26

" فتاة العيون اللوزيّة - ورد -  "  .

رحت أركض بجنون ، نحو أحد الشوارع الفرعية ،
و شعرت أن قلبي سوف ينفجر من شدة الألم بسبب الركض ،
و كان من الصعب عليَّ التنفس ، فأنا لم أعد قادرة على التقاط انفاسي بسهولة ،

و بالكاد استطعت استيعاد ما حصل معيَ قبل قليل ،
فقد كنت جالسة استمع إلى خطبة الروميّ ،
و أحسستُ بالسكينة تغمرني من كلّ قلبي ،
و كأنني أطوف مع الغيوم ،

إلّا عندما داس الشاب الذي بجانبي على طرف الوشاح الذي كنت أغطي وجهي به ،

فظهر شيء من وجهي ، و شعري ،
و بسرعة أعدت الوشاح إلى ما كان عليه ، واثقة أن أحداً لم يلحظ شيئاً ،
و عدت أستمع لخطبة الروميّ باهتمام ،

لكنَّي رأيتُ رجلاً من الحاضرين بقي ينظر إليَّ بعدها ، و كان شخصاً ضخم البنية كالوحش

رأيته يهمس في أذن بضعة رجال من حوله ،
فتجاهلته ، و بكلّ غباء أغمضتُ عيني ظناً مني أنهم سوف ينسون أمري بعد بُرهة و سوفةيختفون في الظلام ، كما يفمّر الأطفال تماماً .

ثمّ شقَّ الرجل الضخم طريقه نحةي ، و معه الرجال اللذين همس لهم ،

ثمَّ أمسكني برعونة و قال لي :
" ما الذي تفعله كافرة وسخة هنا ؟ . " 

و بذهول بعدها ، أدركتُ أنّه أحد الزبائن اللذين يأتون إليّ في السوق بحجة شراء الأقمشة ، و لكن غايتهم كانت شيء آخر

و ها هو الآن في المسجد ، كرجل تقي صالح !!! ،

ثم قام بسحبي إلى الباب ، و رجوته بصوت متقطّع أن يدعني و شأني ،

لكن بلا فائدة ، فلا أظنُّ أنّه قد سمعني ، و تبعه الرجال اللذين اجتمعوا معه ، و جاء بضعة رجال آخرين .

و بعد تلك الجلبة ، نظر الحاضرون إلينا متساءلين ، لكنهم لم يهتمّوا بعد ذلك .

و كنت أظن أنهم سوف يدعوني و شأني ، بعد أن أخرج من المسجد ، و أنني سوف أستطيع الهرب فوراً ،
لكني ما لبث ان أدركت انني كنت مخطأة تماماً ،
فهم قد تعاملوا معي بهدوء في البداية ، لأننا كنا في المسجد في حضرة الخطيب و الحاضرين ،

و بعد أن أصبحنا خارج المسجد ، كشّروا عن أنيابهم ، و لم يعد هنالك ما يردعهم ،
كانوا رجال فظين ، مرعبين ، و غاضبين بجنون تماماً ،
و راحوا ينهالون عليّ بكلمات فظيعة ، يقشعرّ البدن منها .

و سرعان ما تحولوا إلى برابرة ، لا يختلفون كثيراً عن المغول ، اللذين انتشرت شائعات الرعب و الوحشية عنهم بكلّ مكان ،

تمنيت لو يهبّ سمسم لمساعدتي و تخليصي من هؤلاء الوحوش .

و مع أنني قد عانيت الأمرّين في حياتي حقاً ،

إلّا أنَّ حزناً من نوع آخر تمكلّني اليوم ،
فبعد كل تلك السنوات التي كنت بعيدة فيها عن الله ،
و لم أتجرّأ على الذهاب إلى كنيسة أو إلى مسجد بعد الذي حدث لي ،
و اليوم أخيراً استجمعت قواي و أتيت لمكان طاهر ،

لكن هذا هو جزائي ؟؟  ،
الوقوع بين يدي هؤلاء بلا رحمة !!!

كانت الخيبة  تملؤني بالكامل حقاً ،
و بعد ساعدني ذلك الدرويش الذي أتى كالمعجزة ،
هرعت هاربة ، و رحت اركض في شوارع قونية دون توقف ، و قد التفتُ عدّة مرّات لكي أتأكد أن أحداً لم يلحق بي منهم ، و ابتعدت كثيراً ،
و لمّا اقتربتُ من أحد الشوارع الرئيسية ، احسيتُ أن أحداً بدأ يتبعني ،

لكني متأكدة أنهم لم يلحقوا بي في البداية ،

انا على وشك الموت من الرعب و التعب الآن ،

و عندما كنت على وشك الوصول إلى السوق .......

" ورد ، توقفي ، أين أنتِ ذاهبة . "

عندما سمعتُ هذه الصوت ، ادركت انه لم يكن سوى سمسم ،
كان يلحق بي و يلهث بجنون ،

فقد كان امراً بالغ الصعوبة على بدين مثله أن يركض هكذا .

استندت إلى حائط قديم لكي آخذ نفساً ، و شعرت براحة كبيرة أنّه كان سمسم ، و لا أحد غيره .

سمسم : " أخبريني ماذا حدث ؟
لقد طلبتِ مني انتظارك عند الشارع الرئيسي ،
و لكنك عدتي و انت تركضين كالمجنونة ،
دون أن تقولي لي شيئاً !!! . "

فقلتُ له بصوت جافّ و متألّم :
كنتَ على حق ، لم يكن عليَّ المجيء إلى المسجد من البداية ،
فهو مكان لا يناسبني أبداً  .

" هذا غير صحيح أبداً ، لا تقولي ذلك . "

التفتُ بذهول بعد سماعي لهذه الكلمات ، 
لقد كان ذلك الدرويش الذي ساعدني قبلاً ......

اندفعتُ نحو الدرويش محاولةً تقبيل يديه ، لكنه أوقني بقوله " أرجوكِ لا تفعلي هذا . "

فقلتُ له :
" كل الفضل لك ، و لا اعرف كيف أشكرك ،
أنا مدينة لك حقاً . "

شمس : " أنتِ لا تدينين لا لي و لا لأحد بأيّ شيء ،
ثمَّ إنّ الفضل له وحده . "

ثمَّ عرّفني باسمه قائلاً : " أنا أدعى شمس التبريزيّ . "

و لسبب ما ، ابتسم سمسم ابتسامة عريضة بوجه ذلك الدرويش ، و كأنه صديق حميم قديم .

ثمَّ قال ذلك الدرويش كلمات ما سمعتُ شيئاً مثلها في حياتي ، و قد كانت الأعجب ! ......

" يبدأ بعض الناس حياتهم ، و جوهرهم ناصع البياض ، مثل حُبيبات الثلج ، و ربما اشدّ ، لكنَّ هذا البياض قد يبهت بمرور الزمن أحياناً ،
و يفقد الجوهر بريقه و توهّجه ،

و أرى أنكِ أحد أؤلئك الأشخاص .

أتعلمين لمَ قد فقدتِ ذلك البريق ؟  ،

هذا لأنك ظللت ترددين في نفسك أنكِ شخص فاسد و قذر من الداخل و الخارج ، مما جعل هالتك ناصعة البياض تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى الرمادي الباهت .  "

ورد : برأيكَ لستُ قذرة ؟؟    ،
أنتَ لا تعلم بأي شيء مما حصل معي أيها السيّد .

شمس : " لمَ لا احكي لكِ شيئاً قد حصل فعلاً ؟  ،

ذات يوم كانت هناك امرأة رأت كلباً يلهث من شدّة العطش حتى الموت ، في صيف شديد الحرارة
فحملت حذائها ، و وضعت به ماءً من بئر قريبة ، و سقت الكلب ،

فكان جزائها ان تدخل الجنة  ،

و قد كانت ذنوبها ربّما ملئ الجبال ، لكنّ الله غفر لها كل ذنوبها ، من ذلك العمل  . "

فقلت له : " صدقني لو اطعمت و سقيت كل حيوانات قونية ، فأنا لن أتطهّر من قذارتي ، و لن أكون كالبقيّة أبداً . "

و مع انني فهمت ما كان يقصده شمس بكلامه ،
لكني لم استطع أن أصدّق أو أفكّر حتى ، أنه هناك شيء يمكن ان يُكفّرَ عني في هذه الحياة .


شمس : " و كيف لكِ أن تكوني متأكّدة من ذلك ؟ ، الله وحده هو العليم بذلك .

ثمَّ ما الذي يجعلك تظنين أنَّ أؤلئك الرجال هم أفضل منكِ ، لمجرّد دخولهم المسجد ؟ . "

فقلت له بيأس :
حتى لو كان الأمر كذلك ، هم لن يعترفوا به ،
و من الذي سوف يُقنعهم ،
أنتَ مثلاً ؟ .

شمس : " لا تجري الأمور كذلك ، بل أنتِ من سوف يقنعهم .
لا يوجد ما يُسمّى " هم " ، أو " أنا " ، فنحن جميعاً شيء واحد في هذا الكون . "

و قبل أن أسأله عن معنى ما قاله ، قال لي :

" و إليكِ واحدة من قواعدي الأربيعين :

إن أردتَ أن تغيّر الطريقة التي يعاملك الناس بها ، فعليك بتغيير طريقة معاملتم لنفسك أولاً ،

و إن لم تتعلّم كيف تُحبّ نفسك ، فلا سبيل للحبّ أبداً .

لكن عندما تبلغ تلك المرحلة ، سوف يستوي عندك مدح الناس ، أو ذمّهم لك ، و بذلك سوف ترتقي كلّ الارتقاء . "

صمت الدرويش قليلاً و بعدها أضاف بقوله :
" إذا لم يحترم الإنسان نفسه و يقدرها ،
كيف له أن يلوم الآخرين على عدم احترامهم لها ؟ . "

و بينما هو يتحدّث إليَّ عن نقائي و صفائي ،
و كيف أنني لا أختلف عن أي أحد من الآخرين ،

بدأت جميع ذكرياتي السوداء بالمرور أمامي ، متزاحمة جميعها في ذهني ، لا ادري بأي منها أخبره بالأول ،

و في النهاية لم أستطع قول أي شيء ، ما الذي سأقوله له ؟ ،

أنني نادمة على مغادرة قريتي ،
و على أي حال ، بعد فترة من مغادرتي ، سمعتُ الناس يقولون أنَّ المغول قد هجموا عليها ، و عاثوا فيها الفساد ،

لذا لا أظنّ أنني لو بقيت هناك ، سوف يتغيّر مصيري كثيراً ،
أتمنّى لو أنني أنا من ذهبتُ مع أمي ، عوضاً عن توأم أخي الذي توفّي ،
متأكّدة أنني سوف أكون الأكثر سعادة و حظاً .

و بينما أنا في خوض هذه الأفكار ، قاطعني شمس و كأنّه قد قرأ أفكاري تماماً .....

شمس : " ما قد حدث في الماضي ، عبارة عن متاهة ، لا خلاص منها أبداً إلّا بأن تعيشي هذه اللحظة ، اللحظة بذاتها . "

و بعدها أخرج الدرويش منديلاً أبيض حريرياً ، و قام بإعطائه لي ، و قال أن رجلاً طيباً قد أعطاه له مز بغداد ،

و قال أيضاً أنني كلّما نظرتُ لهذا المنديل ،

سوف أتذكّر أنني ناصعة البياض هكذا المنديل ،

و أنّي أحمل آية من آيات الله في داخلي .

ثمَّ قال لي :
" اتركِ المكان الذي أنتِ فيه الآن . "

فارتعبتُ من مُجرّد ذكر هذه الكلمات ، و قلتُ له :

ماذا سأفعل ، ، و أين سأذهب ؟

لا أريد تكرار ما حصل معي في الماضي .

شمس :
" تلك لن تكون بمشكلة أبداً ،
الآن عليكِ التركيز على أوّل خطوة فقط ، فهيَ الأهمّ و الاصعب ،

و بعدها طريقكِ سوف يقودكِ لقدركِ

لا تسيري مع التيار أبداً ، بل كوني أنتِ ذلك التيار . "

دون أن أسأله ، عرفتُ أنها واحدة من قواعده التي ذكرها بالقواعد الأربعين .

.................
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي