانية ...
و الآن اخرج دون نقاش ، و فكر بما فعلته ، و لا تُحدّثني ابداً قبل أن تُدرك ما فعلت ."

" لكن يا أب ... "

" اخبرتك ان تخرج حالاً يا علاء . "

و هكذا منعني ابي من متابعة كلامي ، و تمّ طردي من المكتبة مُذنباً في ذلك اليوم ،

حينها ادركتُ شيئاً واحداً ، و هو أن حياتنا لن تعود كما كانت من قبل ، بعد قدوم هذا الدرويش إلينا .

.........

" الرومي "

عندما سألني شمس التبريزي في ذلك اليوم عن النبي محمد الكريم ، و عن ذلك الرجل ،
شعرتُ أن بساطاً قد انبسط أمامي ، لكي يَدُلّني على طريق الحقيقة ،

و فهمتُ تماماً انّ شمس لم يكن يقصد أن يقارن بينهما أبداً ،
بل كان يريدُ ان يعرف مدى استعدادي لكي أمحو شخصيتي ، و أذوب في بحر العشق الإلهي ،
و بين الكلمات التي نطقها شمس عندما سألني ،

كانت هناك احرف مختبئة بين طيّات كلماته ، قد فهمتها الآن ، و التي تعني :
" ماذا عنك أيها الخطيب العظيم ؟
في اي طريق أنتَ الآن ؟ ، و أين وصلتَ فيه ؟  ،
و ما هو حجم كوبك ؟
و هل لديك الشجاعة اللازمة للمضي قُدماً في طريقنا معاً ؟

......
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي